العراق هو أحد دول قليلة تحتفظ بعلاقات وطيدة مع البلدين المتصارعين، الولايات المتحدة وإيران، إذ يلعب الخصمان دوراً رئيسياً في الساحة العراقية منذ الإطاحة بنظام الرئيس الراحل، صدام حسين. وعلى حدة، تحالفت بغداد مع واشنطن وطهران، لمحاربة تنظيم "داعش" عندما اجتاح، عام 2014، ثلث مساحة العراق، وبات على بعد 100 كيلومتر عن العاصمة.
وأثمر التحالفان عن إعلان بغداد، في ديسمبر/كانون الأول 2017، إلحاق الهزيمة بـ"داعش"، عقب ثلاث سنوات من حرب طاحنة. لكن ثمرة هذين التحالفين لم تكن إيجابية دائماً، إذ كاد العراق أن يتحول إلى ساحة حرب مفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران، مطلع العام الجاري.
فعلى نحو غير مسبوق، تصاعد التوتر بينهما في العراق، إثر اغتيال قائد "فيلق القدس" الإيراني، قاسم سليماني، الذي كان ينظر إليه على أنه ثاني أهم شخصية في إيران بعد مرشدها الأعلى، علي خامنئي. وعبر غارة جوية ببغداد، في 3 يناير/كانون الثاني الماضي، اغتالت واشنطن كلاً من سليماني وأبو مهدي المهندس، القائد الفعلي لفصائل "الحشد الشعبي" العراقية، التي يدين قادتها بالولاء لطهران.
وبعد ثمانية أيام، ردت إيران بإطلاق صواريخ باليستية على قاعدتين عسكريتين عراقيتين يوجد بهما جنود أمريكيون في محافظتي الأنبار (غرب) وأربيل (شمال)؛ ما أوقع إصابات بينهم. هدأت بعدها وتيرة التوتر بين البلدين، رغم تصاعد حدة هجمات صاروخية تستهدف المصالح الأمريكية في العراق، وتشنها غالباً فصائل مقربة من إيران.
وولدت حكومة رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، يوم 6 مايو/أيار الماضي، في ظل هذه الظروف المعقدة، بجانب مشاكل داخلية كبيرة، على رأسها جائحة "كورونا" وأزمة مالية ناجمة عن هبوط أسعار النفط، الذي تشكل إيراداته عمود الاقتصاد العراقي.
صراع أمريكي – إيراني
وضعت حكومة الكاظمي 3 عواصم رئيسية لتبدأ منها إعادة رسم وتوازن علاقات بغداد الخارجية، وإبعاد العراق عن الصراعات، على أمل تخفيف التحديات الداخلية، وهذه العواصم هي: طهران، واشنطن والرياض.
وقال مدير مركز التفكير السياسي العراقي، إحسان الشمري، للأناضول، إن "الكاظمي يدرك أهمية العلاقات الخارجية، خصوصاً مع هذه الدول الفاعلة (الولايات المتحدة وإيران والسعودية)، على مستوى المنطقة والشأن الداخلي العراقي". ورأى أن "هذه الزيارات تعد خطوة نحو الأمام لتجنيب العراق الكثير من مساحات الاحتكاك والاشتباك، خصوصاً أن الصراع بين واشنطن وطهران في أعلى مستوياته، وكان العراق مسرحاً له".
وتابع: "حكومة الكاظمي ستعمل على النأي بالعراق عن هذا الصراع، كما أن زيارته لتلك العواصم هي رسالة إلى الداخل العراقي والخارج بأن ملف العلاقات الخارجية يمثل أولولة كبيرة لبغداد". وأضاف أن "هذه الزيارات ستسهم، إذا نجحت، برفع مستوى المقبولية لدى الكاظمي داخلياً".
وزار الكاظمي إيران، الثلاثاء والأربعاء، وهي أول زيارة خارجية له منذ تشكيل حكومته، بعد إرجاء زيارة كانت مقررة الإثنين إلى الرياض لأجل غير مسمى؛ لتعرض العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، لوعكة صحية.
وسيط بين القوى المتصارعة
نوعاً ما لم يكن صعود الكاظمي إلى رئاسة الوزراء متوقعاً، فالرجل الذي كان رئيساً للمخابرات (2016- 2020) واشتهر بفض النزاعات بين القوى السياسية المتصارعة داخل العراق، ليس ضمن دائرة السياسيين المقربين من طهران، صاحبة النفوذ القوي ببغداد منذ 2003.
بل إن الكاظمي لديه علاقات جيدة مع واشنطن، وتنظر إليه الفصائل العراقية المقربة من طهران بعين الريبة، حتى إن فصيل كتائب "حزب الله" القوي اتهمته بالضلوع في اغتيال سليماني والمهندس.
ويمكن للكاظمي أن يستثمر هذه الورقة في مباحثاته بالعواصم الثلاث، عبر الذهاب أبعد من النأي بالعراق عن الصراع إلى تقديم بغداد كوسيط بين القوى المتصارعة. ورأى الشمري أن "الكاظمي قدم نفسه في إيران على أنه رجل يمكن الوثوق فيه، إذا ما أرادت إيران السير نحو الحوار مع الرياض وواشنطن".
وأردف: "الكاظمي يمكن أن يساهم في وضع الأطر الرئيسية، وتقريب وجهات النظر لانطلاق الحوارات، فهو يحظى بالفعل بثقة السعودية وأمريكا". وسُئل الرئيس الإيراني، حسن روحاني، الأربعاء، إذا كان الكاظمي يتوسط بين طهران والرياض، فأجاب بأن "إيران على استعداد دائم للعلاقات مع السعودية.. متى ما قررت السعودية، فإن استعدادنا للعلاقات قائم وسيبقى على الدوام"، بحسب التلفزيون الرسمي الإيراني.
زيارة واشنطن وملف القوات الأمريكية بالعراق
ومن المقرر أن يزور الكاظمي واشنطن، في وقت لاحق من الشهر الجاري (لم يتحدد تاريخ دقيق). ويتوقع الشمري أن "تتمحور مباحثات الكاظمي في البيت الأبيض حول اتفاقية الإطار الاستراتيجي ووضعها ضمن مساحة التنفيذ، وكذلك التعاون في ملف الأمن والتسليح والمعلومة الاستخباراتية".
ووقع البلدان هذه الاتفاقية عام 2008، ومهدت لخروج القوات الأمريكية بالكامل من العراق، أواخر 2011، بعد ثماني سنوات من الاحتلال. وعادت قوات أمريكية إلى العراق بطلب من بغداد، لمساعدتها في هزيمة "داعش"، لكن الأطراف السياسية الشيعية، المقربة من إيران، تضغط لرحيل تلك القوات.
ويبدو أن ملف القوات الأمريكية سيكون شائكاً، وقد تواجه بغداد صعوبة في إيجاد حل وسط، خاصة وأن خامنئي أبلغ الكاظمي، الثلاثاء، بأن إيران "تتوقع أن يجري متابعة قرار الحكومة والشعب والبرلمان العراقي إخراج الأمريكيين، لأن وجودهم يسبب انعدام الأمن".
ويشير خامنئي إلى قرار صوت لصالحه البرلمان العراقي، بعد يومين من اغتيال سليماني والمهندس، يطالب فيه الحكومة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي، وخاصة الأمريكي، في العراق.
وقال الشمري إن "الكاظمي سيعمل على إقناع الأمريكيين بأن لا تنظر واشنطن إلى العراق على أنه منصة لاستهداف إيران، وضرورة أن تحترم سيادة العراق، مع الاحتفاظ بالعلاقات الوطيدة والواسعة بين الجانبين".
ضبط الفصائل المسلحة
تشكل الفصائل العراقية المسلحة، المقربة من طهران، هاجساً كبيراً لحكومة الكاظمي، فقد زاد نفوذ تلك الفصائل لدرجة لا يمكن احتواؤها بسهولة، وتعمل كقاطرة لجر البلد إلى الصراع الأمريكي – الإيراني.
ورأى الشمري أن "حكومة الكاظمي تعتقد بإمكانية خلق تأثير على تلك الفصائل من خلال طهران، لتقليل الضغوط التي تمارسها الفصائل على الحكومة، وصولاً إلى التهدئة حتى مع واشنطن". وتابع: "الكاظمي سيعطي تطمينات لواشنطن بحماية مصالحها في العراق، وأن بغداد قادرة على ضبط الفصائل المسلحة".
إعادة التوازن للعلاقات الخارجية
منذ الإطاحة بصدام، جرت العادة أن يحظى رؤساء الوزراء العراقيين بمباركة كل من واشنطن وطهران. إلا أن الشمري يعتقد أن "الحكومة السابقة برئاسة (عادل) عبدالمهدي (2018: 2019) سارت في فلك إيران، لذلك فإن أهمية زيارات الكاظمي الخارجية تكمن في أنه يريد عودة العراق إلى العلاقات الخارجية المتوازنة".
وأردف: "الكاظمي يريد، عبر هذه الزيارات، إعطاء رسالة بأن لديه القدرة على أن يكون رجل توازن المصالح، وأن العراق قادر على اتخاذ القرار السيادي الخارجي بما يضمن مصالحه أولاً وتنمية المصالح المشتركة ثانياً".
ورأى أن "الكاظمي لا يملك مساحة للمناورة بأن ينغمس مع المحور الأمريكي على حساب المحور الإيراني، لذلك يجد أن تثبيت منصة التوازن هو أفضل مؤشر على نجاح سياسة حكومته الخارجية".
صفحة جديدة مع السعودية
على غرار رؤساء وزراء العراق السابقين، سيزور الكاظمي السعودية، في مسعى لفتح صفحة جديدة وإثبات خطأ الاعتقاد السائد بأن العراق يدور في فلك إيران، عبر قوى شيعية عراقية مقربة من طهران.
وتنظر السعودية، وهي منافس إقليمي رئيسي لإيران، بعين الريبة إلى هذا التقارب بين طهران وحكام العراق. واتسمت علاقات بغداد والرياض بعدم الاستقرار طيلة العقود الماضية. وأعادت السعودية، في ديسمبر/كانون الأول 2015، فتح سفارتها ببغداد وعينت سامر السبهان سفيراً، بعدما أبقتها مغلقة منذ الغزو العراقي للكويت، عام 1990.
لكن الرياض قررت، في العام التالي، خفض تمثيلها الدبلوماسي إلى درجة قائم بالأعمال، بعد أن طلبت بغداد استبدال السبهان، على خلفية اتهامه بـ"التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد". وفي 2017، عينت السعودية عبدالعزيز الشمري سفيراً ببغداد، لكنه يدير شؤون السفارة من خارج العراق.
ووفق الشمري فإن "الكاظمي يدرك أن بعض حلول الداخل العراقي تأتي من خلال بوابات تلك العواصم (واشنطن وطهران والرياض)، فيمكن تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية العراقية من خلال الرياض، وهي مركز مالي واستثماري كبير، وهذا سيساعد في نجاح الكاظمي داخلياً". ورجح أن "الكاظمي سينجح في الحصول على وعود وتطمينات وحتى اتفاقات مع السعودية، بما يساهم في تدعيم الجانب الاقتصادي العراقي".
لكنه رأى أن "الخطط والتحركات الطموحة لحكومة الكاظمي قد تصطدم بتوجهات بعض القوى السياسية، التي تنظر إلى التعاطي مع الشأن الخارجي على أساس خزينها الأيديولوجي العقائدي، وقد لا يحقق نتيجة كبيرة بسبب الفاعلين في الداخل".