مجدداً، يلمع اسم الإمام محمود ديكو في جمهورية مالي، التي تشهد انقلاباً عسكرياً أطاح برئيس البلاد إبراهيم أبوبكر كيتا، يوم الثلاثاء 18 أغسطس/آب 2020، بعد اعتقاله من قِبل الجيش، حيث يقول المتمردون إن ما حدث "ليس انقلاباً عسكرياً، وإنما انتفاضة شعبية"؛ إذ تشهد البلاد منذ عدة أشهر حالة غضب واسع النطاق بسبب الفساد وسوء إدارة الاقتصاد وتدهور الوضع الأمني، مع تصاعُد العنف الجهادي المسلح والطائفي، فيما كانت قد دعت حشود ضخمة بقيادة الإمام محمود ديكو الرئيس كيتا إلى التنحي، وقادت ضده هذه الثورة. فمن هو الإمام ديكو الذي يلقّبه الماليون بـ"إمام الشعب"، وما دوره في صناعة رؤساء مالي وإسقاطهم؟
من هو الشيخ محمود ديكو؟
على الرغم من أنّ ديكو لاعب رئيسي في الحياة العامة بجمهورية مالي منذ عقدين على الأقل، فإنه ليس رجل سياسة، يعتبر الشيخ محمود ديكو داعياً إسلامياً، وهو من رموز التيار الإصلاحي في مالي، وهو إمام أحد أهم مساجد العاصمة باماكو، كما ترأّس المجلس الإسلامي الأعلى بمالي، الذي يُعنى بالبتِّ في الشؤون الدينية، لأكثر من 10 سنوات متتالية.
وبحسب سيرته المذكورة في مصادر معدودة، فقد وُلد محمود ديكو عام 1954 في قرية طنكا، (محافظة تمبكتو) بجمهورية مالي، وينتمي أبَوَاه لأسرتين من الأسر العلمية الشهيرة في المنطقة. والتحق ديكو عام 1970 بمعهد العلوم الإسلامية في مدينة أبي تلميت بموريتانيا، وحصل منه 1973 على إجازة علمية، ثم ذهب إلى المدينة المنورة في المملكة العربية السعودية فتتلمذ على يد العلامة عمر الفلاتة لمدة سنتين.
عيّنته حكومة بلاده مدرساً للغة العربية في المرحلة الثانية بعد عودته من السعودية، وعمل في مجال التعليم إلى أن اختير عام 1981 إماماً لمسجد السلام (بدلابوغوا)، الذي يعد من أهم مساجد العاصمة باماكو.
وشغل ديكو العديد من المناصب والمسؤوليات في بعض المؤسسات الدعوية والخيرية في البلاد، فقد تقلّد منصب الأمين العام لـ"جمعية مالي للاتحاد وتقدم الإسلام"، وهي أول جمعية إسلامية بالبلاد أُسست عام 1980، وتهدف إلى تعزيز وحدة المسلمين بالبلد، وتمويل بناء المساجد والمدارس القرآنية، كما تقوم بالوساطة والتهدئة أثناء الأزمات السياسية والاجتماعية.
إصلاحي من خلفية سلفية
يعتبر محمود ديكو أحد أتباع المدرسة السلفية العلمية، وقد تأثر بالفكر السلفي أثناء دراسته في السعودية، وهو ما أهّله لأن يؤدي دوراً كبيراً في حركة الإصلاح والتجديد الفكري في بلاده. كانت هذه الخلفية الفكرية سبباً في علاقته بإياد آغ، زعيم حركة أنصار الدين السلفية، التي كانت تسيطر على أجزاء من شمال مالي قبل تدخل القوات الفرنسية والإفريقية مطلع 2013 لطرد الجماعات الإسلامية المسلحة من شمالي البلاد.
ومع ذلك، فإنه يصعب تصنيف ديكو بسهولة، فقد دافع بشدة عن الإسلام التقليدي في غرب إفريقيا، ودافع عن ثقافة مالي قبل الإسلام، وعن "تقديس التصوف" فيها.
ويعتبر ديكو خطيباً مفوهاً ناجحاً، وقد اشتهرت خطبه عبر الإذاعات المحلية منذ عقود، ويمتلك تأثيراً قوياً في توجيه بوصلة الشأن العام، فقد تزعّم الحراك الاحتجاجي الذي قاده الأئمة والدعاة في البلاد 2009، لإسقاط مدونة الأحوال الشخصية التي اعتبروها مخالفةً في الكثير من موادها لأحكام الشريعة الإسلامية.
وجرأة ديكو ليست جديدة، فقد كان ضليعاً في النصوص الدينية والتشريعية، العربية والفرنسية على حد سواء، فقد برز خلال التسعينيات عندما انتقلت مالي إلى الديمقراطية، وأصبح معروفاً بقدرته على التحدث علناً عن مسائل الدين والحوكمة، وفي بعض الأحيان السياسة الدولية. ويقول محللون إن تدخلات ديكو في قضايا الأخلاق العامة حظيت بشعبية واسعة لدى الجمهور المالي، وساعدت في إعلاء صورته، فيما ذهب البعض إلى الحديث بأن الإمام يسعى لمنافسة الرئيس كيتا على السلطة، واصفينه بأنه "خميني مالي"، لكنّ مقربين منه ينفون أن تكون لديه أي رغبة في السلطة.
ورغم أن ديكو لا يُبدي رغبة في ممارسة السياسة أو الوصول إلى الحكم، فإنه في الوقت ذاته أدى دور "صانع الملوك"، أي أن يكون هو من يختار الرئيس وأعوانه، وهذا ما حدث مع كيتا قبل احتجازه وإسقاطه.
صانع الرؤساء وهادمهم
يتحدث منتقدو الإمام ديكو عن دوره الكبير في وصول الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا إلى السلطة، وذلك بتعبئة الفعاليات المسلمة في البلاد للتصويت لكيتا خلال الانتخابات الرئاسية المنظمة في يوليو/تموز 2013. وكانت ضغوط المجلس الإسلامي -الذي يرأسه منذ 2008- وراء اعتماد الحكومة المالية لوزارة مكلفة بالشؤون الدينية، وتُعنى هذه الوزارة بتنظيم الحقل الديني، وتوفير بيئة حاضنة لمئات الطلاب من حملة الشهادات العليا في مجال التعليم العربي.
وتحمّس ديكو في البداية للحوار مع الجماعات الإسلامية المسلحة التي سيطرت على شمالي البلاد، وكلفته الحكومة المالية بالقيام بوساطة بينها وبين هذه الجماعات، قبل أن يتحول إلى داعم للتدخل العسكري الأجنبي، معتبراً أن "فرنسا تدخلت لمساعدة الشعب المالي بعد أن تخلت عنه دول مسلمة"، إلا أنه وبعد هذه السنوات عاد ديكو لاتهام فرنسا بأنها تحاول "إعادة استعمار مالي".
لكن، ها هو ينقلب على الرئيس كيتا وداعميه الفرنسيين
شكّلت حملة الاحتجاجات الجماهيرية المستمرة في مالي التحدي الأكبر لرئاسة إبراهيم أبوبكر كيتا منذ توليه السلطة في عام 2013. فقد نشأت حالة من عدم الرضا عن المشاكل الاقتصادية والفساد الحكومي، وكذلك بسبب فشل الحكومة في احتواء الوضع الأمني المتدهور الذي شهد تنافس جماعات مسلحة مختلفة على السلطة، وجعل مناطق كبيرة من البلاد خارج السيطرة.
واندلع الصراع متعدد الطبقات في مالي عام 2012، وقتل منذ ذلك الحين عشرات الآلاف من الأشخاص، وشُرد مئات الآلاف، في حين فشل التدخل العسكري الفرنسي غير المحبوب بشكل متزايد، إلى جانب قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة التي يبلغ قوامها 15000 فرد، في وقف انتشار العنف بالبلاد.
وفي الشهر الماضي، وبعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية التي حصلت في مارس/آذار الماضي، شكّل سياسيون معارضون من حركات المجتمع المدني "حركة 5 يونيو"، داعين إلى احتجاجات مناهضة للحكومة، ومطالبين كيتا بالاستقالة.
وقاد هذه الدعوات الإمام محمود ديكو، حيث حشد "إمام الشعب" عشرات الآلاف في العام الماضي، لإجبار رئيس وزراء مالي على الرحيل. وهو الآن يسقط الرئيس كيتا نفسه الذي دعم وصوله للحكم، الأمر الذي يُثير مخاوف باريس وقلقها.
الإمام يثير مخاوف فرنسا
تقول صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، إنّ باريس كانت تشعر بحالة من القلق حيال الحركة الاحتجاجية التي يقودها الإمام ديكو، إذ اندلعت هذه الاحتجاجات في الوقت الذي بدأت فيه باريس بتحقيق "انتصارات نوعية" ضد الجماعات الجهادية، بالإضافة إلى فشل كل الوساطات على يد أطراف متعددة منها الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، التي التقت الرئيس كيتا، وقادةُ حراك "5 يونيو" لإنهاء هذه الاحتجاجات، لكن دون جدوى.
وحاولت باريس مؤخراً إيصال رسائل وتحذيرات مبطّنة إلى ديكو وقادة الحراك ضد الرئيس كيتا، خلاصتها أن "أي تغيير في مالي يجب أن يكون تحت عين باريس"، وهو أمر يرفضه الحراك وزعيمه ديكو، المناهض بقوة للوجود الفرنسي في بلاده.
وبعد الانقلاب على كيتا، قال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، إن "فرنسا أبلغت بقلق بأمر التمرد الذي حصل في مالي، وتدين بشدة هذا الحدث الخطير"، مؤكداً أن باريس "تشاطر المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا الموقف الذي عبّرت عنه، ودعت فيه إلى حماية النظام الدستوري".