ما برح شباب الجزائر أن يقود حراكاً ثورياً ليساهم في إصلاح بلاده أملاً في أن ينصلح له الحال أيضاً، إلا وأجبرته الأوضاع على أن يعود لمغامرات الموت في عرض البحر هرباً من مأساة حياته.
فأسرار المهاجرين غير الشرعيين عبر قوارب الموت، أو ما يُسمون في الجزائر "الحرَاقة"، مليئة بالأحزان بقدر ما فيها من مغامرات، وتكسوها الحسرة أكثر مما يدفعها الأمل للبحث عن مستقبل أفضل.
فيصل، شاب جزائري ينحدر من غرب الجزائر يروي لـ"عربي بوست" قصته المثيرة مع قارب الموت الذي أوصله إلى إسبانيا رفقة بعض الشباب ممَن قرروا الهجرة غير الشرعية بحثاً عن العيش الكريم بعد أن تملكهم اليأس والحرمان في بلادهم وفقدوا الأمل في الحياة ففضلوا الفرار إلى الضفة الأخرى في مغامرة كادت أن تودي بحياتهم.
يقول الشاب فيصل إنه قرر الهجرة غير الشرعية بعدما فقد الأمل في تحسين وضعه المعيشي، فاضطر لجمع المال لدفع تكاليف الرحلة التي فاقت قيمتها 2000 دولار، واتخذ القرار مع بعض أصدقائه الذين كانوا يستعدون للهجرة معه أيضاً.
تعرّف فيصل على منظم الرحلة بمساعدة شاب عرض عليهم فكرة الهجرة -الحرقة- والانطلاق من شاطئ صغير بمدينة مستغانم غرب الجزائر، وتفاوضوا على كل شيء في هذه الرحلة المثيرة.
استرجع فيصل شريط ذكريات المغامرة، وقال: "لم أكن أتخيل يوماً أنني سأغامر بحياتي وأرتاد قارب موت، ووجدت نفسي ماكثاً في عُرض البحر لساعات طويلة بسبب توقف محرك القارب، فقد نفد الوقود ونفدت المؤونة ولم يعد بحوزتنا قطرة ماء، وفقدنا اتجاهنا وضاعت منا بوصلة الطريق، وأخطأنا المسار المؤدي لمدينة إلى ألميريا".
ويواصل فيصل: "قضينا وقتاً طويلاً في عرض البحر وكان من المقرر ألا تستغرق الرحلة أكثر من 22 ساعة لكن ما حدث لم يكن في الحسبان، فبسبب نفاد الوقود بقينا في الماء أكثر من 36 ساعة إضافية حتى اعتقدنا وقتها أننا سنموت جوعاً وعطشاً، لولا تدخل بحارة إسبان وقدموا لنا يد المساعدة وأخذونا إلى مركز العبور ومن هناك فر الجميع لوجهات مختلفة".
لم تكن الأمور يسيرة لفيصل خلال فترة تواجده بإسبانيا التي استمرت بضعة أيام فقط، ولم يستطع الحصول على أية فرصة للعمل بسبب إقامته غير الشرعية، فقرر الهجرة إلى فرنسا لدى أحد أقاربه الذي عرض عليه الإقامة بمدينة مرسيليا وأن يساعده في تحسين ظروفه المعيشية، ووظفه بأحد المطاعم بطريقة غير شرعية مقابل الحصول على ما يقارب 40 دولاراً في اليوم، يحاول من خلالها أن يدبر ما يحتاجه لاستخراج الإقامة الشرعية، وإن كانت صعبة المنال.
457 مهاجراً في يوم واحد
رغم ما يعانيه العالم من تفشي جائحة كورونا، والوضع الصحي المقلق لم يتراجع شباب جزائريون عن التفكير في الهجرة غير الشرعية بعد توقفها لأكثر من عام تقريباً بسبب الحراك الشعبي، وانتشار كورونا الذي أغلق كل المنافذ.
عادت قوارب الهجرة للنشاط مجدداً مع بداية شهر أغسطس/آب الجاري، الذي شهد انطلاق عشرات القوارب من السواحل الغربية للبلاد وعلى متنها ما يقارب 457 مهاجراً غير شرعي بينهم أطفال قُصَّر، ليصلوا إلى سواحل أليكانتي وموريس الواقعة جنوب شرق إسبانيا في أقل من 24 ساعة، وكان قد سبقهم بعدة أسابيع ما يزيد على 100 شاب آخر وصلوا سواحل إيطاليا مع بداية شهر يوليو/تموز الماضي 2020.
وكشفت تقارير صحافية إسبانية مع مطلع شهر أغسطس/آب الجاري أنه خلال يومين فقط وصل أكثر من 400 مهاجر جزائري إلى السواحل الإسبانية، قدموا على متن 31 قارباً، وتم وضعهم في مخيمات تسهر عليها الشرطة الإسبانية.
وكتبت صحيفة "الإسبانيول" تقريراً عن وصول 457 مهاجراً جزائرياً إلى ساحل جزيرة موريس، وأن الشرطة الإسبانية قد أوقفتهم واحتجزتهم في وقت تعاني فيه السلطات من أزمة في مقار الاحتجاز ومعدات الوقاية الصحية بسبب جائحة كورونا والخوف من انتشار الفيروس بين المهاجرين.
ماذا يحدث في الجزائر؟
بهذا العنوان تساءلت عديد الصحف والقنوات التلفزيونية الإسبانية، بعد وصول 457 حراقاً جزائرياً على متن 31 قارباً في ظرف 24 ساعة فقط إلى سواحل مورسيا ومدينة كارتاخينا تحديداً جنوبي البلاد، حيث وصفته الصحف بـ"الإنزال غير المسبوق"، ما اضطر سلطات المدينة لإقامة مخيم خاص لإيوائهم بميناء كارتاخينا، مع تسجيل 7 حالات إصابة بفيروس كورونا المستجد.
وفقد عديد الشباب في الجزائر الأمل في تحسن الأوضاع الاجتماعية الاقتصادية لبلادهم، أصيبوا بإحباط شديد، بعد فشل الحراك الشعبي في إحداث التغيير المنشود، وعاد هؤلاء الشباب إلى خيار "الحرقة" إلى الضفة الأخرى على أمل أن يجدوا الجنة المنشودة.
وتوقفت الهجرة غير النظامية في الجزائر تماماً خلال فترة الحراك الشعبي منذ 22 فبراير/شباط 2019، ولم تسجل المصالح المعنية أية محاولة لـلهجرة غير الشرعية "الحرقة" نحو السواحل الأوروبية، وهؤلاء الشباب المهاجر كانوا عنصراً فاعلاً في المسيرات الشعبية والمظاهرات السلمية ويجوبون الشوارع وسط آمال عريضة لإحداث تغيير سياسي جذري من شأنه تحسين الواقع الاجتماعي والاقتصادي للبلاد.
وبعد عام ونصف العام تقريباً، عادت الظاهرة من جديد وبوتيرة قوية بعد أن تبخرت أحلام الشباب في إحداث ذلك التغيير الذي انتظروه كثيراً، ليعود القلق والإحباط السياسي والاجتماعي في قلوبهم، ما جعلهم يقررون الهجرة للسواحل الأوروبية ولو عبر قوارب الموت.
محاولات فاشلة للهجرة غير النظامية
في وقت قرر فيه الشباب التوقف عن الهجرة من بلادهم والاستمرار للمساهمة في بنائها بالمشاركة في الحراك الشعبي الذي أطاح بمنظومة حكم فاسدة، رفع الشباب عدة شعارات وهتفوا كثيراً حينما شعروا بالأمل، ومن هذه الهتافات: "مكاش الحرقة نعيشوا في بلادنا"، و"لن نهاجر، لن نهاجر الجزائر الجزائر".
ثم سرعان ما عاد الكثير من الشباب إلى المغامرة مجدداً بحياتهم والبحث عن الهجرة غير الشرعية عبر قوارب الموت يأساً من أوضاع البلاد، ورغم كل المخاطر التي تتربص بهم في عرض البحر وغربة غير مأمونة العواقب.
كشفت مصادر أمنية جزائرية لـ"عربي بوست" أن خفر السواحل أحبط محاولات كثيرة للهجرة السرية خلال شهر يوليو/تموز الماضي لنحو 472 مهاجراً كانوا على متن مراكب تقليدية الصنع وتشكل خطراً كبيراً على مرتاديها في كل من محافظات وهران وتلمسان غربي البلاد، وعنابة وسكيكدة والطارف شرقي البلاد.
وقالت المصادر إن حرس السواحل تمكنوا خلال الأسبوع الجاري أيضاً من إحباط عدة محاولات هجرة غير شرعية وإنقاذ 132 شخصاً كانوا على متن قوارب تقليدية الصنع بكل من تلمسان وعين تموشنت والشلف وسكيكدة وعنابة والطارف.
واستناداً لما أكدته المصادر لـ"عربي بوست" فقد تمكن حرس السواحل قبل أيام فقط بمحافظة سكيكدة شرق البلاد، من توقيف 26 مهاجراً غير شرعي تتراوح أعمارهم بين 28 و40 سنة، من بينهم فتاتان ورضيع لا يتجاوز عمره 4 أشهر، على متن قارب خشبي قبالة السواحل الغربية.
كما رصد أيضاً حرس السواحل قارباً خشبياً، في أحد الأيام، على بعد 9 أميال بحرية شمال شرق رأس بوقارون ببلدية الشرايع أقصى غرب ولاية سكيكدة، واكتشف أنه على متنه عدد من المهاجرين غير الشرعيين.
أرقام وإحصائيات
تشير الأرقام التي كشفت عنها منظمة حقوقية للدفاع عن حقوق الإنسان بالجزائر إلى أن عدد الأشخاص الذين أُحبطت محاولة هجرتهم ما بين يناير/كانول الثاني وديسمبر/كانون الأول من سنة 2018 بلغ 3983 مهاجراً.
وكشف التقرير الذي أعدته المنظمة أنه من بين هؤلاء المهاجرين 287 امرأة إلى جانب 1126 قاصراً، حاولوا هجرة الجزائر عبر السواحل إلى الضفة الأوروبية للبحر الأبيض المتوسط، وكل من حاولوا الهجرة غير النظامية من الجزائر نحو أوروبا عام 2018 لقوا حتفهم، وعددهم 2160 جزائرياً ماتوا في البحر.
وأحصى هذا التقرير إحباط 9753 محاولة هجرة، كما لقي 3 آلاف شخص حتفهم أو فُقدوا أثناء محاولة عبور المتوسط منذ سنة 2009 إلى سنة 2018.