بينما يواصل علماء الفيروسات السعي نحو التوصل للقاح يحسم حرب البشرية ضد فيروس كورونا القاتل، تكشف الدراسات مزيداً من المعلومات عن طبيعة عالم الفيروسات ومدى تنوعه وأهميته لحفظ التوازن بين المخلوقات، فما قصة الفيروسات وما أهميتها لاستمرار الحياة؟
مجلة The Economist البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "كيف تُشكّل الفيروسات العالم؟"، ألقى الضوء على عالم الفيروسات المذهل في تنوعه والجوهري بالنسبة للحياة وحفظ التوازن بين المخلوقات.
هل الإنسان أقوى المخلوقات؟
يعتبر البشر أنفسهم أقوى المخلوقات المفترسة وأكثرها تفوقاً في العالم. لكن يأتي فيروس كورونا المرتبط بالمتلازمة التنفسية الحادة الشديدة النوع 2 (sars-cov-2) ليبيّن كيف يمكن أن يتحوّل البشر إلى فريسة. تسبّبت الفيروسات في ظهور عدد من الفيروسات والأوبئة في العصر الحديث، بدايةً من فيروس كورونا المستجد (كوفيد -19) إلى فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) إلى فيروس الإنفلونزا الإسبانية في 1918، الذي أودى بحياة عدد أشخاص يفوق كثيراً الذين لاقوا حتفهم في الحرب العالمية الأولى.
ومع ذلك، يتجاوز تأثير الفيروسات في شكل الحياة على كوكب الأرض ما سبّبته من مآسٍ في الماضي والحاضر لنوع واحد من الكائنات الحية، مهما بدا الوضع حرجاً. على الرغم من أنَّ دراسة الفيروسات بدأت بمحاولة استكشاف ما بدا أنَّه مجموعة فرعية غريبة من مسببات الأمراض، تضع الأبحاث الحديثة الفيروسات في صميم عملية فهم استراتيجيات الجينات.
الفيروسات وعملية الانتقاء الطبيعي
تتنوع الفيروسات وتنتشر في كل مكان بصورة لا يمكن تصورها. وقد بات واضحاً مدى إسهامها في تشكيل تطوّر جميع الكائنات الحية منذ بدايات الحياة، ومن هنا، تكشف الفيروسات القوة العمياء عديمة الرحمة لعملية الانتقاء الطبيعي في أكثر حالاتها دراماتيكية. من هذا المنطلق، تُمثّل الفيروسات مزيجاً جامحاً من التهديد والفرصة بالنسبة للإنسان -وهو أحد فصائل الثدييات ثنائية الحرية (أي التي تسير على اثنتين) والتي ساعدت الفيروسات في تشكيل تطورها.
ويُفضل التفكير في الفيروسات على أنَّها حزم من المواد الجينية تستغل عملية التمثيل الغذائي لكائن حي آخر من أجل التكاثر، فهي طفيليات من أنقى الأنواع، حيث تستعير كل شيء من المضيف باستثناء الشفرة الجينية الخاصة بها التي تجعلها على ما هي عليه.
أعداد وأنواع الفيروسات
ويعج العالم بالفيروسات، فقد كشف أحد التحليلات لعينة من ماء البحر عن وجود 200 ألف نوع مختلف من الفيروسات. تشير أبحاث أخرى إلى أنَّ لتراً واحداً من ماء البحر قد يحتوي على ما يتجاوز 100 مليار جزيء فيروسي في حين قد يتضمن مقدار كيلو من التربة الجافة عشرة أضعاف هذا الرقم. على هذا النحو، يُقدر أن عدد الفيروسات يفوق جميع أشكال الحياة الأخرى على كوكب الأرض.
بقدر ما يمكن القول، تأقلمت الفيروسات -من أنواع عديدة مختلفة- لمهاجمة كل كائن حي موجود على سطح الأرض. تُعد الفيروسات محركاً قوياً للتطور جزئياً بسبب كونها تشرف على مذبحة تطهير مذهلة لا هوادة فيها.
وتتحور الفيروسات نفسها أثناء تنفيذها لتلك العملية. يتضح هذا بصورة خاصة في المحيطات، حيث تقتل الفيروسات يومياً خمس العوالق البحرية أحادية الخلية. من الناحية البيئية، يساهم ذلك في تعزيز التنوع من خلال اقتلاع الأنواع الموجودة بوفرة، ومن ثمَّ، إفساح المجال للأنواع النادرة. كلما كان نوع الكائن الحي أكثر شيوعاً، زادت احتمالية تطوّر أنواع محلية من الفيروسات متخصّصة لمهاجمته، ومن ثمَّ إبقاء هذا النوع تحت السيطرة.
تمثّل هذه النزعة الفيروسية للتسبّب في الأمراض حافزاً تطوّرياً قوياً للفريسة أيضاً لتطوير دفاعاتها، وقد ينجم في بعض الأحيان عن تلك الدفاعات تبعات أوسع نطاقاً. على سبيل المثال، أحد التفسيرات لاحتمالية قيام خليةٍ ما بتدمير نفسها عمداً هو إذا كانت تضحية الخلية بنفسها سَتُقلّل من الحمل الفيروسي على الخلايا المجاورة أو القريبة منها. بهذه الطريقة، تستطيع الخلية على الأرجح إنقاذ جيناتها المنسوخة في الخلايا المجاورة وابقائها على قيد الحياة. يصادف أن يكون مثل هذا الانتحار الإيثاري شرطاً أساسياً للخلايا لتَتجمع وتُشكّل كائنات حية معقدة، مثل نباتات البازلاء وفطر عيش الغراب والبشر.
أهمية الفيروسات في استمرارية الحياة
يتمثّل السبب الآخر لاعتبار الفيروسات محركات للتطور في كونها آليات نقل للمعلومات الجينية. ينتهي الأمر ببعض الجينومات الفيروسية إلى الاندماج في خلايا مضيفها، حيث يمكن أن تنتقل إلى أحفاد تلك الكائنات الحية.
ويبدو أنَّ ما بين 8% و25% من الجينوم البشري يعود إلى أصول فيروسية مماثلة، لكن الفيروسات نفسها بدورها عرضة للاختطاف وتحول جيناتها إلى استخدامات جديدة. على سبيل المثال، جاءت قدرة الثدييات على حمل صغارها نتيجة جين فيروسي يجري تعديله للسماح بتكوين المشيمة. حتى العقول البشرية قد تدين بتطورها جزئياً إلى الحركة داخل عناصر شبيهة بالفيروسات التي تخلق اختلافات جينية بين الخلايا العصبية داخل الكائن الحي الواحد، ومن الرؤى الأكثر إثارة الخاصة بالتطور هي أنَّ هذا التعقيد المذهل قد ينشأ من المنافسة العدمية المتواصلة داخل الكائنات الحية وفيما بينها.
يفتح الوعي البشري الفريد، الذي يعود تشكيله إلى وجود الفيروس، سبلاً جديدة للتعامل مع التهديد الفيروسي واستغلاله. يبدأ الأمر مع معجزة التلقيح الطبي (التطعيم) المسؤولة عن صد أي هجوم من أحد الكائنات المسببة للأمراض قبل إطلاقه.
ولم تعد العديد من الأمراض تُشكّل خطورة بفضل اللقاحات، من ضمنها مرض الجدري، الذي أودى بحياة حوالي 300 مليون شخص في القرن العشرين. ستُعزز البحوث الجديدة، الذي أثارها تفشي وباء فيروس كورونا المستجد، القدرة على فحص عالم هذا الفيروس وتحديد أفضل الاستجابات التي يمكن للأجسام حشدها ضده- الأمر الذي ينقل تدابير مواجهة الفيروسات والوقاية منها إلى مستوى جديد.
وثمة سبيل آخر للتقدّم يكمن في أدوات التلاعب بالكائنات الحية التي ستنشأ من مدى فهم طبيعة الفيروسات وتطوير الدفاعات ضدها. اعتمدت الإصدارات المبكرة للهندسة الوراثية على إنزيمات الاقتطاع ، وهي مقصات جزيئية تقطع جينات الفيروس ويوظِّفها علماء التكنولوجيا الحيوية في تحريك الجينات. وهناك أيضاً أحدث إصدارات التكنولوجيا الحيوية، المعروف باسم "crispr"، أي التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد، والتي تستخدم آلية أكثر دقة لمكافحة الفيروسات.
لا يُعد العالم الطبيعي وديعاً طيباً، فالوجود الخالي من الفيروسات أمراً مستحيلاً يتعذر استساغته. يعتمد التنوع المذهل للحياة على الفيروسات التي تعد مصدراً للثراء والتغيير -بقدر ما هي مصدر للموت. ومن المدهش أيضاً، احتمالية وجود عالم تصبح فيه الفيروسات مصدراً لفهم جديد للبشر، وتقتل عدداً أقل من أي وقت مضى.