إن الأنقاض الرائعة باللون الأحمر في مدينة البتراء، التي كانت تزدحم في المعتاد بالسياح، صارت الآن خاوية على عروشها، إنها تجسد الأزمة الأردنية بشكل محزن.
لم يُصِب فيروس كورونا الأردن إصابة بالغة، إذ يقتصر عدد الوفيات على 11 فقط، لكن البلد الذي لطالما رآه الناس رمزاً للاستقرار في الشرق الأوسط، يعاني من عواقب الجائحة على أي حال. ومع عزوف السياح عن القدوم إلى البتراء، نضبت أيضاً النقود التي كانت تأتي من أحد مصادر الدخل الكبرى في البلاد؛ الحوالات من المهندسين والمديرين والنوادل العاملين في الخليج، الذين وجدوا أنفسهم فجأة بلا عمل.
مصدر ثالث للدخل لطالما اعتمد عليه بلد الملك عبدالله وهو الحلفاء الأثرياء، الذين اختفوا أيضاً بسبب قلق السعودية على ثروتها الخاصة مع انهيار أسعار النفط، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وعلى الضفة الأخرى من نهر الأردن توجد إسرائيل، التي راهنت عليها العائلة الملكية الهاشمية رهاناً بالغ الخطورة، حين اعترفت بالدولة اليهودية. ولا يبدو أن الجارة تهتم بالأردن بعد الآن أو حتى تتذكر ذلك المعروف، بل تهدد بضم أراضٍ في الضفة الغربية التي كانت تحت سيطرة الأردن في الماضي؛ بل تظل متمسكة بـ"الحماية الأخلاقية" عليها، وهو ما أدى إلى غضب شديد في أوساط السكان الفلسطينيين بالأردن.
الأزمة الأردنية تدخل منعطفاً جديداً
حين نظمت نقابة المعلمين الأردنيين، الجبهة المعارضة للحكومة منذ زمن، مسيرة إلى مكتب رئيس الوزراء الأسبوع الماضي، كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير. فقد هاجمتهم قوات مكافحة التمرد بالعصي، واعتقلت المحتجين، وضربت أحد المراسلين ليسقط على الأرض.
هذه الاستجابة القاسية، التي تخالف سمعة الأردن بصفته دولة أكثر هدوءاً وأقل عدوانية من جارتيها سوريا والعراق، جرس إنذار واضح، ويذكِّرنا بإحساس المملكة بانعدام الأمان.
تأتي تلك الاستجابة بعد أسابيع من حملة قمع أمني أوسع، جمد فيها الأردن تصريح النقابة واعتقل 13 من قادتها وعشرات من أعضائها، إلى جانب قمع أطياف سياسية أخرى.
وحظرت الحكومة أيضاً التغطية الإعلامية لهذه التطورات، وهو ما يشير إلى التوتر الشديد للملك عبدالله.
لم تعد هناك حاجة للوساطة الأردنية بين إسرائيل والسعودية
لأعوام، كان موقف الأردن الحساس بصفته حليفاً وفياً للغرب في منطقة شرسة، يلقى التقدير والعرفان عبر مساعدات مالية من حلفاء الولايات المتحدة وبريطانيا، وبالأخص السعودية.
لكن هذا قد تغير في الأعوام الماضية. فالحاكم الفعلي للسعودية، ولي العهد محمد بن سلمان، وكذلك الإمارات، يبنيان الآن علاقاتٍ مع إسرائيل في صمت، دون الحاجة إلى وسيط.
لقد انقلب الحال بكل تأكيد: فالأردن صار الآن معادياً بشدة لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الضفة الغربية، والتي أدت إلى توسع المستوطنات في الأعوام الماضية والتعهد بضم أجزاء من المناطق المحتلة التي يرغب الفلسطينيون في بناء دولتهم المستقبلية عليها.
وفي الوقت نفسه، يبدو حكام الخليج على استعداد لمسامحة إسرائيل، بل التغاضي كليةً عن المسألة وتهميش القضية الفلسطينية برمَّتها.
الأموال توقفت والملك عبدالله لا يستطيع السير وراء نهج الأمير محمد بن سلمان
سواء كان الأمر بهدف الضغط على الأردن، أو لأن أموال النفط بدأت تنفد مع انخفاض سعر البرميل، فإن المساعدات التي كانت تأتي من دول الجوار الثرية توقفت تماماً.
يقول مروان المعشر، نائب رئيس الوزراء الأردني السابق: "أظن أنه من الواضح أن عصر النفط، وما يعنيه من المساعدات التي تصل إلى الأردن من دول الخليج، قد ولَّى. وبسبب الظروف الاقتصادية والسياسية تراجعت هذه المساعدات منذ 2014. وأظن أن الدولة عزفت عن الاعتراف بذلك في بداية المطاف، لكنه صار واضحاً جداً الآن".
ويزيد من حدة الأزمة أن نصف سكان الأردن فلسطينيون.
يمكن أن يُظهر الملك "ولاءه" لولي العهد محمد بن سلمان إن دعم بحماسةٍ تقارُب العلاقات بين السعودية وإسرائيل، لكن هذا مستحيل في المناخ السياسي الحالي. فالملك لم يجد في نفسه القدرة حتى على دعم "المشروع التجريبي" الآخر للأمير، أي حربه على الحوثيين في شمال اليمن.
ومع اتجاه الدَّين القومي ليتجاوز نسبة 100% من إجمالي الناتج المحلي، وهذا مستوى خطير للغاية، تقربت عمّان من دولٍ سُنية أخرى في خصومة مع السعودية، منها قطر وتركيا. لكنهما لن تعرضا على الأردن حزمة إنقاذٍ على الأرجح.
الأردن يحتاج نهجاً اقتصادياً جديداً
كل هذا كان قبل أن يضرب فيروس كورونا العالم. أغلقت البلاد أبوابها في فبراير/شباط، وكان المطار أول المغلقين. وفي حين سيطر الأردن على الفيروس بنجاحٍ كبير، فإن الأثر الاقتصادي كان باهظاً. اختفى قطاع السياحة الذي كان نقطة مضيئة نادرة في اقتصاد البلاد، وتظل الفنادق على سواحل البحر الميت والبحر الأحمر خاوية، وكذلك جولات الأنقاض والصحراء التي يشتهر بها الأردن.
ينصح السياسيون والمحللون بإصلاحاتٍ عاجلة، ويقولون إنه الضروري أن يجد الأردن نموذجاً جديداً للحكم والاقتصاد، لكن لا يوجد توافق كبير حول كيفية حدوث هذا دون التسبب في اضطراباتٍ واسعة.
يقول عريب الرنتاوي، مدير مركز القدس للدراسات السياسية: "نحن في وسط أزمة اقتصادية غير مسبوقة، ولا أحد يملك عصا سحرية ليصلحها. إن الأردن يقف وجهاً لوجه أمام ما تجنَّبه بنجاح: موجة ثالثة من الربيع العربي، هو ليس في أمانٍ منها".
تبرر الحكومة القمع مؤخراً، جزئياً على الأقل، بحملتها على الفساد. لكن مراد العضايلة، الأمين العام لجبهة العمل الإسلامي، الذراع البرلمانية لجماعة الإخوان المسلمين، طالب الحكومة بـ"توسيع نطاق المشاركة السياسية بدلاً من قمع النشاط السياسي".
يقول العضايلة: "بكل تأكيد يواجه الأردن ضغوطاً على جبهات مختلفة، وأفضل طريقة لمواجهة تلك الضغوط هي تقوية الجبهة الداخلية عن طريق إصلاحات سياسية حقيقية ومصالحة عميقة مع الشعب".
لكن تحركات الحكومة ضد جماعة الإخوان والنقابات تُشير إلى أن السلطات ليست على استعداد للمخاطرة بالإصلاحات بعد.