مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، يبدو أن قضية العنف الذي تشهده شوارع غالبية الولايات وأسلوب تعامل الجمهوريين والديمقراطيين معها سيكون أحد أبرز عناصر الحسم في يوم التصويت، فهل وجد دونالد ترامب أخيراً ضالته للفوز بفترة ثانية، خصوصاً أن تعامل اليسار المتطرف يساعده كثيراً، فما قصة تلك الخلطة السحرية؟
وحتى تتضح الصورة أكثر، كتب جورج باكر -وهو صحفي أمريكي ليبرالي يساري مخضرم- قبل أيام قائلاً: "لو فاز دونالد ترامب في انتخابات موثوق في نزاهتها في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، سيكون ما يحدث في كينوشا ويسكونسين أحد الأسباب، بل ربما يكون السبب الوحيد!"، فماذا يحدث هناك؟
الخلطة السحرية نضجت وهذا هو الدليل
المتابع للأوضاع الداخلية والخارجية للولايات المتحدة منذ أن حلت بها كارثة وباء كورونا منتصف مارس/آذار الماضي -كارثة الوباء ألمت بالعالم كله بالطبع لكن العدد الأكبر من الإصابات والوفيات جعل أمريكا الأكثر تأثراً بلا منازع- يمكن أن يرى بسهولة أن تعامل إدارة الرئيس ترامب مع الأزمة الصحية كان ولا يزال -بحسب غالبية المراقبين وأيضاً بحسب النتائج، بعيداً عن تصريحات الرئيس العنترية- كارثياً بكل المقاييس.
فمن الإشادة بالصين ومنظمة الصحة العالمية في يناير/كانون الثاني "لتعاملهما الشفاف والحاسم" مع فيروس كورونا، إلى تسميته "الفيروس الصيني" والانسحاب من منظمة الصحة العالمية، ومن التهوين من خطورة الفيروس ووصفه بأنه "أقل خطورة من فيروس الإنفلونزا"، إلى الترويج لعقاقير لم تثبت فاعليتها في مواجهته، ومن رفض ارتداء الكمامة والسخرية من منافسه جو بايدن لارتدائها، إلى ارتدائها هو شخصياً، وغير ذلك كثير من المواقف المتناقضة والمتغيرة أظهر رئيس البلاد بمظهر المتردد والفاشل في إدارة أسوأ أزمة صحية تمر بها البلاد منذ أكثر من قرن من الزمان.
والأزمة الأخرى الناجمة عن كارثة الوباء هي الكساد الاقتصادي الأسوأ منذ الكساد الكبير وفقدان عشرات الملايين من الأمريكيين وظائفهم بسبب الإغلاق لمواجهة الوباء، وهو ما أفقد ترامب ورقته الانتخابية الذهبية وهي الاقتصاد المنتعش كما تباهى دائماً لكونه رجل أعمال يجيد عقد الصفقات كما يردد -بغض النظر عن مدى مصداقية ذلك التوصيف- لكن الاقتصاد الأمريكي كان يشهد انتعاشاً بالفعل طوال السنوات الثلاث الأولى من حكم الرئيس الجمهوري الأكثر جدلاً في التاريخ.
ثم اندلعت المظاهرات الرافضة للعنصرية بعد مقتل جورج فلويد المواطن الأمريكي من أصل إفريقي بأيدي رجل شرطة أبيض، وسرعان ما انتشرت الاحتجاجات الشعبية في أنحاء البلاد وتكونت حركة "حياة السود مهمة"، ومنها انتشر الحركة الشعبية المناهضة للعنصرية إلى أوروبا وكندا وأستراليا، ومع تحول بعض تلك المظاهرات إلى العنف، ووصف ترامب للمتظاهرين بأنهم "غوغاء غاضبون ولصوص وإرهابيون"، أضيفت قضية ثالثة لقضيتي الوباء والاقتصاد.
وظل تعامل ترامب وحملته الانتخابية مع الأزمات الثلاثة متأرجحاً ما بين الإلقاء باللوم على الصين في أزمتي كورونا والاقتصاد والتحذير من أن بايدن -الذي كان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما لثماني سنوات- يتبع سياسة مهادنة للصين وهو ما يهدد بضياع الهيمنة الأمريكية اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً، إلى رفع شعار "فرض النظام والقانون" لمواجهة الاحتجاجات المناهضة للعنصرية، دون أن يبدو أن هناك استراتيجية واضحة لدى الجمهوريين لإقناع الناخبين بالتصويت مجدداً لترامب.
ثم جاء المؤتمر العام للحزب الجمهوري في الأسبوع الماضي والذي شهد ترشيح ترامب ونائبه مايك بنس رسمياً، وخلال المؤتمر الذي استمر ثلاثة أعوام ظهرت أخيراً تلك الاستراتيجية، أو ما يسميها بعض المراقبين "الحيلة القذرة" لحملة الجمهوريين، وهي التركيز على قضية العنف في الشوارع الأمريكية، وأن الشعار الذي رفعه ترامب "فرض النظام والقانون" هو الحل الوحيد لتجنب الفوضى والدمار إذا ما تم انتخاب بايدن، بمعنى أكثر وضوحاً "إما ترامب أو الفوضى"، وهو الشعار الذي رفعه الرؤساء العرب قبل عقد من الزمان عندما اندلعت ثورات الشعوب العربية ضد الفساد والقمع.
موجة جديدة من العنف
ويبدو أن بايدن قد انتبه لتلك الاستراتيجية أخيراً، حيث وصف، الأحد 30 أغسطس/آب، أعمال العنف التي شهدتها الاحتجاجات بمدينة بورتلاند بولاية أوريغون بأنها غير مقبولة، ووجه انتقاداً عنيفاً لمنافسه داعياً ترامب إلى الكف عن "تشجيعه الأهوج" لذلك العنف بعد مقتل شخص خلال اشتباكات بين مجموعتين إحداهما حشد سياسي داعم للرئيس الجمهوري.
وقال بايدن في بيان: "أدين العنف بكافة أشكاله من أي شخص سواء من اليسار أو اليمين. وأتحدى دونالد ترامب أن يفعل المثل"، وأضاف: "يجب ألا نصبح بلداً في حرب مع نفسه"، مضيفاً: "ما الذي يعتقد الرئيس ترامب أن يحدث عندما يواصل الإصرار على تأجيج نيران الكراهية والانقسام في مجتمعنا ويستخدم سياسات الخوف لتحريض أنصاره؟ أنه يشجع بشكل أهوج العنف".
المظاهرات ضد العنصرية ووحشية الشرطة تجتاح الولايات المتحدة منذ مقتل فلويد بعد أن جثا شرطي من منيابوليس بركبته على رقبته لنحو تسع دقائق في مايو/أيار، ويشهد وسط مدينة بورتلاند احتجاجات كل ليلة منذ نحو ثلاثة أشهر عقب موت فلويد، وقالت الشرطة هناك إنها قامت بعدة اعتقالات بعد مقتل شخص بالرصاص مساء السبت، أفادت تقارير صحفية بأن القتل جاء نتيجة لاشتباكات اندلعت بين المحتجين وحشد من أنصار ترامب.
من جانبهم، ينفي الجمهوريون سعي ترامب لتفاقم أعمال العنف من خلال خطاب تحريضي، ويقولون إنه يريد استعادة القانون والنظام ويتهمون رؤساء البلديات وحكام الولايات الديمقراطيين بفقد السيطرة على المدن التي تعصف بها المظاهرات والتي شهدت تفجر لأعمال العنف والحرق والنهب، وقال جيسون ميلر، أحد كبار مستشاري حملة ترامب على تويتر، إن بايدن "ظل مكتوف اليدين لأشهر رافضاً إدانة العنف والفوضى من قبل حلفائه في المدن التي يحكمها الديمقراطيون".
كورونا والاقتصاد إلى الخلفية
بالعودة إلى المؤتمر العام للحزب الجمهوري، نجد أن ملفي كورونا والاقتصاد كادا أن يختفيا من كلمات المسؤولين أثناء فعاليات المؤتمر، مقابل التركيز على قضية العنف وضرورة "فرض النظام والقانون"، بل إن بنس نائب ترامب أعلنها صريحة لدى قبوله الترشح رسمياً بالقول: "القانون والنظام في بطاقة الاقتراع".
وفي مقال تحليلي نشره موقع National Interest الأمريكي بعنوان: "لماذا يهدي الديمقراطيون المتطرفون (الفوز في) الانتخابات لترامب"، يلقي الكاتب الضوء على وجود ما يسمى اليسار المتطرف الذي ينادي بتفكيك أجهزة الشرطة، وهو ما يثير الخوف في نفوس كثير من الناخبين الذين ربما لم يكونوا ليصوتوا لصالح ترامب، لكن هذه القضية تحديداً قد تغير قناعاتهم بشكل جذري.
وكما هو الحال في موقف الحملتين من القضية، يأتي موقف وسائل الإعلام الرئيسية كذلك؛ فشبكة فوكس نيوز اليمينية الداعمة لترامب تركز في تغطية الاحتجاجات على انتشار العنف والسلب والنهب وتستضيف مسؤولين ومشرعين ومحللين وناخبين يعبرون عن وجهة النظر الجمهورية وضرورة الدفاع عن الشرطة و"فرض القانون والنظام، وعلى سبيل المثال تناولت الزيارة التي أعلن ترامب أنه سيقوم بها لمدينة كينوشا في ويسكونسين، حيث قتلت الشرطة رجلاً أسود قبل أيام ما نتج عن مظاهرات اتسم بعضها بالعنف وحرق منشآت خاصة وعامة، بعنوان مثير "لا تأتي إلى كينوشا – الحاكم الديمقراطي يقول للرئيس".
وفي المقابل، تتبنى شبكة CNN وصحف مثل واشنطن بوست ونيويورك تايمز مواقف داعمة للاحتجاجات السلمية وضرورة التعامل بجدية مع عنف الشرطة وقضايا العنصرية، وبالتالي تتغاضى أحياناً عن التركيز على مشاهد العنف والحرق والسلب للممتلكات الخاصة العامة، وهو ما قد يؤدي في نهاية الأمر لترسيخ الصورة التي يركز عليها فريق ترامب الانتخابي وهي "فرض النظام والقانون" مقابل الفوضى والعنف، بحسب كثير من المراقبين للأوضاع الانتخابية قبل نحو شهرين فقط من يوم التصويت.
الصورة الآن بدأت تتضح معالمها بشكل كبير إذن؛ ترامب يشدد على "القانون والنظام" لتحفيز قاعدته السياسية من ناحية ومغازلة الناخبين الخائفين من مشاهد العنف والحرائق من ناحية أخرى، وفي المقابل يساهم أفراد اليسار المتطرف من الديمقراطيين في تعزيز تلك الصورة من خلال حديثهم عن ضرورة وقف التمويل عن إدارات الشرطة والدفاع عن حق التظاهر، فهل تبتلع حملة بايدن الطعم بالفعل فتصل الأمور إلى يوم التصويت ولا شيء أهم من "فرض النظام والقانون"، خصوصاً إذا ما ارتفعت وتيرة العنف وهو ما يبدو متوقعاً، في ظل عدم تورع ترامب عن تأجيج العنف بتصريحاته التي تشجع على الكراهية والانقسام، كما قال بايدن نفسه؟