التوتر الحدودي بين الصين والهند ليس جديداً، فقد اندلعت حرب بينهما بالفعل قبل نحو ستة عقود، لكن هناك عامل جديد يجعل من التوتر الحالي كارثة تهدد العالم وهو طبيعة الحكومة في بكين ونيودلهي، إضافة للظروف الملتهبة على مسرح السياسة العالمية، فما قصة تلك القنبلة الموقوتة؟ وهل يمكن نزع فتيلها للأبد؟
ما قصة تلك الحدود غير المرسمة؟
يبلغ طول الحدود بين الهند والصين أكثر من 3440 كيلومتراً (2100 ميل)، وتتداخل بعض الأراضي التي يطالب البلدان بالسيادة عليها، وكثيراً ما تتصادم الدوريات الحدودية ببعضها، ما يؤدي إلى مصادمات عابرة، حيث لا يوجد ترسيم للحدود بين الجانبين، لكن يفصل بينهما "خط السيطرة الفعلية"، وهو التواجد الفعلي لقوات كل منهما على الأرض بعد الحرب التي اندلعت بينهما عام 1962.
ويتقابل جيشا البلدين، وهما من أكبر الجيوش في العالم، في نقاطٍ عدة، حيث أن "خط السيطرة الفعلية" غير محدد بوضوح بين الجانبين، كما تتسبب الأنهار والبحيرات والقمم الجليدية في تغيير الخط الفاصل بين الجانبين بين الحين والآخر، ما يقرّب الجنود من الدخول في مواجهة مباشرة.
ويرجع التوتر الحالي إلى يونيو/حزيران الماضي حين وقعت اشتباكات في وادي الغالوان في لداخ بمنطقة كشمير المتنازع عليها، وأشارت التقارير إلى أنه في أوائل مايو/أيار، نصبت القوات الصينية الخيام وحفرت الخنادق ونقلت المعدات الثقيلة، متوغلة بضعة كيلومترات داخل المنطقة التي تعتبرها الهند واقعة تحت سيادتها، وجاء ذلك التحرك بعد بناء الهند طريقاً بطول بضع مئات من الكيلومترات إلى قاعدة جوية على ارتفاعٍ عالٍ أعادت تشغيلها في 2008، والرسالة الواردة من الصين هذه المرة تبدو واضحة للمراقبين في دلهي: هذا ليس اقتحاماً روتينياً.
نزعة قومية متنامية
وهذا ما حدث بالفعل، حيث تجددت الاشتباكات مرة أخرى هذا الأسبوع وسط تبادل الاتهامات بين الطرفين وكل منهما يزعم أن الطرف الآخر هو من بدأ بالاستفزاز، ونظراً لكون الصين والهند أكبر دولتين في العالم من حيث عدد السكان (الصين نحو 1.45 مليار والهند نحو 1.38 مليار) ولكونهما تمتلكان أسلحة نووية يصبح هذا التوتر بمثابة قنبلة موقوتة تهدد العالم بكارثة لا أحد يعلم مداها حال انفجارها.
شبكة CNN الأمريكية نشرت تحليلاً مطولاً عن هذا التوتر اختارت له عنواناً لافتاً "تجدد الاشتباكات بين الهند والصين في جبال الهمالايا، إلى أي مدى يجب أن نشعر بالقلق؟"، وعدد التحليل عناصر هذا القلق والتي تتمثل في أنهما قوتان نوويتان تديرهما حكومتان قوميتان في وقت توترات اقتصادية وهذه كلها تمثل مكونات كارثة تنتظر شرارة تفجيرها.
وجهت الصين الاتهام للجنود الهنود بأنهم من تسببوا في الاشتباك الذي وقع هذا الأسبوع وأدى لسقوط عشرات القتلى بسبب ما زعمت أنه تعدٍّ من جانبهم على أراضٍ تقع تحت سيطرة بكين، وتلك الحادثة الأخيرة هي الثانية بعد اشتباك مماثل وقع في يونيو/حزيران وكان الأول بينهما منذ انتصار الصين في الحرب ضد الهند في أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني في نفس المنطقة الجبلية التي ترتفع آلاف الأمتار عن سطح الأرض.
ومرة أخرى بدأت المفاوضات بين الجانبين وسط دعوات دولية بالتهدئة، لكن تلك المحادثات بين المسؤولين الهنود والصينيين لم تصل لأي نتيجة وسط ارتفاع وتيرة الاستعداد العسكري بين الجانبين على طول "خط السيطرة الفعلي"، وهو ما يعني أن الاشتباكات قد تتكرر في أي لحظة وربما تخرج عن السيطرة وتتحول إلى حرب ثانية بينهما.
وبحسب المتحدثة باسم الخارجية الصينية، فإن "الجانب الهندي تعدى بشكل خطير على السيادة الصينية على أراضينا وانتهك الاتفاقات الثنائية والتفاهمات الحدودية وأضر بالسلام والسكينة على خط الحدود، وهو ما يعارض الجهود الحديثة التي بذلها الجانبان لتخفيض التصعيد"، ونفس الاتهام هو ما كررته الخارجية الهندية تجاه بكين، ما يعني تمسك كل طرف منهما بموقفه ويقلل من فرص نزع فتيل التوتر سلمياً.
التصعيد ليس مفاجأة
ويرى المراقبون أن عدم توصل الجانبين لأرضية مشتركة لتخفيض حدة التوتر منذ الاشتباك الأول في يونيو/حزيران وصولاً للاشتباك الحالي لا يمثل مفاجأة، لو أخذنا في الاعتبار الخلافات الحدودية التي لم يتم ترسيمها مطلقاً من ناحية والضغوط الجيوسياسية الواقعة على الطرفين من جهة أخرى.
لكن حتى في ظل وجود معطيات كثيرة تجعل اندلاع حرب شاملة بين الصين والهند احتمالاً ضعيفاً، تظل هناك أسباب للقلق من تدهور العلاقات بين العملاقين نحو الأسوأ، فخط السيطرة الفعلي الذي يرسم الحدود بينهما في حد ذاته ناتج أصلاً عن حرب 1962 التي انتصرت فيها الصين، وبالتالي فإن منطقة جبال الهيمالايا ذات الأهمية الاستراتيجية والتي كانت مطمعاً للقوى الكبرى على مر العصور لا تزال تمثل مصدراً للتوتر بينهما.
ووقع الحادث الحدودي الأخير حول بحيرة بانغونغ تسو التي تمتد من منطقة لاداخ الهندية حتى حدود التيبت التي تسيطر عليها الصين، ويرى أنطوان ليفيسكوس، الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عن جنوب آسيا، أن البحيرة في حد ذاتها لا تحمل أهمية استراتيجية عسكرية كبيرة للجانبين، ورغم ذلك تشهد المنطقة تكثيفاً في القوات من الجانبين على مدى الأشهر الماضية.
ويعتقد ليفيسكوس أن الصين تستفيد كثيراً من الناحية الاستراتيجية بإحكام سيطرتها على منطقة تلك البحيرة، مضيفاً لـCNN أن "تلك المنطقة شهدت معركة تكتيكية أثناء حرب 1962 التي خسرتها الهند في النهاية وبالتالي تحمل بحيرة بانغيانغ تسو قيمة رمزية"، وتوقع أنه في حالة حدوث اتفاق على خفض التوتر فإن المواقع حول البحيرة ستكون النقطة الأخيرة التي يتم حسم الخلافات فيها.
التوترات الجيوسياسية والنزعة القومية
رغم حديث كل من الصين والهند عن رغبتهما في عدم التصعيد، تظل فكرة وجود آلية ذات معنى لمنع تجدد الاشتباكات أمراً بعيد المنال، وإن كان دخول فصل الشتاء في المنطقة المتجمدة سيجعل من المستحيل تطور العمليات العسكرية في جبال الهمالايا، إلا أن التوترات الجيوسياسية ووجود حكومات قومية النزعة في بكين ونيودلهي يجعل استمرار التصعيد هو السيناريو الأقرب.
التوترات الأخيرة نتجت بالأساس عن اتباع الطرفين لسياسة خارجية أكثر عدوانية مؤخراً؛ فتحت زعامة الرئيس شي جينبينغ، أصبحت الصين أكثر عدوانية في تأكيد سيادتها على المناطق المتنازع عليها ليس فقط في الهيمالايا بل وفي بحر الصين الجنوبي أيضاً، وتتبع سياسة أكثر تشدداً تجاه تايوان وهونغ كونغ.
وفي المقابل وتحت زعامة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، تبنت نيودلهي سياسة أكثر تشدداً ليس فقط تجاه الغريم التقليدي باكستان، ولكن ضد الصين أيضا، وقد ألغى مودي العام الماضي الحكم الذاتي لإقليم جامو وكشمير ولاداخ، وهي الخطوة التي أقلقت الكثيرين في بكين، خصوصاً أن تلك الخطوة تبعتها تصريحات عدائية أطلقها كثير من المسؤولين الهنود البارزين مثل وزير الداخلية أميت شاه، عندما قال لجمع من أعضاء حزب بهاراتيا جاناتا الهندوسي الحاكم: "أي تعدٍّ على حدودنا سنواجهه بعقاب رادع".
وبالتالي فإن أي تحرك من جانب الهند على طول الخطوط ترى فيه بكين تهديداً للوضع الراهن ترد عليه الصين بشكل عسكري صارم، وهو ما حدث بالفعل في الاشتباكين الأخيرين، وهذا ما يجعل كثيراً من المحللين يشعرون بالقلق من بقاء الموقف على الحدود ساخناً ومتوتراً كما هو الحال الآن، لأن ذلك يعني أن مكونات مواجهة عسكرية كاملة بين الجارتين النوويتين حاضرة وبقوة، وهو ما يهدد المنطقة والعالم بكارثة حقيقية.