لم تواجه البشرية كارثة صحية بخطورة وباء كورونا أو كوفيد-19 منذ نحو قرن من الزمان، ولكن على الرغم من التطور العلمي والتكنولوجي الذي وصلت إليها البشرية، يبدو أن عملية التوصل للقاح يقينا خطر الفيروس المميت أصبحت سلاحاً سياسياً، فلماذا يعتبر توصل الصين تحديداً لذلك اللقاح أولاً سيناريو كارثياً، ربما ليس للولايات المتحدة فقط؟
الإجابة عن التساؤل تناولته صحيفة Politico الأمريكية في تقرير لها بعنوان: "ماذا سيحدث إذا حصلت الصين على لقاح كوفيد-19 أولاً؟"، رصد موقف اللقاح عالمياً، وأظهر أن الصين هي الأقرب بالفعل للتوصل إلى ذلك اللقاح أولاً.
سيناريو لا مكان فيه لأمريكا
يدور في ذهن ديفيد فيدلر سيناريو كارثي: خلال ثلاثة أشهر، تعلن الصين أنها أتمت اختبارات المرحلة الثالثة لأحد لقاحات كوفيد-19 الخاصة بها؛ فتشعر منظمة الصحة العالمية بالحماس، وتتصدق بكين بقدر منه على دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا، والدول المستفيدة من بحر الصين الجنوبي.
ولا مكان للولايات المتحدة في هذا السيناريو، حيث يتساءل فيدلر: "إذا فازت الصين بالسباق، واستغلت هذه الميزة، ولم يكن لدي أي شيء مساوٍ، فماذا سنفعل؟ هذا ما يشغلني".
وفيدلر، الخبير في شؤون الصحة العالمية والأمن القومي ومستشار منظمة الصحة العالمية ومراكز التحكم في الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة، ليس الوحيد الذي يفكر فيما ستؤول إليه الأمور خلال الأشهر القليلة القادمة، في ظل تسابق القوى العظمى على مَن سيضع يده أولاً على لقاح كوفيد-19.
فبعد ما يقرب من نصف عام قضيناها في التباعد الاجتماعي، وارتفاع معدلات البطالة ارتفاعاً بالغاً، وحالات الوفيات التي تزيد بلا هوادة، من السهل أن تتعلق الآمال بالخطاب الرنان عن الجهود الأمريكية "التاريخية" للعثور على لقاح لإيقاف الجائحة، والشعور بالنشوة من الأخبار عن نتائج "واعدة" للتجارب السريرية في مراحلها الأولى أو بالتوقعات بالاحتمالية الكبيرة أن يصير اللقاح جاهزاً ليستخدمه الأمريكيون بحلول نهاية العام.
غير أن خبراء الصحة واللقاح يحذرون من أن الوقت لا يزال مبكراً لنعرف أياً من اللقاحات الثمانية التي وصلت حالياً إلى اختبارات المرحلة الثالثة سيثبت نجاعته وسلامته في مكافحة فيروس كورونا، ومن بين هذه اللقاحات الثمانية، أربعة لقاحات صينية وثلاثة تمولها العملية التي أطلقتها إدارة ترامب والمعروفة باسم "Warp Speed" أو العملية الفائقة السرعة، ولقاح آخر يأتي من أستراليا.
وبالتالي فإن فيدلر لا يبالغ في مخاوفه، فثمة احتمال قائم بقوة أن ينجح اللقاح الصيني في تجارب المرحلة الثالثة قبل غيره من اللقاحات، وإذا أخفقت لقاحات العملية الأمريكية، فإن الولايات المتحدة يمكن أن تتأخر عن الصين بستة إلى ثمانية أشهر في تطوير لقاح جديد، فماذا سيحدث حينئذٍ؟
"اختر لنفسك الكابوس المناسب"
تدور تصورات خبراء الصحة والأمن القومي في هذه الحال حول فكرة مفادها أن المستقبل سيكون في صورة من قبيل "اختر لنفسك الكابوس المناسب"، ذلك أن كل مسار ممكن للأحداث يفضي إلى مزالق جيوسياسية وأفخاخ علمية، فماذا سيحدث إذا رفضت الصين منح لقاح آمن إلى الولايات المتحدة، ولجأت بدلاً من ذلك إلى استخدامه كورقة رهان لمحاربة الولايات المتحدة؟ وماذا سيحدث إذا رفضت إدارة ترامب، أو بايدن، قبولها؟
وماذا سيحدث إذا أجبر "النصر" الصيني الولايات المتحدة وأوروبا على الاستعجال في تطوير اللقاح الخاص بهم أو في عملية إقراره؛ وهو أحد بواعث القلق التي لم تزدد إلا سوءاً بفضل التعليقات التي صدرت عن الرئيس دونالد ترامب مؤخراً والتي جر فيها هيئة الغذاء والدواء إلى معاركه السياسية؟
وفي هذا الصدد قال لاري غوستين، بروفيسور قانون الصحة العالمية بجامعة جورجتاون، إن الصين بعد أن تُحصن سكانها، "يمكن ألا تبيع اللقاح لمن يدفع السعر الأعلى؛ بل ستستخدمه لمآرب سياسية أو لسداد دين سياسي أو كجزء من مفاوضات تجارية مع الولايات المتحدة الأمريكية.… وثمة احتمال قوي للغاية بأن الولايات المتحدة ستكون في ذيل قائمة الدول التي ستتفضل عليها الصين باللقاح".
وحتى وإن كان اللقاح الصيني سيقدم للعالم دون قيد أو شرط، فإن فيدلر يرى أنه لن يدخل الولايات المتحدة الأمريكية، ويفسر رأيه هذا بقوله: "إذا كان الحال أن هيئة الغذاء والدواء أقرت اللقاح ووافقت على شرائه، فسيكون على الكونغرس أن يخصص المال المناسب لشراء اللقاح من الصين، في الوقت الذي لا يُسمح فيه للناس باستخدام تطبيق تيك توك داخل الولايات المتحدة الأمريكية، ما أقول يبدو هزلاً أو مزاحاً، ولكن الوضع فعلاً بهذا القدر من السوء".
وتوضح هذه المخاوف إلى أي مدى تشكِّل الجغرافيا السياسية استجابة العالم لأسوأ كارثة صحية يشهدها منذ قرن، ففي شهر فبراير/شباط الماضي، ومع تفشي المرض القاتل في أرجاء الكرة الأرضية، تطلع الكثير من الناس إلى أن روح التعاون العالمي ستفضي إلى اجتماع أقوى قادة العالم في قاعات برنامج Zoom لتشارك الموارد والتعاون فيما يخص تطوير اللقاح والبت في الطريقة المثلى لتوزيع جرعاته. حاول بعض القادة القيام بذلك فعلاً، ولكن في ظل التوتر بين قوتين من أكبر قوى العالم، الولايات المتحدة والصين، ووصوله إلى مستويات لم يُشهد مثلها منذ عقود، فإن سباق تطوير للقاح تحول إلى تنافس قومي من الطراز القديم على النفوذ والمكانة، وإذا لم تكن الولايات المتحدة والصين منتبهتين لذلك، فإن الصحة العالمية ستكون في نهاية المطاف مجرد أداة أخرى، وخسارة أخرى، في لعبة القوى العظمى الجديدة بينهما.
"الصين تسير بخطى أكثر توازناً"
وصفت إدارة ترامب عملية Warp Speed بأنها واحد من أعظم الإنجازات العلمية والإنسانية في التاريخ، إلا أن مايكل كينش، مدير مراكز الابتكار البحثي في اكتشافات التكنولوجيا الحيوية والأدوية بجامعة واشنطن قال إنه إذا كان متاحاً له أن يستبدل جهود أبحاث الصين فيما يخص اللقاح بالجهود الأمريكية لفعل، ذلك أن الصين تتبع منهجاً أكثر توازناً في رأيه.
وتستخدم جميع اللقاحات التي تخرج من الولايات المتحدة وأوروبا في الوقت الحالي في التجارب السريرية المتقدمة؛ وكذلك اللقاحات الخمسة التي وصلت إلى المراحل النهائية وتتلقى تمويلاً من عملية Warp Speed، أساليب عالية التقنية لتوليد المناعة لجزء من فيروس SARS-CoV-2 يُعرف بـ "القسيم الفولفي" (Spike Protein)، ويساعد هذا البروتين الذي يمنح الفيروس مظهره الذي يشبه التاج، المرض على الارتباط بمستقبلات الخلية البشرية وإصابة الجسم بالعدوى، وباستخدام أساليب متنوعة، تهدف جميع هذه اللقاحات إلى تقوية الجسم ليهاجم البروتين قبل أن يلتصق بخلايا الجسم في المقام الأول.
ولكن ماذا لو فشلت مهاجمة البروتين؟
هنا يقارن كينش المنهج الأمريكي بما تفعله الصين: بعض اللقاحات الصينية المرشحة تستهدف القسيم الفولفي، في حين يستخدم بعضها الآخر طرقاً تقليدية لها سجل طويل من عدم مهاجمة ولو جزء واحد من الفيروس؛ على سبيل المثال، تعمل الصين حالياً على تطوير العديد من لقاحات الفيروس غير المفعَّلة، تستخدم نسخة ميتة من الفيروس لتعود الجسم على مقارعة النسخة الحية منه، وباستخدام تلك اللقاحات، يحدد الجسم بنفسه الطريقة المثلى لبناء المناعة ضد المرض. وهنا يقول كينش إن الجسم "أمامه الكثير من الخيارات ليختار منها، ولا يحصر نفسه في القسيم الفولفي. بل سيختار ما يراه سينجح في هزيمة الفيروس".
ويرى فيدلر أنه قد يكون من المبالغة في الأمل أن ننتظر اللحظة التي لا تدخل فيها الحسابات الجيوسياسية في الصحة العامة، والصدام الحالي بين الولايات المتحدة والصين يعني انتهاء عصر المبادرات الأمريكية الصحية التي تتسم بالإيثار، والتي تتم دون أي دوافع استقواء على المنافسين، ومن أمثلة ذلك برنامج PEPFAR الذي أطلقه الرئيس الأمريكي جورج بوش لمحاربة الأمراض المعدية في الولايات المتحدة، والآن نحن في العصر الذي ستستخدم فيه القوى العظمى كل ما تملك للاستعلاء على منافسيها، أياً ما كان.
غير أن الصين والولايات المتحدة يمكن أن تحاولا إبقاء التنافس بينهما في حدود بحيث لا يخرج عن السيطرة ويدمر في إثره قطاع الصحة العامة، وفي العهود الماضية، التي شهدت تنافساً بين أقطاب متعددة، تمكن المتنافسون من وضع حدود لتلك المنافسة، باستثناء بعض المجالات التي يمكنها فيها تخفيف وتيرة التنافس والتعاون بشكل أكبر. ويرى فيدلر أن الولايات المتحدة والصين يمكن أن تقوما بذلك اليوم، ربما من خلال الاتفاق على أن ترفع كل منهما يدها عن منظمة الصحة العالمية.
ولا بد أن يحدث ذلك قريباً، ذلك أنه في الوقت الحالي، ليس ثمة ما يُعد تجاوزاً للحدود، وهو ما يعني كذلك أن تدمير عقود من الأعراف الجارية في قطاع الصحة العامة ليس تجاوزاً للحدود أيضاً، وهنا يحذر فيدلر: "إذا لم نشهد هدنة تتعلق بالصحة العالمية بين بكين وواشنطن، فنحن في ورطة حقيقية".