فرضت السلطات السودانية سياجاً من السرية على الزيارة المفاجئة لرئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل إلى السودان، حيث تم تغييب الأجهزة الإعلامية عن الزيارة، ولم تعلن الحكومة السودانية سوى خبر مقتضب، لم يحمل أية تفاصيل عما جرى في اجتماعات الغرف المغلقة.
وكانت وسائل الإعلام السودانية الرسمية ذكرت أن كامل التقى في الخرطوم، يوم الثلاثاء، بشكل منفرد، كلاً من رئيس الوزراء السوداني دكتور عبدالله حمدوك، ونائب رئيس مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان حميدتي، ورئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان.
غموض حول الزيارة
بدا واضحاً أن الحكومة السودانية الجديدة التي انتهجت الشفافية لتنوير الرأي العام بمستجدات الأحداث، كانت حريصة على عدم كشف تفاصيل زيارة اللواء عباس كامل إلى الخرطوم.
واكتفى مكتب رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك بتصريح مقتصب لم يحمل أية تفاصيل، بينما أشارت وكالة الأنباء السودانية الرسمية إلى أن كامل حمل رسالة من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي إلى البرهان، دون إعطاء أي تفاصيل عن الرسالة.
وقال مصدر وثيق الصلة بمجلس الوزراء السوداني، لـ"عربي بوست"، إن كامل ناقش مع حمدوك مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، بصفته رئيس اللجنة السودانية العليا للتعامل مع قضية السد، واتفقا على ضرورة تأجيل المفاوضات إلى الإثنين المقبل، بعد أن كان مقرراً لها نهاية الأسبوع.
فيما كشفت مصادر أخرى لـ"عربي بوست" أن كامل التقى بنائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان حميدتي وطلب منه معاونة مصر في ليبيا حال دخول الجيش المصري بعد موافقة البرلمان، وأن تقديم الدعم للواء خليفة حفتر سوف يعيد إلى السودان الدعم الإماراتي والسعودي الذي توقف قبل فترة.
ملف سد النهضة
وأشار المصدر إلى أن الاجتماع الخاص بسد النهضة بحث النقاط القانونية الثلاث المختلف حولها، والمتعلقة بتوقيع إتفاقية ملزمة، وعلاقتها بالاتفاقيات السابقة، وتحديداً الحصص التاريخية لدول المصب في مياه النيل، بجانب آلية حل النزاعات التي تنشأ عقب توقيع الاتفاق.
وأكد المصدر أن السودان ومصر اتفقتا على ضرورة أن تكون الاتفاقية مُلزمة ومُتوافقة مع القوانين الدولية، وأن يتم اللجوء إلى وساطة مُلزمة لحل النزاعات المستقبلية، على أن يكون قرار الوساطة نهائي وغير قابل للمراجعة، بدلاً من رفع النزاعات إلى رؤساء الدول الثلاث الذي تطالب به إثيوبيا، كما تم الاتفاق على أن تكون حصص السودان ومصر من مياه النيل غير خاضعة لأي تعديل وفقاً للاتفاقية الجديدة.
وكشف المصدر أن اجتماع حمدوك وكامل تطرّق أيضاً إلى الخلافات الفنية، وخاصة التصريفات اليومية من سد النهضة إلى سد الروصيرص السوداني، المشيّد بالقرب من الحدود بين البلدين.
وناقش تعريف منحى التشغيل المستمر لسد النهضة، لكونه يؤثر بشكل مباشر في التخطيط المستقبلي لاستخدامات المياه في سد الروصيرص، فضلاً عن الخلاف حول كيفية ملء سد النهضة في المستقبل، وحول التصريفات في سنوات الجفاف الممتد.
وكان رئيس الوزراء السوداني عبدالله حمدوك كوّن الأسبوع الماضي لجنة عليا برئاسته للتعامل مع قضية سد النهضة، وضم لعضويتها وزير شؤون مجلس الوزراء ووزير العدل ووزير الري والموارد المائية ووزير الخارجية ومدير جهاز المخابرات العامة ومدير هيئة الاستخبارات العسكرية.
مصر والسودان في الصراع الليبي
التكتم الشديد على الزيارة ظهر بجلاء في لقاء عباس كامل ونائب رئيس مجلس السيادة قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان حميدتي، حيث لم يصدر أي تصريح سوداني رسمي حول الاجتماع المغلق للرجلين، وغابت حتى الإشارات الغامضة التي جاءت في بيان مجلس السيادة عن لقاء كامل والبرهان، أو في بيان مجلس الوزراء عن لقاء الرجل مع حمدوك.
ويبدو أن حالة التكتم لم تكن قاصرة على لقاء كامل وحميدتي وحده، حيث لم تشر وسائل الإعلام السوداني الرسمية إلى كل اللقاءات التي أجراها كامل في الخرطوم، وخاصة المتعلقة بالملفات الأمنية والعسكرية، واكتفت بالقول إنه التقى البرهان وحميدتي وحمدوك.
وكشف مصدر أمني مطلع لـ"عربي بوست" عن لقاء جمع اللواء عباس كامل بوزير الدفاع السوداني الفريق ياسين إبراهيم، بجانب لقاء آخر جمع كامل بمدير المخابرات العامة السوداني الفريق جمال عبدالمجيد.
ولم تصدر أية إفادة من مكتب الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع، أو من مكتب الإعلام في جهاز المخابرات العامة السودانية حول اللقاءين.
لكن المصدر الأمني أكد لـ"عربي بوست" أن عباس بحث مع مدير المخابرات العامة السوادني الصراع في ليبيا، خاصة عقب موافقة البرلمان المصري السماح للجيش بإرسال قوات قتالية خارج مصر، كما بحث الدور الذي يمكن أن يلعبه جهاز المخابرات السوداني في تقديم المعلومات الداعمة للتدخل المصري في الشأن الليبي.
وذكر المصدر أن عباس ناقش ذات الملفات مع البرهان وحميدتي، وأبلغهما بأن مصر ستتدخل عسكرياً في الصراع الليبي إذا وجدت نفسها مضطرة لذلك، كما أنه سعى لمعرفة موقف السودان حال حدوث تلك التطورات.
وكشف المصدر الأمني أن اللواء عباس كامل طلب من قادة الحكومة السودانية مشاركة مصر في تقديم الدعم للواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، وأن ذلك سيؤدي إلى عودة الدعم الإماراتي السعودي الذي كان مُخصصاً للحكومة الانتقالية، قبل أن تقوم الدولتان بإيقافه بسبب الانتقادات التي طالت الرياض وأبوظبي من بعض القوى الثورية السودانية، وخاصة الحزب الشيوعي.
وأكد المصدر أن القادة العسكريين والأمنيين في السودان أبلغوا كامل بأن تحديد موقف السودان من تطورات الأوضاع في ليبيا يحتاج لجلوسهم مع شركائهم في الجهاز التنفيذي، في إشارة إلى حمدوك، وربما تحالف الحرية والتغيير، الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية.
دعم عسكري سوداني
يبدو أن زيارة رئيس المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل إلى السودان، جاءت لوضع النقاط على الحروف، حيث نشطت الحكومة المصرية قبل الزيارة في تهيئة الرأي العام السوداني لتطورات جديدة في ليبيا، لن يكون السودان بعيداً عنها، وفقاً لمختصين.
وكشفت مصادر صحفية وإعلامية عن لقاء جمع القنصل المصري في السودان، أحمد عدلي إمام، بمجموعة من رؤساء تحرير الصحف السودانية قبل أيام من زيارة اللواء عباس كامل إلى الخرطوم.
وقال أحد رؤساء التحرير الذين حضروا الاجتماع لـ"عربي بوست"، إن القنصل المصري ركّز في حديثه مع الإعلاميين والصحفيين على ثلاث قضايا: أولها سد النهضة، وثانيها الصراع في ليبيا وتداعياته على مصر والسودان، وثالثها عملية انتقال السلطة التي تجري في السودان.
وأكد رئيس التحرير، الذي طلب حجب هويته، أن القنصل لمَّحَ لبعض الصحفيين بأن تحسٌّن الوضع الانتقالي في السودان يحتاج إلى "ترتيب علاقاته الخارجية بما يضمن وقوف الأشقاء معه".
وكانت السعودية والإمارات أوقفتا منحة مالية مشتركة قدرها ثلاثة مليارات دولار، تبرعتا بها للسودان بعد الإطاحة بنظام الرئيس المعزول عمر البشير، حيث وصل منها نصف مليار دولار فقط.
وذكر السفير السعودي في الخرطوم علي بن حسن جعفر، في وقت سابق، أن المنحة توقفت بسبب الانتقادات التي تصدر من بعض الأحزاب الحكومية ضد السعودية والإمارات.
في موازاة ذلك استعبد أستاذ العلوم السياسية بالجامعات السودانية، دكتور الطاهر محمد نور، أن تكون زيارة اللواء عباس كامل خاصة بملف سد النهضة، كما ذكر الإعلام الحكومي السوداني.
أين وزير الري المصري؟
وقال محمد نور لـ"عربي بوست" إن هناك شواهد كثيرة تؤكد أن عباس كامل جاء إلى الخرطوم لمناقشة ملفات أخرى غير أزمة سد النهضة، وإلا اصطحب معه وزير الري المصري محمد عبدالعاطي المعني بالملف، على نحو ما فعل كامل في زيارات سابقة.
وكان مدير المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل، زار السودان في مارس/آذار الماضي رفقة وزير الري المصري محمد عبدالعاطي، حيث ناقشا قضية سد النهضة مع حمدوك وحميدتي والبرهان، ما قاد لاستئناف المفاوضات التي توقفت عقب تعثُّر جولة واشنطن.
ولفت أستاذ العلوم السياسية إلى أن غياب عبدالعاطي يبرهن على أن الغرض من الزيارة ملفات أخرى غير أزمة السد الإثيوبي، منوهاً إلى أن المفاوضات تمضي بصورة وفاقية على الرغم من شروع إثيوبيا في ملء بحيرة سد النهضة بقرار أحادي، مشيراً إلى أن قمة الاتحاد الإفريقي المصغّرة التي حضرها حمدوك والسيسي الأسبوع الماضي، أعادت الروح الوفاقية مع إثيوبيا، وأزالت حالة العداء التي ترتبت على الشروع في الملء الأحادي للبحيرة، ما يؤكد أن زيارة عباس إلى الخرطوم ليست لمناقشة قضية سد النهضة.
وقطع محمد نور بأن زيارات كامل إلى الخرطوم دائماً ما تكون متعلقة بالملفات والشواغل الأمنية، على نحو ما جرى عقب محاولة اغتيال حمدوك.
وكان كامل قد وصل في التاسع من أبريل/نيسان الماضي، إلى الخرطوم، وذلك بعد ساعات من نجاة حمدوك من محاولة اغتيال فاشلة، كأول مسؤول أجنبي يصل إلى السودان لتأكيد تضامن مصر ودعمها لحمدوك ورفضها محاولة اغتياله.
خلاف بين السيسي وحميدتي
وبدوره، توقّع الخبير الاستراتيجي اللواء المتقاعد عبدالجبار الجمري أن يكون اللواء عباس كامل قد جاء إلى الخرطوم بحثاً عن السند اللوجستي المطلوب حال قررت مصر التدخل عسكرياً في ليبيا.
واستعبد الجمري في حديثه لـ"عربي بوست" أن يحصل النظام المصري على أي دعم سوداني حال قرر التدخل عكسرياً في ليبيا، مشيراً إلى أن المدنيين في الحكومة الانتقالية حريصون على عدم التورّط في أي صراع إقليمي، وهو ما يقلل من إمكانية أن تنال مصر ما تريده من السودان.
ولفت الخبير الاستراتيجي إلى أن العلاقة ليست عامرة بين حميدتي والنظام المصري؛ لأن الرئيس السيسي سبق أن طلب من الإمارات والسعودية عدم التعويل أو الرهان على قوات الدعم السريع، باعتبارها ميليشيات مسلحة، وليست قوة نظامية محترفة.
وأن السيسي دعاهما للرهان على الجيش السوداني الرسمي، وهو ما رفضته الدولتان بحجة أن الجيش السوداني يضم مئات الضباط المنتمين إلى الحركة الإسلامية وجماعة الإخوان المسلمين.
وأشار الجمري إلى أن موقف السيسي من الدعم السريع أثّر على علاقته مع حميدتي، حيث شهدت العلاقة نوعاً من الجفوة، منوهاً إلى أن هذا الموقف ربما يجعل حميدتي يحجم عن تقديم أي دعم للجانب المصري، خاصة أن قوات الدعم السريع متهمة أصلاً بالتورط في الصراع الليبي.
وكان فريق الخبراء التابع للجنة العقوبات الدولية المفروضة على ليبيا، أكد في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أن حميدتي لم يلتزم بالعقوبات الأممية التي تقضي بحظر تقديم دعم عسكري لأطراف الصراع في ليبيا، وقام بإرسال 1000 جندي لدعم حفتر.