تخرج لنا الحرب السورية بمفارقات جديدة كل يوم كلما طال أمدها. وآخر هذه المفارقات سعي تشكيل عسكري مدعوم من موسكو لإنشاء منطقة حكم ذاتي لنفسه في جنوب غربي سوريا، واشتباكه مع قوات النظام، فما قصته؟
كيف تحولت روسيا لدعم هذا التشكيل؟
يقول موقع Al Monitor الأمريكي، إن الروس يحاولون ضرب عصفورين بحجر واحد، بدعمهم هذا التشكيل، بعد أن كانوا الضامنين أن تظل هذه المناطق في جنوب غربي سوريا تحت سيطرة بشار الأسد الكاملة؛ إذ إنهم يسعون لاحتواء النفوذ الإيراني بالقرب من الحدود الإسرائيلية، وسحق أي بوادر انشقاق ظهرت بعد "المصالحة". ولأسباب عملية صرفة، من المستبعد تماماً أن يكون هذا التشكيل المدعوم من روسيا -الذي يضم معارضين سابقين للنظام ويتصرف بشكل منفصل عن قوات الأسد- العمود الفقري لقوات مسلحة جديدة. إلا أن دعم روسيا له قد يحقق بعض الفائدة من حيث ظهور الانتخابات السورية المقبلة في عام 2021 بمظهر أكثر ديمقراطية.
اشتباكات مع قوات الأسد
لكن دعم روسيا للواء الثامن (التشكيل الذي خدم أغراضاً تكتيكية وليس استراتيجية) لم يمر دون عواقب. ففي نهاية يونيو/حزيران، تبادل اللواء الثامن إطلاق النار مع الأجهزة الأمنية للنظام السوري في اشتباكات عنيفة على حاجز تفتيش، ما نتج عنه سلسلة من الخطوات التصعيدية. ففي 20 يونيو/حزيران، أصابت عبوة ناسفة حافلة تقل جنوداً من اللواء الثامن في محافظة درعا الشرقية. وخلّف الانفجار تسعة قتلى و13 جريحاً وأثار احتجاجات ضد حزب الله وإيران، اللذين اتهمها السكان المحليون بزرع هذه القنبلة. وهذه الاتهامات ليست مفاجئة حيث حاولت القوات الموالية لإيران في عدة مناسبات مهاجمة مقاتلي المعارضة السابقين الذين يعملون تحت مظلة الفيلق الخامس.
المستهدف هو إيران
وأصبحت منطقة جنوب سوريا، مهد ثورة البلاد، مثالاً قوياً لما يمكن أن يحدث لمنطقة معارضة تحمل مشاعر معادية للأسد أُعيدت لسيطرة النظام. والأهم من ذلك أنها مؤشر على رغبة موسكو في التوصل إلى اتفاق مع الجهات الفاعلة الإقليمية ودون الإقليمية. ففي عام 2018، توصلت روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل والأردن إلى اتفاق بشأن المصالحة بين دمشق ومناطق جنوب غرب سوريا. وكان هدف موسكو في ذلك الوقت هو إنشاء ما يسمى بـ"حاجز الصد السني" على الحدود مع إسرائيل، في محاولة لتقليل حضور الحرس الثوري الإسلامي، وكذلك الميليشيات المحلية والأجنبية الأخرى الموالية لطهران، التي هددت إسرائيل بفتح جبهة سورية جديدة لدعم ما يسمى "محور المقاومة".
ونتيجة لذلك، أصبحت روسيا الضامن الأمني الفعلي لقوات المعارضة السابقة في الجنوب الغربي، مقابل دورها في محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وبالفعل، بحلول أبريل/نيسان عام 2019، شكّلت قوات المعارضة السابقة من الجبهة الجنوبية للجيش السوري الحر أكثر من ثلاثة أرباع المقاتلين في اللواء الثامن من فيلق المتطوعين الخامس، النشط في محافظة درعا. وأدار هذا اللواء بشكل مباشر جنرال روسي وضم ضباطاً روسيين على مستويات قيادية مختلفة. وقد أثمرت هذه الجهود في النهاية، حيث نجحت القوات المحلية في قمع تمرد داعش، وسلمت مئات المقاتلين إلى أجهزة الأسد الأمنية.
روسيا تتصادم مع الأسد والإيرانيين
غير أن اللواء الثامن والمواطنين المحليين في محافظة درعا واجهوا أيضاً بعض العقبات. أولها مواجهتهم لمنافسة قوية على ولاء المعارضين السابقين، وعلى الأخص من ماهر الأسد، شقيق الرئيس وقائد الفرقة الرابعة في الجيش السوري. إذ تضم الفرقة الرابعة العديد من الوحدات الموالية لإيران، ومنها وحدات أجنبية. وتؤدي هذه الفرقة أيضاً دور الغطاء لأنشطة حزب الله والحرس الثوري. وقد شن اللواء الثامن عدة هجمات على حواجز الفرقة الرابعة رداً على قمع النظام. وأفادت تقارير أن الشرطة العسكرية الروسية في المنطقة انحازت إلى قوات المعارضة السابقة.
وثانيها أن جنوب سوريا عانى من انخفاض مستويات المعيشة، بعد حل المجالس المحلية (السلطات المدنية في المناطق التي يسيطر عليها المعارضون والتي تساعد السكان في معيشتهم اليومية)، فضلاً عن إغلاق المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني. وثالثها أنه لا يتم الالتزام دائماً بشروط اتفاقية المصالحة بين النظام ومقاتلي المعارضة السابقين. إذ اتُّهم النظام باتخاذ خطوات قمعية بإجرائها تحقيقات جنائية مع أعضاء المعارضة السابقين، على خلفية تهم مشكوك في صحتها وبالاحتجاز التعسفي.
ما الذي تريده موسكو؟
وكل هذا يطرح معضلة أمام موسكو. فإذا كانت روسيا مستعدة للوقوف إلى جانب اللواء الثامن أو وحدات أخرى تحت مظلة الفيلق الخامس، فعليها تنسيق تحركاتها مع دمشق. والنظام السوري قلق من دعم موسكو لقوات المعارضة السابقة ويعتبره تحريضاً على استقلال الجنوب وتهديداً لشبكات مهربيه. وفي يونيو/حزيران، دعا أمين سر مجلس الشعب السوري، خالد العبود، روسيا إلى التوقف عن دعمها للجماعات المسلحة التي هي جزء من اتفاق المصالحة المحلية حول درعا، وإلغاء الاتفاق بالكامل.
وليس من المستبعد أن تستغل موسكو عامل "المناطق الرمادية" في سوريا -حيث لا تكون سيطرة الحكومة مطلقة- لتعزيز شرعية نظام الأسد. إذ قد يؤدي القليل من التصويت الاحتجاجي في انتخابات عام 2021 المقبلة إلى ظهور البلاد بمظهر ديمقراطي في نظر الصحفيين الأجانب. ويمكن بعد ذلك تقديم هذا "التحرر" على أنه وسيلة لجذب المستثمرين المحتملين في المنطقة.
فإذا كانت روسيا تحاول بناء قوات مسلحة سورية جديدة بشروطها الخاصة، فسيتطلب هذا الطموح استثمار موارد كبيرة على مستوى البلاد، بالنظر إلى الجهود المكافئة التي تبذلها إيران لتعزيز الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري. وبالتالي فإن أي تدابير فاترة قد تفاقم التوترات مع دمشق وتؤدي إلى مناوشات واشتباكات جديدة ينتج عنها المزيد من المعاناة الإنسانية.