زيارة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الحالية للمنطقة تحمل هدفاً معلناً وهو استغلال الزخم الذي أحدثه الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي للحصول على اتفاقات مماثلة من دول عربية أخرى، خصوصاً السودان، لكن يبدو أن الرياح أتت بما لا تشتهيه سفينة بومبيو، فهل يعتبر ذلك فشلاً لوزير الخارجية أم نجاحاً للقوى المدنية الشعبية في السودان؟
السودان في موقف صعب
زيارة بومبيو للسودان الثلاثاء 25 أغسطس/آب 2020 هي الأولى لوزير خارجية أمريكي للخرطوم منذ 15 عاماً، وبالتالي فهي حدث كبير في حد ذاته، وغالبية المؤشرات كانت تصب في صالح مغادرته للخرطوم حاملاً أنباءً عظيمة للرئيس دونالد ترامب تساعده في معركته الانتخابية الشرسة سعياً للفوز بفترة ثانية؛ فالخرطوم تسعى منذ نجاح ثورتها لإقناع واشنطن برفع السودان من القائمة الأمريكية السوداء للدول الراعية الإرهاب، وهي الخطوة الجوهرية لمساعدة البلاد في الخروج من أزمة اقتصادية طاحنة، وكان واضحاً أن إدارة ترامب تربط بين رفع السودان من القائمة السوداء وبين التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب.
والقصة هنا هي أن مسألة التطبيع مع إسرائيل بدأت بالفعل حينما التقى رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان ورئيس وزراء إسرائيل في فبراير/شباط الماضي في أوغندا، رغم أن الاجتماع كان غير معلن، لكن نتنياهو أعلنه لأسباب داخلية وهو ما أثار عاصفة من الانتقادات من جانب القوى المدنية وقيادات الثورة التي أطاحت بحكم البشير.
تلك الانتقادات أجبرت البرهان على أن يقلل من أهمية اللقاء ويلقي بظلال من الشك على أي تطبيع سريع للعلاقات بين البلدين، على الرغم من أن الطائرات الإسرائيلية بدأت بسرعة التحليق في أجواء السودان، وهو ما يشير إلى مدى حساسية التطبيع مع إسرائيل لدى الشارع السوداني.
وبعد الإعلان عن اتفاق التطبيع الإماراتي-الإسرائيلي، أقالت السلطات السودانية في 19 أغسطس/آب المتحدث باسم وزارة الخارجية بعدما وصف قرار الإمارات تطبيع العلاقات مع إسرائيل بأنه "خطوة شجاعة وجريئة"، لكن الموقف الصعب الذي تواجهه الحكومة السودانية كان يوحي بأن زيارة بومبيو لم تكن لتتم لولا وجود تفاهم ما على أن يتم إعلان اتفاق سوداني-إسرائيلي على التطبيع مقابل رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية.
والقصة هنا تتعلق بالأزمة العميقة التي يواجهها الاقتصاد وتسعى السلطات لإنهاء إدراج البلاد على القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب وهو ما يحولُ دون حصول السودان على تمويل من المقرضين الدوليين، وبالتالي كانت المؤشرات تسير في اتجاه حصول سفينة بومبيو على ما تريده من محطتها في الخرطوم.
بومبيو غادر بخفَّي حنين
لكن جاءت الرياح السودانية بما لا تشتهيه سفينة الخارجية الأمريكية، حيث أبلغ رئيس الوزراء عبدلله حمدوك "بومبيو" بأن حكومته ليس لديها تفويض بتطبيع العلاقات مع إسرائيل وبأن تلك القضية يجب عدم ربطها برفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب.
ومن جانبها، ذكرت وزارة الخارجية الأمريكية، في بيان، أن الوزير بومبيو وحمدوك بحثا "التطورات الإيجابية في العلاقة بين السودان وإسرائيل"، وأضاف البيان أنهما أكدا أيضاً أن التوصل لاتفاق بشأن سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق أمر حاسم للاستقرار الإقليمي.
وبالعودة للتصريحات من الجانب السوداني، نجد أن وزير الإعلام والمتحدث باسم الحكومة فيصل صالح قال في بيان إن حمدوك أبلغ بومبيو بأن الحكومة الانتقالية في السودان "لا تملك… تفويضاً… بشأن التطبيع مع إسرائيل، وأن هذا الأمر يتم التقرير فيه بعد إكمال أجهزة الحكم الانتقالي".
وأضاف البيان أن رئيس الوزراء دعا الإدارة الأمريكية إلى "ضرورة الفصل بين عملية رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب ومسألة التطبيع مع إسرائيل"، في إشارة واضحة إلى أن الإدارة الأمريكية تشترط على الأرجح التطبيع مقابل رفع الخرطوم من القائمة السوداء.
صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية أبرزت فشل بومبيو في مهمته بالخرطوم في تقرير لها بعنوان "رفض ضغوط بومبيو لإقامة علاقات سودانية-إسرائيلية"، أرجعت فيه الفشل إلى وجود معارضة "إسلامية" بين صفوف الجيش وقوات الأمن السودانية، وهو تبرير يفتقر للدقة وتدحضه الأحداث على الأرض؛ فالقصة ببساطة هي أن مسألة التطبيع المجاني مع إسرائيل مرفوضة شعبياً على مستوى العالم العربي، رغم القرارات التي تتخذها الأنظمة والإمارات دليل واضح.
زيارة "مرتبكة" عنوانها الفشل
الحقيقة أن الفشل يمكن أن يكون العنوان الأبرز لزيارة بومبيو للمنطقة هذه المرة على أكثر من صعيد؛ فجدول الزيارة نفسه شهد تحولات وتغييرات عشوائية من الواضح أنها انعكاس للاختلاف الكبير بين ما يريده وزير خارجية ترامب وبين ما كانت تتوقعه الأطراف العربية سواء التي وافقت على التطبيع بالفعل كالإمارات أو تلك المستعدة له كالبحرين أو المجبرة عليه كالسودان.
في البداية تم الإعلان عن زيارة بومبيو – عقب إعلان اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي مباشرة – وكان المعلن أنه سيزور تل أبيب ومنها إلى أبوظبي، دون التطرق لزيارة السودان أو البحرين، وبعد أيام صدرت تصريحات من الخرطوم بأن بومبيو سيزور السودان دون تحديد موعد للزيارة.
وصل بومبيو إلى إسرائيل الإثنين 24 أغسطس/آب وعقد مؤتمراً صحفياً مع نتنياهو أكد خلاله أن واشنطن ملتزمة بضمان "التفوق العسكري" لإسرائيل في المنطقة، وهو ما كشف عن وجود غضب مكتوم في الكواليس من الجانبين الإماراتي والإسرائيلي، خصوصاً فيما يخص شراء أبوظبي طائرات F-35 الأمريكية، وبالتالي يبدو أن بومبيو لم يجد ما يستدعي زيارة الإمارات فاستبدلها بزيارة السودان أملاً في العودة بإعلان مشابه للإعلان الإماراتي.
وبعد فشله في الخرطوم، توجه بومبيو إلى البحرين على أمل الخروج بإعلان مشابه لإعلان الإمارات، ومن ثَم تكون الاحتفالية الضخمة التي يخطط لها ترامب في سبتمبر/أيلول المقبل للتوقيع الرسمي على اتفاق التطبيع الإماراتي الإسرائيلي تضم أيضاً توقيعاً بحرينياً، والهدف بالطبع لا يتعلق بالسلام أو حل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، بل هو مساعدة ترامب على البقاء في البيت الأبيض فترة رئاسية ثانية، في ظل الموقف الصعب الذي يواجهه في استطلاعات الرأي الحالية.
لكن البحرين تحديداً، حتى في حالة الإعلان الرسمي عن التطبيع مع إسرائيل، لا تعد نجاحاً يحسب لبومبيو لأكثر من سبب؛ أولها أن البحرين اعترفت علناً بإسرائيل وتبادلت معها زيارات علنية ولم يكن اختيار المنامة للإعلان عن الشق الاقتصادي من صفقة القرن سوى تتويج لتلك التحركات، وثانيها أن هناك وفداً أمريكياً برئاسة مهندس صفقة القرن صهر ترامب ومستشاره الأول جاريد كوشنر سيزور البحرين في الأيام القادمة بالفعل، وجاء الإعلان عن الزيارة قبل وصول بومبيو إلى إسرائيل، وبالتالي فإن زيارة بومبيو غير المجدولة للمنامة ربما تكون في سياق محاولة من وزير الخارجية للخروج بنتيجة ما تحفظ ماء وجهه وتخفف من حدة فشل زيارته.