من الطبيعي أن تتجه أصابع الاتهام بشأن انفجار مرفأ بيروت إلى إسرائيل، لكن السؤال هو كيف ترى تل أبيب ذلك التدمير الشامل الذي حل بالمرفأ الأهم في لبنان وأودى بحياة مئات القتلى والجرحى وأحدث ضرراً اقتصادياً يُقدر بالمليارات في بلد على شفا الإفلاس؟
صحيفة Haaretz الإسرائيلية نشرت تقريراً بعنوان: "تحليل: حزب الله سيعاني من توابع انفجار بيروت لوقت طويل"، ركز على تداعيات الانفجار على ذراع إيران الأطول والأقوى في المنطقة، دون التوقف طويلاً عند طبيعة الانفجار أو الجهة التي تقف وراءه، حتى وإن كان حادثاً عارضاً.
تكهنات بشأن طبيعة الانفجار
في أعقاب الانفجار الذي وقع يوم الثلاثاء 4 أغسطس/آب في مرفأ بيروت، انتشرت مقاطع الفيديو المصورة بواسطة الهواتف المحمولة لتنقل مشاهد مروعة تنمّ عن حجم الانفجار الهائل، وتثير في الوقت نفسه التكهنات بشأن من يقف وراء الحادث ولماذا.
في البداية، كانت القصة المتداولة بشأن الحادث أن مستودعاً يحتوي على عدة أطنان من المفرقعات والألعاب النارية المقرر استخدامها في احتفالات قد انفجر. بعد ذلك، نفت مصادر عسكرية رسمية تلك الرواية، وقالت إن المستودع كان يحتوي على مواد قابلة للاشتعال أو متفجرة، موضحة كذلك أنها مادة "نترات الأمونيوم"، كانت مخزنة في أحد المستودعات منذ ست سنوات.
ومع ذلك، وفي الوقت الذي كانت فيه السلطات اللبنانية لا تزال في خضم تحقيقاتها الحثيثة للتوصل إلى نتائج أولية بشأن الواقعة، سارع بعض الناس إلى التلميح بأن الحادثة لم تكن عرضاً أو نتيجة إهمال ما، بل هجوماً إرهابياً يستدعي إلى الذاكرة التفجيراتِ التي كانت تهز لبنان خلال الحرب الأهلية في الثمانينيات، أو الانفجار الضخم الذي قتل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري عام 2005. وكان مضمون تلك التلميحات أن انفجار المرفأ ناتج عن تفجير نفّذته جهات لبنانية.
وُجهت أصابع اتهام إلى إسرائيل أيضاً، معززةً بشروح تشير إلى أن انفجار المرفأ يخدم بعض أهداف الحملة التي تشنها إسرائيل على إيران. واستدل بعض الخبراء اللبنانيين بحوادث اشتعال النيران في بعض السفن الإيرانية التي كانت ترسو في ميناء بوشهر المطل على الخليج قبل بضعة أسابيع، وهو حادث نسبته جهات إلى إسرائيل، بالإضافة إلى حرائق وانفجارات أخرى وقعت في إيران خلال الفترة الماضية.
ألغاز توقفت عندها الصحيفة العبرية
بعض الألغاز الأخرى التي سيتعين على الأجهزة الأمنية اللبنانية حلُّ غموضها تتعلق بملكية المستودع الذي انفجر، وطبيعة "المواد القابلة للاشتعال" التي كان يحتويها، وما لا يقل أهمية عن ذلك، ما إذا كانت هناك كميات أخرى من المواد القابلة للاشتعال مخزنةً في المرفأ، أو في أحياء سكنية أو في مناطق حساسة أخرى.
قد يكون للإجابة على هذا السؤال الأخير آثار كبيرة، ليس فقط على الطريقة التي يعمل بها حزب الله ويدير بها أموره في لبنان، ولكن أيضاً على المعركة السياسية المستعرة الآن في البلاد من جرّاء الأزمات الاقتصادية والصحية التي فاقمتها جائحة كورونا. وحتى إن تبيّن أن الانفجار نتج عرضاً عن حادث وليس عن هجوم متعمد، فإن النطاق الهائل للأضرار والعدد الكبير من القتلى والجرحى سيثير أسئلة واضحة بشأن تخزين الذخائر والصواريخ والبنادق والمتفجرات في مناطق مأهولة بالسكان.
مخاطر أسلحة حزب الله
من الجدير بالذكر أن اللبنانيين على دراية جيدة بخريطة قواعد حزب الله ومخزونه من الصواريخ، فقد وردت تقارير عنها في وسائل الإعلام وتناقلتها مواقع الإنترنت، وكل من يعيش بالقرب من أحد تلك المواقع يعلم التهديد الذي يشكّله احتمال وقوع حادث انفجار أو هجوم إسرائيلي متعمد، والآن، هذا الانفجار الذي وقع في المرفأ يجعل هذا التهديد أكثر واقعية.
ومع ذلك فإن تفكيك وإبطال فعالية هذه المخزونات، أو إبعادها عن المناطق المأهولة بالسكان، مسألةٌ حساسة من الناحية السياسية، لأنها تعني نزع سلاح "المقاومة اللبنانية" وترك البلاد خالية من أي قوة قادرة على ردع إسرائيل.
وقد امتنعت القيادة السياسية في لبنان عن المطالبة مباشرة بنزع سلاح حزب الله، على الرغم من أن حقيقة أن الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية تصنّفه منظمةً إرهابية تقوّض مساعي بيروت للحصول على مساعدة مالية أو قروض من صندوق النقد الدولي لتخليص البلاد من أزمتها المالية.
تغييرات في الداخل اللبناني
غير أن انفجار مرفأ بيروت الآن قد يؤدي على الأقل إلى بعض التغييرات في الخطاب العام، وربما حتى بين بعض القادة السياسيين، وقد يفضي إلى المطالبة بإزالة مستودعات الأسلحة والذخيرة التابعة لحزب الله من المراكز السكانية، وهو ما يرجح أن يرفضه الحزب، لأن نقلها سيجعلها عرضة للعمليات العسكرية الإسرائيلية التي يمنعها في الوقت الحالي الافتراض بأن إسرائيل لن ترغب في قصف المدنيين ومناطقهم.
ثمة مستوى أعلى من المطالب، لكنه يعتمد على تطورات رد الفعل العام على الانفجار، وما إذا كانت حركة الاحتجاج في البلاد ستعتبره تهديداً وطنياً تتحمل القيادة السياسية المسؤوليةَ عنه.
وفي الأيام المقبلة، ستحاول كل من الحكومة وحزب الله على الأرجح إثبات أنها صاحبة اليد العليا، وقد تعلن الحكومة التزامها بفحص كل مستودع خطير محتمل، من دون تعهد بإزالته، لتجنب المواجهة مع حزب الله.
رسالة إلى إيران؟
مع ذلك، وحتى إن كان مجرد حادثٍ عرضي، فإن انفجاراً بهذا الحجم في المرفأ الرئيسي بلبنان يبعث برسالة تحذير إلى إيران أيضاً، التي قالت قبل شهر واحد فقط إنها ستنشر سفناً وناقلات نفطية في لبنان.
إن قبول المساعدة الإيرانية لا ينتهك ظاهرياً العقوبات الأمريكية، ومع ذلك فإن المجتمع الدولي وإسرائيل والولايات المتحدة على وجه الخصوص، يخشون من أن تبدأ هذه السفن، إذا وصلت إلى لبنان، في إرساء خط منتظم لنقل الإمدادات، ليس فقط من النفط والدقيق والأدوية، بل وأيضاً الأسلحة والذخائر وأجزاء الصواريخ.
وهكذا، حتى إن استطاعت بعض مرافئ بيروت أن تستأنف عملياتها، فإن خوف لبنان من هجوم –إسرائيلي أو غير ذلك- يستهدف السفن الإيرانية سيصبح حقيقةً محتملة الحدوث، حتى وإن لم تكن هناك نية لذلك في تلك المرحلة.
وبعيداً عن التداعيات السياسية، تعرضت الحكومة اللبنانية من جراء هذا الهجوم لضربة هائلة لخط إمداداتها الأكثر حيوية، ما قد يؤثر على قدرتها على جلب السلع الأساسية والحفاظ على حركة التصدير والاستيراد بطريقة منتظمة، ويضر بأحد مصادر الدخل الرئيسية في لبنان، ما يعني أن الانفجار وإغلاق المرفأ سيكون له دوره في الاضطراب السياسي الذي يهدد استقرار البلاد.