بحسب ما نعرفه، فإنّ التفجير الذي دمَّر جزءاً كبيراً من ميناء العاصمة اللبنانية بيروت في وقتٍ مُبكّر من مساء الرابع من أغسطس/آب، كان مجرد حادثة، ولكنّها في هذه الحالة حادثةٌ بالاسم فقط.
إذ إنّ تخزين أكثر من 2750 طناً من نترات الأمونيوم شديدة الانفجار لنحو سبع سنوات في ظروف غير مواتية بجوار منطقة مكتظة بالسكان، رغم التحذيرات المتكرّرة، هو أشبه بالجلوس فوق قنبلةٍ موقوتة، حسب تعبير صحيفة موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
جريمة جماعية للنخب اللبنانية
ومن هذا المنطلق، فإنَّ هذه الكارثة ليست سوى أحدث مظهر من المظاهر الدراماتيكية المُدمّرة للخلل الوظيفي الذي اتّسمت به الدولة اللبنانية لثلاثة عقود. وهو من صنيع نخبة سياسية مفترسة، سيطرت على مؤسسات الدولة بقبضةٍ من حديد ومصّت دماءها حتى الجفاف، مع ترك الخدمات العامة للمواطنين العاديين تنهار إلى درجة اختفائها من الوجود.
إذ أدّت شبكات النفوذ السياسي والمحسوبية والفساد التي بنوها إلى تقويض المساءلة، والأصول القانونية، والسلوك المهني على كافة المستويات. كما دفع سلوكهم بلبنان إلى حافة الإفلاس وزاد فقر الكثير من السكان.
ووصف عنوان صحيفة The Daily Star اللبنانية الوضع باختصارٍ رائع: "مسؤولو لبنان هم ألد أعدائه". وما لم تقبل تلك النخب السياسية بمطالبات الإصلاح الأساسية، فسوف ينحدر لبنان أكثر إلى الهاوية الاقتصادية، وربما يُسفر الغضب الشعبي عن اضطرابات وعنف.
وقد يؤدي إلى تسريع انهيار الاقتصاد اللبناني
كما سيُؤدّي الانفجار إلى تسريع الانهيار الاقتصادي اللبناني، وإفقار جزءٍ أكبر من السكان البالغ عددهم 6.8 مليون نسمة، وواحد من كل خمسة فيهم هو لاجئ سوري.
وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 80% من قيمتها، منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول، ما أفقر المواطنين الذين يُكافحون الآن لشراء السلع الأساسية التي يجري استيراد غالبيتها. بينما رفضت البنوك إلى حدٍّ كبير تسليم مدخرات عملائها، في وقتٍ تُصارع فيه ضد الإعسار المالي الواضح. وفي السادس من أغسطس/آب، أعلن المصرف المركزي اللبناني عن دعمه للشركات والأفراد الساعين لإصلاح الأضرار، لكن الخبراء لا يزالون متشكّكين في قدرة المؤسسة على ضخ ما يكفي من دولارات احتياطيات نقدها الأجنبي المتراجعة، بما يصنع فارقاً حقيقياً.
والآن ازدادت أزمة لبنان القومية سوءاً، إذ سيُمثّل جلب ما يكفي من إمدادات الغذاء والدواء تحدّياً بعد شلل مرفأ بيروت، ومع أرجحية عدم قدرة المرافئ الأصغر بطول الساحل اللبناني على تحمّل الكثير من العبء، كما دمّر التفجير صوامع تخزين الحبوب الرئيسية ومخزون المعدات الطبية.
المفارقة أنه بينما تعاني البلاد كارثة قومية فإن الساسة اللبنانيين يواصلون مناكفاتهم الطائفية.
إذ يقوم الإعلام المحسوب على التيار الوطني الحر، وهو تيار رئيس الجمهورية ميشال عون وصهره الوزير جبران باسيل (ماروني متحالف مع حزب الله)، بالهجوم على فكرة تشغيل مرفأ طرابلس، إذ صرح ناجي الحايك، أحد مستشاري باسيل، عبر صفحته على فيسبوك، قائلاً: "كأنه مطلوب أن يصبح التموين بيد مرفأ طرابلس (شمال)، الواقع إلى حد ما في مرمى سيطرة الإسلاميين".
وستجد الشركات التي تحمّلت أزمة كوفيد-19 حتى الآن صعوبةً أكبر في استيراد المعدات والمواد اللازمة للحفاظ على استمرار العمل أو تصدير منتجاتها للخارج، بينما ستنخفض العائدات الضريبية والجمركية أكثر، وهو ما سيُجبر الحكومة على تمويل ميزانيتها من خلال طباعة المزيد من الأوراق المالية، وبالتالي بدء جولة جديدة من التضخّم المُفرط.
المخاوف من أزمة غذائية بدأت قبل تفجير بيروت
وكان لبنان في حاجةٍ إلى مساعدات إنسانية، حتى قبل وقوع الكارثة الأخيرة، والآن صارت تلك الحاجة حاجةً ماسة بزيادة حجم المساعدات المطلوبة، خاصةً في الأطقم والإمدادات الطبية، والغذاء، لتعويض المخزونات المدمّرة، ومواد البناء، لإصلاح الملاجئ المُتضرّرة.
وسبق أن حذر رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب، قبل هذا التفجير، من أزمة غذائية في بلاده و"مجاعة" في الشرق الأوسط، والتي يقول إنها قد تؤدي لتدفق جديد للهجرة إلى أوروبا. وحثّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على إنشاء صندوق طوارئ مخصص لمساعدة المنطقة المعرضة للصراعات.
وربما لا تزال الفرصة سانحةً أمام القيادة السياسية اللبنانية لفعل الشيء الصحيح وإجراء الإصلاحات التي طال انتظارها كما طلب الشعب اللبناني، والوفاء باشتراطات المانحين الدوليين لإنقاذ البلاد اقتصادياً.
ولا يُمكن السماح باستمرار الترتيبات السياسية الفاسدة التي أفلست البلاد، وأدّت في النهاية إلى كارثة الرابع من أغسطس/آب، لقد انتهى هذا العصر، ولن يُعاد إحياء تلك الترتيبات بواسطة جرعات إعجازية من النقد الأجنبي.
والآن تُواجه تلك النخب غضب مواطني البلاد من جديد، كما حدث في أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، حين نزل مئات الآلاف من المواطنين إلى الشوارع احتجاجاً على الساسة في مواقع المسؤولية. وجاءت تلك الاحتجاجات في أعقاب واقعةٍ مُذلّة أخرى عجزت الحكومة خلالها عن السيطرة على حرائق الغابات، بعد سنوات من الإهمال في صيانة مروحيات مكافحة الحرائق التي وصلت البلاد في صورة تبرعات.
وتُعَدُّ الكارثة الأخيرة فشلاً مماثلاً، ولكن على نطاقٍ أوسع وأكثر فتكاً، ويبدو من المرجّح أن تتمخّض هذه الكارثة عن غضبٍ شعبي أكبر.
فاللبنانيون في حالة غليان على الشبكات الاجتماعية، كما أنّ الجماعات الناشطة، التي أدّت دوراً بارزاً في حركة أكتوبر/تشرين الأول الاحتجاجية، بدأت في الاحتشاد من جديد ورفع شعارها الشهير للمطالبة بإسقاط النخب الراسخة في البلاد: "كلن يعني كلن".
وإن كانت هناك فرصة أمام النخب اللبنانية لإصلاح ما أفسدوه، فسوف تكون الفرصة الأخيرة، إذ سيتعيّن عليهم، هم والساسة الذين ساعدوهم في الصعود، والمسؤولون الذين ساعدوا في تعيينهم، مواجهة الجمهور اللبناني الذي تعرّض -بعد سنوات عديدة من الإساءة والإهمال- للإرهاب على يد حكومته بواسطة انفجار ذي حجم وقوة دمار تاريخية كان يُمكن تجنّبه بسهولة. والجمهور له كل الحق في أن يغضب، حيث إنه لم يعُد لديه الكثير ليخسره.