خط أنابيب نفط أقيم سراً قبل عقود بين إيران وإسرائيل، أخرجه اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي من السرية إلى العلن، يمثل تهديداً مباشراً لدخل مصر من قناة السويس، ويمثل مكسباً لصالح تل أبيب، فما قصته، وماذا انكشف منه حتى الآن؟
نشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً بعنوان: "صفقة الإمارات تعزِّز خط أنابيب النفط الإسرائيلي الذي بُنِيَ سراً مع إيران"، تناول تاريخ ذلك المشروع وتأثيره سلباً على الاقتصاد المصري وأموراً أخرى لها علاقة بالنفط والغاز في المنطقة.
ما أصل قصة ذلك الخط السري؟
قد يكون خط أنابيب النفط الصحراوي الذي كانت تشغِّله إسرائيل من قبل كمشروعٍ مشتركٍ مع إيران مستفيداً رئيسياً من اتفاق السلام مع الإمارات، الذي أُبرِمَ بوساطةٍ من ترامب. ومع إلغاء الإمارات المقاطعة العربية لإسرائيل، التي امتدَّت طيلة ثمانية عقود -ومن المُرجَّح أن تحذو دول الخليج الأخرى الغنية بالنفط حذوها- فإن الدولة اليهودية على وشك أن تضطلع بدورٍ أكبر كثيراً في تجارة الطاقة بالمنطقة، وفي سياسات النفط، وفي استثمارات كبرى شركات النفط.
يبدأ الأمر بخط أنابيب لم يكن يُستَخدَم لكنه استراتيجيٌّ للغاية، ويقول المديرون الإسرائيليون لشركة خط أنابيب إيلات-عسقلان (ويُطلَق عليها اختصاراً EAPC)، الذين يخرجون من وراء الظلال بحذر، إن الأنابيب التي يبلغ طولها 158 ميلاً من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط تقدِّم بديلاً أرخص ثمناً من قناة السويس المصرية، وهي أيضاً خيارٌ للوصول إلى شبكة خطوط الأنابيب العربية التي تنقل النفط والغاز، ليس فقط إلى المنطقة، بل أيضاً للموانئ البحرية التي تزوِّد العالم.
وقال إسحاق ليفي، الرئيس التنفيذي لشركة خطوط الأنابيب، لمجلة Foreign Policy الأمريكية: "يفتح ذلك الكثير من الأبواب والفرص". ويعتقد أن خط الأنابيب، الذي يربط ميناء إيلات جنوب إسرائيل بمحطة الناقلات في عسقلان على ساحل البحر المتوسط، يمكن أن يقضي على حصةٍ كبيرةٍ من شحنات النفط التي تتدفَّق الآن عبر قناة السويس.
وفي حين ركَّزَ الكثير من الضجيج حول الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية على قطاعاتٍ أخرى مثل التكنولوجيا والرعاية الصحية والتعليم والسياحة، فإن خط أنابيب إيلات-عسقلان يجلب الصفقة إلى عالم النفط، القلب النابض لاقتصاد دول الخليج. والآن، بعد أن أذاب الإماراتيون الجليد، صارت فرص صفقات الطاقة العربية-الإسرائيلية واسعة ومُربِحة، وتتنوَّع من الاستثمار في خط الأنابيب الإسرائيلي نفسه، إلى تكييفه من أجل نقل الغاز الطبيعي، أو توصيله بخطوط أنابيب عبر السعودية والشرق الأوسط الأوسع. وقال مارك سيفيرز، سفير الولايات المتحدة السابق في عمان، حيث قام رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بزيارةٍ رائدة قبل عامين: "إذا أجروا شراكاتٍ مع إسرائيليين، ستصبح هناك إمكانات هائلة لجميع أنواع الأعمال".
تأميم قناة السويس وعلاقته بالمشروع
قبل أكثر من ستين عاماً، حين تم مد خط الأنابيب، كان خط أنابيب إيلات-عسقلان بمثابة مشروع وطني ضخم يهدف إلى ضمان إمدادات الطاقة إلى إسرائيل وأوروبا في أعقاب أزمة قناة السويس عام 1956، وكان الرئيس المصري السابق جمال عبدالناصر قد فَرَضَ قيوداً على الشحن عبر قناة السويس، ما أدَّى إلى غزو القوات الإسرائيلية والبريطانية والفرنسية، وكان للجهود اللاحقة التي بذلتها مصر لإغلاق الممر المائي الاصطناعي، البالغ طوله 120 ميلاً، دورٌ أيضاً في الحروب الإسرائيلية العربية في 1967 و1973.
جاء معظم النفط المُتدفِّق خلال خط الأنابيب من إيران، التي كانت لديها علاقات وثيقة، لكن سرية مع إسرائيل، لعقودٍ من الزمن، في ظلِّ حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وفي العام 1968 سجَّلَت الحكومتان الإسرئيلية والإيرانية ما أُطلِقَ عليها آنذاك شركة خط أنابيب إيلات-عسقلان، باعتبارها مشروعاً مشتركاً بنسبة 50% إلى 50% من أجل إدارة الصادرات من النفط الإيراني الخام عبر إسرائيل وما بعدها عن طريق الناقلات إلى أوروبا.
ويبدو أن الكثير من تدفُّق النفط في البداية جرى بواسطة التاجر الملياردير مارك ريتش، الذي اتُّهِمَ لاحقاً في الولايات المتحدة بالاستمرار في التجارة مع إيران بعد الثورة الإسلامية عام 1979، حين أُعلِنَت إيران دولةً مُعادية. وحصل ريتش على عفوٍ من جانب الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، الذي قال إنه تأثَّر جزئياً بمناشدات القادة الإسرائيليين ومسؤولي الاستخبارات، وقال داعمو الملياردير ريتش، بمن فيهم رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق شيمون بيريز وإيهود باراك، إنه أنقذ الدولة اليهودية مراراً من جهودٍ تسعى إلى تدميرها، ومات ريتش، الذي لم يُدن قط، في العام 2013.
وأمَرَت محكمةٌ سويسرية إسرائيل في العام 2015 بأن تدفع تعويضاً لإيران يبلغ حوالي 1.1 مليار دولار، كحصةٍ من الأرباح من المِلكية المشتركة لخط الأنابيب، منذ أن قَطَعَت الدولتان الخصمتان العلاقات بين بعضهما في العام 1979، لكن إسرائيل رفضت دفع التعويض.
لماذا يمثل بديلاً أرخص؟
وبينما تم مدّ خط الأنابيب الرئيسي للشركة، البالغ قطره 42 بوصة، من أجل نقل النفط الإيراني شمالاً إلى البحر المتوسط، فإنه الآن يقوم بمعظم العمل في الاتجاه المعاكس، ويمكن لخط الأنابيب ضخ النفط الذي يُفرَّغ في عسقلان من السفن المُرسَلة من قِبَلِ دولٍ مُنتِجة، مثل أذربيجان وكازاخستان، إلى ناقلاتٍ في خليج العقبة من أجل النقل إلى الصين أو كوريا الجنوبية أو بلدانٍ أخرى في آسيا، وبالتوازي مع خط الأنابيب هذا، يعمل خط أنابيب مقاسه 16 بوصة حاملاً المنتجات البترولية مثل البنزين والديزل، وتجني الشركة أيضاً الأموال من تشغيل صهاريج التخزين في محطات الشحن الخاصة بها.
تكمن ميزة خط الأنابيب عن قناة السويس في قدرة المحطات في عسقلان وإيلات على استيعاب الناقلات العملاقة التي تهيمن على شحن النفط اليوم، لكنها أكبر من أن تتناسب مع قناة السويس، ويمكن للسفن المعروفة في مجال النفط باسم VLCCs، أو ناقلات النفط الخام الكبيرة جداً، نقل ما يصل إلى مليوني برميل نفط، أما قناة السويس التي يبلغ عمرها 150 عاماً فهي فقط عميقة وواسعة بما يكفي للتعامل مع ما يُسمَّى سفن سويزماكس، التي لا تتعدى سعتها نصف سعة ناقلات النفط العملاقة، ويتعيَّن على تجَّار النفط استئجار سفينتين عبر القناة مقابل كلِّ سفينة يرسلونها إلى إسرائيل. ومع الرسوم التي تتراوح من 300 ألف إلى 400 ألف دولار باتجاهٍ واحد عبر قناة السويس، يقول ليفي إن خط الأنابيب يسمح لإسرائيل بتقديم خصمٍ كبير.
مشروع سري في كل تفاصيله
لطالما كانت أعمال الشركة أحد أسرار إسرائيل التي لا تبوح بها، وحتى اليوم لا تصدر شركة خط أنابيب إيلات-عسقلان أيَّ بياناتٍ مالية، ويقول ليفي إنه لا يمكنه الإفصاح عن أسماء العملاء، رغم أنه يقول إنهم يتضمَّنون "بعض الشركات الكبرى في العالم"، والمعلومات القليلة التي عُرِفَت علناً لم تأتِ إلى دائرة الضوء إلا نتيجةً للمعارك القانونية التي أعقبت الانهيار في خط الأنابيب عام 2014، والذي تسبَّبَ في أكبر كارثةٍ بيئية في تاريخ إسرائيل، حيث تسرّب 1.3 مليون غالون من النفط الخام في محمية عين عبرونة الطبيعية الصحراوية.
وإذا كانت بيانات شركة خط أنابيب إيلات-عسقلان غير شفَّافة، فإن الجهود التي يبذلها عملاؤها من أجل إخفاء هوياتهم من خلال عمليات التسجيل المُتعدِّدة وإخفاء الشركات الأخرى تُعتَبَر جهوداً أسطورية، فالمقاطعة التي فرضتها السعودية والإمارات وجيرانهما المنتجون للنفط تعني أن الناقلات التي تعترف بالرسم في إسرائيل ستُمنَع من عمليات التحميل المستقبلية في الخليج، ما يؤدِّي إلى تدمير أعمال هذه الناقلات فعلياً. التفاصيل سريَّةٌ للغاية، ولكن الطرق التي يمكن للسفن أن تحجب بها أنشطتها بشكلٍ عام تشمل إيقاف تشغيل أجهزة الإرسال والاستقبال وإعادة الطلاء وإعادة التسجيل وتزوير سجلات الرسو.
التطبيع يعيد إحياء المشروع
أخَبَرَ ليفي، القبطان المتقاعد في البحرية الإسرائيلية، مجلة Foreign Policy بأن السرية المطلوبة جعلت مسار خط الأنابيب باهظ التكلفة لمعظم الشحنات، وقال: "كان على العديد من السفن التي جاءت إلى إيلات وعسقلان القيام بهذه العمليات حتى لا تُقاطَع في هذا الميناء أو ذاك، وإذا كانت السفينة تخشى أن تُدرَج في القائمة السوداء وأن تخضع للمقاطعة، فسوف يتم تسعيرها. كلُّ هذا يكلِّفني مالاً، لذلك سيرتفع سعر النقل".
يتحسَّن نموذج عمل شركة خط أنابيب إيلات-عسقلان بشكلٍ كبيرٍ مع تراجع المقاطعة العربية، وقال ليفي: "إذا انخفضت المخاوف بشأن السرية بشكلٍ كبير فإن السعر سينخفض بشكلٍ كبير هو الآخر". وأضاف: "ثم يصبح ذلك مجدياً من الناحية الاقتصادية وأكثر فائدة". بمجرد إزالة الحواجز السياسية لاستخدام إسرائيل كمركزٍ لإعادة الشحن، فإن الأعمال التجارية قد تزدهر، وبعد إضفاء الطابع الرسمي على الاتفاق الإماراتي-الإسرائيلي من المُرجَّح أن يتبعها أعضاءٌ آخرون في مجلس التعاون الخليجي، هما على الأرجح عمان والبحرين. وأشارت السعودية إلى أنها لن تقيم روابط رسمية حتى يصل النزاع الفلسطيني إلى حل، رغم أن علاقاتها التجارية مع إسرائيل وفيرة ومتنامية.
ويقول ليفي إن هدفه هو أن يستحوذ خط الأنابيب على ما بين 12 إلى 17% من أعمال النفط التي تستخدم قناة السويس الآن، وبسبب القيود التي تفرضها القناة، يُضخُّ الكثير من النفط الخام الخليجي المُتَّجِه إلى أوروبا وأمريكا الشمالية عبر خط أنابيب السويس-البحر المتوسط في مصر، والذي تمتلك فيه السعودية والإمارات حصة، ومع ذلك، يعمل خط الأنابيب المصري في اتجاهٍ واحدٍ فقط، ما يجعله أقل فائدةً من منافسه الإسرائيلي، والذي يمكنه أيضاً التعامل على سبيل المثال مع النفط الروسي أو الأذربيجاني المُتَّجِه إلى آسيا.
سيكون الطرف الخاسر في ذلك هو مصر، التي ستشهد فقدان الأعمال، وستكون لديها سيطرةٌ أقل على الأسعار الآن مع وجود منافسة، وأما الشركة الإسرائيلية، فحتى مع صداقاتها الجديدة مع الخليج، فإنها بحاجةٍ إلى توخي الحذر بشأن التدخُّل في مصادر الدخل لمصر، أول دولة عربية عقدت سلاماً مع إسرائيل في العام 1979، وواحدة من أفقر هذه الدول. يقول السفير السابق سيفيرز: "لا أعتقد أن ذلك سيُسعِد المصريين".