لم تُواجه إيران هذا القدر من الضغط الاقتصادي الشديد منذ الغزو المغولي في القرن الـ13. وهذه هي وجهة نظر الاقتصادي الإيراني البارز سعيد ليلاز، الذي من الواضح أنّ تهكّمه كان محاولةً لإحداث صدمة لدى النخبة السياسية الإيرانية حتى تتحرّك للعمل على اقتصاد البلاد المُترنّح، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
وبغض النظر عن ما إذا كانت الجمهورية الإسلامية تتعرّض للقدر نفسه من الضغط مثل سابقتها من العصور الوسطى أم لا؛ فلا خلاف تقريباً على أنّ البلاد تُواجه وضعاً اقتصادياً صعباً. ومن المرجّح أن ينكمش الاقتصاد بنسبة 6% هذا العام وفقاً لصندوق النقد الدولي. كما وصل معدل التضخّم إلى 26% رسمياً، ويُواصل الارتفاع، بينما وصل الريال إلى أدنى مستوياته التاريخية مقابل الدولار. وفي هذه الأثناء، كانت الحكومة غير مستعدة وغير قادرة على اتّخاذ المزيد من الخطوات الحاسمة للسيطرة على جائحة فيروس كورونا، التي حصدت بالفعل أرواح أكثر من 19 ألف شخص حسب الإحصاءات الرسمية، رغم أنّ حصيلة الوفيات الفعلية ستكون أكبر بكثير على الأرجح.
احتمال العودة للمحادثات
وجاء التأثير المزدوج للعقوبات الأمريكية وجائحة فيروس كورونا ليترك الاقتصاد الإيراني في موقفٍ شديد الضعف. ومن المرجّح أن تزداد الأمور سوءاً إبان تصالح الحكومة مع حقيقة أنّ استراتيجيتها لتمويل الموازنة ستفشل في تحقيق أهدافها. ورغم أنّ الاقتصاد ليس العامل الوحيد المؤثر، لكن الأوضاع المتدهورة ستزيد دون شك احتمالات إجراء محادثات مع الغرب على المدى المتوسط.
وبدءاً من مايو/أيار عام 2018، قطعت حملة "الضغط الأقصى" الأمريكية العلاقات المالية لإيران مع العالم الخارجي ودمّرت صادراتها النفطية. إذ غرقت إيران في حالة ركود، وارتفع التضخم، واهتزت سوق الصرف الأجنبي. وأدّى الضغط الاقتصادي إلى مضاعفة الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية المستشريين داخل إيران.
ولكن بعد نحو عام من فرض العقوبات، بدأ الاقتصاد يُظهِر علامات الاستقرار. إذ سيطرت الحكومة والبنك المركزي على قيمة الريال، وتحسّنت التجارة غير النفطية. بينما ركّز المسؤولون والتجار الإيرانيون انتباههم على جيرانهم، اعتماداً على المنطق القائل إنّ التجارة العابرة للحدود مع دول مثل أفغانستان والعراق وتركيا سيكون من الصعب على الولايات المتحدة إيقافها. ولم يتجاوز الاقتصاد منطقة الخطر، ولكن بحلول نهاية عام 2019 توصّل قادة إيران إلى أنّ لديهم بعض الأمل في تحمّل الضغط الأمريكي.
ضربة قاصمة
لكن الجائحة وجّهت ضربةً قاصمة للنظام، حيث نجح الفيروس في ما عجزت عنه الولايات المتحدة من إجبار جيران إيران على إغلاق حدودهم. ونظراً لأنّ أفغانستان والعراق وتركيا وغيرها من الدول طبقت احتياطات الصحة وأغلقت معابرها الحدودية؛ وجدت الشركات الإيرانية نفسها فجأةً محصورةً بوسائل محدودة للغاية في تصدير البضائع. وأدّى ذلك إلى الحد من وصول الحكومة للعملات الأجنبية، وأرسل موجات صادمة في الأسواق المحلية.
وتفشّت آثار الوباء في أوصال المجتمع الإيراني. وكانت الحكومة مليئةً بالثقة في الأيام الأولى للأزمة، لكن مواجهة الفيروس أثبتت أنّها شديدة الصعوبة. إذ ذكرت النسخة الفارسية من شبكة BBC البريطانية الأسبوع الماضي أنّ معدل الوفيات يُساوي على الأرجح ثلاثة أضعاف الأرقام الرسمية، بينما يصل عدد الحالات الإجمالي إلى ضعف العدد الذي أبلغت عنه الحكومة تقريباً. وكانت الآثار الاقتصادية لذلك كبيرة. فمع تراجع الاستهلاك المحلي وإغلاق الشركات، فقد مئات الآلاف من الإيرانيين وظائفهم. بينما فقد الريال نحو 40% من قيمته مقابل الدولار في العام الجاري، و20% منذ أوائل يونيو/حزيران نتيجة الاضطرابات التجارية والفساد.
وفي ربيع العام الجاري، أطلقت إدارة حسن روحاني حزمة تحفيز مالي بنحو 6% من إجمالي الناتج المحلي. وهو رقمٌ أعلى من المتوسط بالنسبة للدول النامية، ولكنّه ليس كافياً رغم ذلك. ولم تكُن الحكومة قادرة أو مستعدة على فعل المزيد من الناحية المالية: غير قادرة نظراً للحالة المالية في البلاد وقلة المساعدات الخارجية، وغير مستعدة نظراً لأولويات الإنفاق الأخرى. وفي خضم تفشّي فيروس كورونا، عزّزت طهران الإنفاق العسكري بنسبة 9% مقارنةً بالعام الماضي (لتعويض التضخم)، مع تلقّي الحرس الثوري الإسلامي نصيب الأسد من زيادة التمويل.
كما كشفت الجائحة نقاط الضعف في ميزانية الحكومة بوضوحٍ أكبر. إذ تُموّل طهران نفقاتها السنوية عبر ثلاثة مصادر رئيسية: صادرات الطاقة، وعائدات الضرائب، والخصخصة/إصدار السندات. وتقف المصادر الثلاثة على أرضٍ غير ثابتة. حيث بنت إيران ميزانيتها على التوقّع غير الواقعي مطلقاً بأنّها ستستطيع تصدير مليون برميل يومياً بسعر 50 دولاراً للبرميل. وفي الواقع، ستُصدّر على الأرجح نصف كمية النفط وبنصف السعر تقريباً، باحتساب التخفيضات الكبرى التي تُقدّمها إيران للمشترين. كما ستنخفض عائدات الضرائب على الأرجح أيضاً، بالنظر إلى التأثير غير المتوقع لفيروس كورونا.
خطة للخصخصة والحلول قصيرة المدى
وفي ظل محدودية العائدات النفطية والضريبية، تُضاعف إيران جهودها في خطة الخصخصة، اعتماداً على بورصتها المحمومة لجمع السيولة. إذ عرضت شركاتٌ مملوكة للحكومة مثل Shasta، شركة الاستثمارات الضخمة، مؤخراً بعض الأسهم في بورصة طهران للمواطنين الذين تدافعوا عليها بفضل الوعود بعوائد عالية.
وبفضل تشجيع المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي وروحاني، ارتفعت قيمة البورصة بشكلٍ كبير لدرجة أنّها تضاعفت بين منتصف مارس/آذار ومطلع يونيو/حزيران. ومنذ يونيو/حزيران وحتى الأسبوع الجاري تضاعفت قيمة البورصة من جديد لتصير أفضل الأسواق المالية أداءً في العالم، وربما تكون على الأرجح فقاعةً على وشك الانفجار لتقضي على مدخرات الكثير من الإيرانيين. كما ستحاول الحكومة تغطية العجز من خلال إصدار كمية ضخمة من السندات العام الجاري، مما سيثقل كاهلها بجبلٍ من الديون. وفي حال لم تلق السندات اهتماماً كافياً، خاصةً بالنظر إلى الاستثمارات الجذابة الأخرى، فربما يقوم البنك المركزي بإقراض المال للبنوك المملوكة للحكومة حتى تشتري السندات، مما سيُؤدّي إلى تفاقم الضغوط التضخّمية.
ويُمكن للحكومة بالطبع أن تحاول خفض النفقات أو زيادة العائدات بأساليب أخرى، مثل زيادة الضرائب. لكن هذه الخطوة ستكون محفوفةً بالمخاطر حتى في أفضل الظروف، ولا يبدو أنّ الحكومة تمتلك الإرادة السياسية لتنفيذها. إذ اندلعت التظاهرات في كافة أنحاء البلاد حين حاولت الحكومة خفض الدعم آخر مرة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني. وقتلت القوات الأمنية عشرات المواطنين المحتجين.
الاحتياطي على وشك النفاذ
ومع تعرّض الاقتصاد لضغوط شديدة، يستخدم صناع السياسة الإيرانيون استراتيجيات قصيرة الأمد لتغطية النفقات. وليست أمامهم الكثير من الخيارات نظراً لأنّ القيادة السياسية قرّرت بشكلٍ شبه مؤكد انتظار الانتخابات الأمريكية في نوفمبر/تشرين الثاني قبل تقرير الخطوة التالية.
وبغض النظر عن هوية من سيفوز برئاسة الولايات المتحدة، فسيكون من الصعب على قادة إيران تحمّل أيّ ضغط اقتصادي إضافي. وقدّرت الولايات المتحدة أنّ إيران تستطيع الوصول فقط إلى 10% من إجمالي احتياطياتها للنقد الأجنبي، مما يعني أنّ إيران تمتلك أقل من 10 مليارات دولار في صندوق الطوارئ -أي ما يُعادل نحو أربعة أشهر من الواردات.
كما سعت إيران إلى الحصول على قرضٍ بقيمة خمسة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، ولكن دون جدوى. ومع استرداد التجارة العالمية لعافيتها خلال الشهور المقبلة، فمن المرجّح أن يخف الضغط على العجز التجاري بعض الشيء، مما سيقلل احتمالية وقوع أزمة ميزان المدفوعات الوشيكة. كما تمتلك إيران مبالغ لا حصر لها من الأموال غير المسجلة في الدفاتر، والتي جمعتها على مرّ السنوات داخل المؤسسات الدينية ومختلف المنظمات التابعة للمرشد الأعلى. ومن شأن هذا أن يُزوّد إيران بغطاءٍ مالي، ولكنّه ليس حلاً مستداماً.
ومسألة التفاوض مع الولايات المتحدة ستظل قراراً سياسياً، وليس اقتصادياً. إذ ستعارض إيران المحادثات بشدة في حال ظل موقف واشنطن يتّسم بالعداء المستمر. ومع ذلك، في حال قرر الرئيس الأمريكي في يناير/كانون الثاني 2021 التفكير في مسارٍ دبلوماسي موثوق مع طهران، فسيمتلك بين يديه نفوذاً اقتصادياً كبيراً يُمكنه استغلاله.