من جديد عادت قضية الحد الفاصل بين حرية التعبير وبين الإساءة للدين والتحريض على الكراهية تجاه أتباع ديانة ما إلى الواجهة بعد إعادة صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية نشر رسوم كاريكاتيرية مسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، فأين تنتهي حرية التعبير وتبدأ حرية المعتقد؟ وهل هناك اختلاف بين معاداة السامية وانتقاد إسرائيل؟
كيف بررت الصحيفة قرارها إعادة النشر؟
مع بدء محاكمة مشاركين مفترضين في الهجوم الإرهابي الذي تعرضت له المجلة الفرنسية الساخرة قبل أكثر من خمس سنوات وأوقع 12 قتيلاً من هيئة تحريرها، قررت، الأربعاء 2 سبتمبر/أيلول، أن تعاود نشر الرسوم الكاريكاتيرية التي تسخر من الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، التي يرجع تاريخ نشرها لأول مرة في صحيفة دنماركية إلى ما قبل 15 عاماً، وتسببت في إغضاب المسلمين حول العالم، كما أثارت قضية حرية التعبير وحدودها ومعناها.
تعاود مجلة شارلي إيبدو الفرنسية الساخرة نشر رسوم تسخر من النبي محمد أثارت موجة غضب في العالم الإسلامي، وذلك مع بدء محاكمة مشاركين مفترضين في الهجوم الذي تعرضت له عام 2015 وأوقع قتلى. وفي مقال صاحب الرسوم التي نشرت على غلاف المجلة، كتب رئيس التحرير لوران سوريسو "لن ننحني أبداً. لن نستسلم"، ومن بين هذه الرسوم رسم يصور النبي محمد معتمراً عمامة على شكل قنبلة يتدلى منها فتيل الإشعال.
وفي مطلع يناير/كانون الثاني 2015، قُتل 12 شخصاً، من بينهم بعض أشهر رسامي "شارلي إيبدو"، عندما اقتحم سعيد وشريف كواشي مقر المجلة في باريس وأمطرا المبنى برصاص بنادقهما الآلية، وفي مواجهات متفرقة، قتلت الشرطة الشقيقين شريف وسعيد ومسلحاً ثالثاً قتل خمسة أشخاص في الساعات الثماني والأربعين التي تلت الهجوم على شارلي إيبدو، لكن المحاكمة التي بدأت الأربعاء تخص 14 من شركائهم المزعومين.
ردود فعل غاضبة وانقسام الآراء
بدأت فصول القصة قبل أكثر من 15 عاماً في الدنمارك، عندما نشرت صحيفة يولاندس بوستن تلك الرسوم المسيئة لنبي الإسلام، واستفزت نحو ملياري مسلم يمثلون أكثر من ربع سكان الكرة الأرضية، ونتج عنها مظاهرات غاضبة وحرق لقنصليات وسفارات الدنمارك في بعض العواصم العربية والإسلامية حول العالم، كما انطلقت حملات مقاطعة للمنتجات الدنماركية شهدت مشاركة شعبية واسعة في العالمين العربي والإسلامي.
وانقسمت الآراء بشأن نشر تلك الرسوم ما بين من يراها من حق الصحيفة الدانماركية كجزء من حرية التعبير التي تكفلها القوانين، وكان هذا المبرر -ضمن أسباب أخرى- هو ما دفع بعض الصحف الأوروبية الأخرى لإعادة نشر تلك الرسوم المسيئة في العام التالي كنوع من التضامن والتمسك بما يرونه حرية تعبير، وكانت المجلة الفرنسية الساخرة شارلي إيبدو من ذلك الفريق.
لكن فريقاً آخر من الإعلاميين أيضاً استنكر نشر الرسوم المسيئة للرسول محمد معتبراً إياها تحريضاً على الكراهية ضد أتباع الدين الإسلامي ووصمهم بالإرهاب، وكتب الصحفي الألماني في موقع دويتش فيله فولكر فاغينير منتقداً المظاهرات التي شهدتها ألمانيا تضامناً مع شارلي إيبدو بعد الحادث الإرهابي الذي يعرضت له، واصفاً "المطالبة بالعدالة بالنسبة لبعض المشاركين في تلك المظاهرات بأنها مجرد نفاق"، ومضيفاً أنه "عندما يتم تفسير التنوع الثقافي بالعطل والأكل في المطاعم فإن التضامن مع المهاجرين المسلمين يتحول إلى طقس معتاد".
وأضاف فاغينير أن "فئة كبيرة ممن حملوا هذه الأيام شعار "أنا شارلي"، بالبرغم من أنه لم يسبق لهم أن سمعوا بهذه الصحيفة من قبل، يرسلون أبناءهم إلى مدارس بعيدة عنهم ببضعة كيلومترات حتى يتفادوا تدريس أبنائهم في مدارس مليئة بالأجانب، أو يقومون وراء الكواليس بالضغط على المسؤولين في البلدية حتى لا يتم إنشاء مراكز إيواء اللاجئين بالقرب من شقتهم الفاخرة. إنه تسامح ضعيف ولا يتعدى أن يكون موقفاً ليبرالياً من أجل التباهي لا غير".
حرية التعبير والتعددية والديمقراطية
لابد في البداية من تعريف حرية التعبير بشكل دقيق وحاسم من ناحية ثم تطبيق تلك الحرية على الجميع دون تمييز حتى تتحقق العدالة، وهذا ما عبر عنه كثير من الباحثين والحقوقيين الغربيين، انطلاقاً من قضية نشر الرسوم المسيئة للرسول ومقارنتها بقوانين معاداة السامية التي تبنتها كثير من الدول الغربية وأصبحت سلاحاً ضد من يجرؤ على توجيه أي انتقاد لإسرائيل.
جينيفر فينيسا فنينجا، أستاذة الدراسات الدينية والثيولوجية في جامعة سانت إدوارد في أوستين تكساس، نشرت مقالاً في موقع ذا كونفرسيشن الأمريكي تناولت فيه الخط الفاصل بين حرية التعبير واحترام معتقدات الآخرين، وقالت إن "التعددية الثقافية والدينية هي القيم الجوهرية التي يجب على الممارسة الديمقراطية أن تسمو للوصول إليها، وبحسب دارسين مثل ديانا إيك من جامعة هارفارد، فإن التعددية تتخطى مجرد القبول بالتنوع لتصل إلى تحقيق التواصل والحوار بين المختلفين، ومن المستحيل تحقيق هذا النوع من التعدد لو أننا طوّعنا حرية التعبير بشكل متعمد لاستفزاز وتحقير شأن الآخرين".
وفي هذا السياق، يرى كثير من الدارسين غير المشتغلين بالعمل السياسي الذي تحكمه قواعد متلونة تخدم أغراض السياسيين وطموحاتهم بالأساس، أن نشر الرسوم المسيئة للرسول يتخطى الحدود الفاصلة بين حرية التعبير وبين احترام الآخرين من جهة، بل ويقع تصنيفه في إطار انتشار الإسلاموفوبيا أو العداء للإسلام في الغرب والذي أصبح ظاهرة خطيرة في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول الإرهابية في الولايات المتحدة.
وظاهرة الإسلاموفوبيا على مدى العقدين الماضيين أصبحت قضية غير خافية على أحد، خصوصاً بعد بروز طبقة من السياسيين المعادين للإسلام والمسلمين وصل بعضهم إلى مناصب قيادية كدونالد ترامب في الولايات المتحدة، وبوريس جونسون في بريطانيا، وماتيو سالفيني في إيطاليا وغيرهم، بل إن واحدة من هؤلاء السياسيين وهو السياسي الهولندي جيرت فيلدرز أعلن عن مسابقة لرسم المزيد من الرسوم المسيئة للرسول محمد عام 2017 وتدخلت السلطات الهولندية وتم إلغاؤها، وعاد مرة أخرى في العام التالي 2018 وأعلن مرة أخرى عن تنظيمها ولم تتم أيضاً، فيما رآه محللون بأنه تحرُّك رخيص لاستعادة شعبيته التي تراجعت بين اليمين المتطرف.
فإذا كان نشر الرسوم المسيئة يقع ضمن أفعال الإسلاموفوبيا فهو بلا شك يتخطى حدود حرية التعبير، بحسب كثير من الدارسين والحقوقيين الغربيين غير المسلمين.
انتقاد إسرائيل وحرية التعبير
قضية الرسوم المسيئة للرسول وذريعة حرية التعبير فتحت الجدل مرة أخرى بشأن قوانين معاداة السامية والتي تم إقرارها قبل عقود حماية للرواية الإسرائيلية الخاصة بالهولوكست وهي الجريمة البشعة التي ارتكبتها ألمانيا النازية بحق اليهود، لكن مع ظهور أصوات بعض المؤرخين الساعين للفصل بين الأساطير والحقائق في تلك القضية، أقرت الأمم المتحدة ودول غربية قوانين تجرم أي تشكيك فيما تقوله إسرائيل بشأن الهولوكست وأفران الغاز.
وكانت فرنسا من أوائل تلك الدول وأقرّت قانون "غيسو" الذي يجرم إنكار الهولوكست أو مجرد التشكيك في أي من تفاصيله بحسب الروايات الإسرائيلية، وبموجب هذا القانون تعرض الكاتب الفرنسي الشهير روجيه جارودي للمحاكمة عام 1998، وشهدت تلك المحاكمة انقساماً كبيراً في الآراء: بين فريق يدين جارودي ويتهمه بمعاداة السامية بسبب كتابه "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" وفريق آخر يرى في المحاكمة نفسها خطراً داهماً على حرية التعبير وضوءاً أخضر لممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين والعرب دون أي احترام للقانون الدولي.
لكن قانون معاداة السامية لم يكن كافياً لإسرائيل في الواقع، فتواصل الضغط حتى تم استبدال معاداة السامية بمعاداة دولة إسرائيل، وهكذا أصبح توجيه الانتقاد لممارسات إسرائيل الاستيطانية والعنصرية يعرض صاحبه للمحاكمة في الولايات المتحدة وفي بعض الدول الأوروبية الأخرى.
ووصل الأمر إلى أن ترامب وقع أمراً تنفيذياً رئاسياً يأمر الوكالات الأمنية الفيدرالية بتطبيق تعريفه المثير للجدل لمعاداة السامية -يساوي فعلياً بين السامية وإسرائيل- على النقاشات التي تدور داخل الجامعات؛ بمعنى آخر الطالب الذي ينتقد إسرائيل ربما يتعرض للمحاكمة وإذا كان طالباً أجنبياً يتم إلغاء تأشيرته وترحيله، وهو ما يطرح تساؤلات بشأن تعريف حرية التعبير، وإذا ما كانت القصة ترتبط بالأساس بمن يمكنه فرض التعريف من وجهة نظره.