تتواصل الاجتماعات والمفاوضات الهادفة لإقناع إثيوبيا بالتوقيع على اتفاق ملزم بشأن تعبئة وتشغيل سد النهضة الذي يهدد مصر والسودان بالعطش وربما ما هو أسوأ، لكن عملية تعبئة خزان السد بدأت بالفعل – سواء بشكل طبيعي بفعل موسم الأمطار أو طبقاً لخطة التشغيل الإثيوبية – وهو ما يعني أن نافذة الاتفاق أغلقت أو كادت، فماذا تبقى لمصر من تحرك قبل اللجوء للخيار العسكري الذي لا يريده أحد؟
اجتماع قمة إفريقية
الثلاثاء 21 يوليو/ تموز، كان المصريون والسودانيون يترقبون ما قد تسفر عنه القمة الإفريقية المصغرة التي عقدت عبر دائرة تلفزيونية بسبب وباء كورونا، وضمت القمة الافتراضية قادة مصر والسودان وإثيوبيا بجانب جنوب أفريقيا، باعتبارها رئيس الدورة الحالية للاتحاد الإفريقي، إضافة إلى 5 مراقبين من الاتحاد.
ولم تخرج القمة بجديد، كما كان متوقعا، حيث كانت وسائل الإعلام المصرية التي تسيطر عليها الدولة قد عبرت عن ذلك بالفعل قبل أيام، وهذا ما يطرح التساؤل بشأن ما تسعى إليه مصر من تلك الاجتماعات.
الموقف الإثيوبي يتمثل في استغلال موسم الأمطار الذي بدأ يوليو/تموز الجاري ويستمر حتى أكتوبر/تشرين الأول المقبل، للبدء في عملية تخزين المياه خلف السد وتطمح لتخزين 4.9 مليار متر مكعب تكفي للبدء في تشغيل بعض التوربينات وتوليد الكهرباء في يوليو/تموز المقبل، وهو ما أظهرت المؤشرات حتى الآن أنه يحدث بالفعل، سواء من خلال صور الأقمار الصناعية أو من خلال التصريحات السودانية بشأن تراجع منسوب المياه في النيل الأزرق عن المعتاد في مثل هذا الوقت من العام.
عملية تخزين المياه بدأت بالفعل
صور الأقمار الصناعية التي التقطت في الفترة بين 27 يونيو/حزيران و12 يوليو/تموز أظهرت زيادة مطردة في كمية المياه التي يحتجزها سد النهضة، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC، وعلى الرغم من تراجع أديس أبابا عن تصريحاتها بأنها بدأت بالفعل في تعبئة خزان السد "عمداً"، إلا أن الواقع يؤكد أن عملية ملء السد قد بدأت بالفعل، والسؤال: هل يمكن أن توقف إثيوبيا تلك العملية حتى التوصل لاتفاق؟
الدكتور كيفين ويلر، الذي يتابع المشروع منذ عام 2012، قال إنه عند الأخذ في الاعتبار المرحلة التي وصلت إليها عملية بناء السد فإنه "لا يوجد شيء يمكن أن يوقف ملء الخزان إلى أدنى نقطة في السد"، فمنذ بداية العمل في تشييد السد عام 2011 على مجرى النيل الأزرق، استمرت المياه في التدفق عبر موقع البناء الضخم، وعمل البناؤون على بناء الهياكل الضخمة على جانبي النهر دون أي مشكلة، وعندما وصل البناء إلى الوسط، تم خلال موسم الجفاف تحويل مجرى النهر عبر قنوات أو أنابيب، للسماح ببناء هذا القسم.
وقد اكتمل الجزء الأسفل من القسم الأوسط، ويتدفق النهر حالياً من خلال قنوات جانبية تقع قرب أساس الجدار، ويقول الدكتور ويلر لهيئة الإذاعة البريطانية أنه مع بدء الشعور بأثر موسم الأمطار في موقع السد، فإن كمية المياه التي يمكن أن تمر عبر هذه القنوات ستكون قريباً أقل من كمية المياه التي تدخل المنطقة، مما يعني أنها ستوفر احتياطي مياه تصبه في البحيرة القابعة خلف السد، ويضيف قائلاً إنه "يمكن للسلطات الإثيوبية إغلاق بوابات بعض القنوات لزيادة كمية المياه المحتجزة، ولكن ذلك قد لا يكون ضرورياً".
وتهدف إثيوبيا إلى تخزين 4.9 مليار متر مكعب من المياه في السنة الأولى – التي بدأت بالفعل – لتصل إلى ارتفاع يوازي أدنى نقطة على جدار السد، مما يسمح لإثيوبيا باختبار أول مجموعة من التوربينات التي تولد الطاقة الكهربائية، وفي المتوسط، يبلغ إجمالي التدفق السنوي للنيل الأزرق 49 مليار متر مكعب من المياه.
وفي موسم الجفاف سوف تنحسر البحيرة قليلاً مما يسمح بإكمال بناء جدار السد، وفي السنة الثانية سيتم حفظ نحو 13.5 مليار متر مكعب أخرى، وبحلول ذلك الوقت يجب أن يصل مستوى المياه إلى المجموعة الثانية من التوربينات، مما يعني أنه يمكن إدارة تدفق المياه بشكل يمكن التحكم فيه أكثر.
ماذا تبقى في المسار الدبلوماسي إذن؟
يمثل يوم 19 يونيو/حزيران الماضي تاريخاً لافتاً في مسار التحرك المصري دولياً، إزاء إصرار إثيوبيا على ما تقول إنه حقها في ملء خزان السد، حتى لو لم تتوصل إلى اتفاق مع كل من القاهرة والخرطوم، ففي ذلك اليوم، كشفت القاهرة عن نص مذكرة قدمتها إلى مجلس الأمن، واستندت فيها إلى المادة 35 من الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، وعنوانه "في حل المنازعات سلميًا".
حينها، قالت مصر إنها تقدمت بالمذكرة "عملاً بالمادة ٣٥ من ميثاق الأمم المتحدة، التي تخول الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تنبيه مجلس الأمن إلى أي موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي أو من المحتمل أن يُعرض صون السلم والأمن الدوليين للخطر".
وبعد 9 أيام، عقد المجلس جلسة لبحث أزمة السد، وطرح وزير الخارجية المصري، سامح شكري، في كلمة له أمام الأعضاء، تفسيراً يدعم اللجوء إلى الفصل السادس بالقول إن "سد النهضة خطر وجودي يهدد بالافتئات على المصدر الوحيد لحياة أكثر من 100 مليون مصري".
فيما أعربت إثيوبيا، خلال الجلسة، عن مخاوفها من هذا التحول المصري نحو ورقة مجلس الأمن، مشددة على حقها في تحقيق التنمية وإنقاذ ملايين الإثيوبيين من الفقر، وأعلن المندوب الإثيوبي بالأمم المتحدة، تاي أسقي سلاسي، رفض بلاده إحالة ملف السد إلى مجلس الأمن، محذراً من أن بحث القضية في المجلس "يهدد بجعل الحل صعباً"، بحسب ما نقلته وسائل إعلام.
ولم تخرج الجلسة حتى بمشروع قرار، فيما حثت رسائل من الدول الأعضاء على أهمية التوصل إلى اتفاق، مثمنة إعلان الاتحاد الإفريقي رعاية مفاوضات ثلاثية جرت بين 3 و13 يوليو/تموز الجاري، غير أن المباحثات الفنية والقانونية، برعاية الاتحاد وبرقابة أوروبية أمريكية، لم تسفر عن اتفاق، ليستمر الحال القائم منذ سنوات.
مصر والفصل السابع
هذه الضرورة القصوى، وفق ترجيحات يراها مراقبون صعبة للغاية لكن ليست مستحيلة، هي لجوء مجلس الأمن إلى بنود الفصلين السادس (توصية) والسابع (إلزامي) من الميثاق الأممي، لمنع ملء خزان السد، وهو خيار راهن عليه كاتب في صحيفة "الأهرام" المصرية (رسمية).
تحت عنوان "مصر وإثيوبيا والطريق إلى الفصل السابع"، قال هاني عسل في مقال نشرته الصحيفة، في 24 يونيو/حزيران الماضي: "على الرغم من أن مجلس الأمن لم يحدد بعد موقفه من الطلب المصري، فإنه من المرجح أن يكون القرار الذي سيتخذه في هذا الصدد متسقاً مع الحدود الموضحة في الفصل السادس".
وأضاف: "إذ يمكنه (المجلس) التدخل بشكل توفيقي بين الدول الثلاث، كما يمكنه الضغط سياسياً على إثيوبيا للتراجع عن موقفها المتعنت بشأن القضية. لكن المهم هنا، أن من قرأ في المذكرة المصرية جيداً عبارة حفظ السلم والأمن الدوليين، يدرك أن الفصل السادس قد لا يكون نهاية المطاف، بل قد يصل بنا الأمر إلى الفصل السابع، الذي يتمتع بطبيعة إلزامية أكثر من السادس فى حالة حدوث تهديد صريح للسلم والأمن الدوليين، وما جاء في هذا الفصل الناري (السابع) ينطبق بالفعل، من الآن، على الحالة المصرية الإثيوبية، لأن حرمان دولة بكاملها من المياه جريمة قتل جماعية تفوق في ضررها بكثير اعتداء دولة على أخرى بالوسائل العسكرية".
"مصطلح تهديد السلم والأمن الدوليين الذي تحدثت عنه مصر (في المذكرة)، هو عنوان الفصل السابع نفسه، المعنون تحت "ما يتخذ من الأعمال في حالات تهديد السلم والإخلال به ووقوع العدوان"، واستدرك: "تبقى جزئية شائكة، وهي أن مواد الفصل تتحدث عن عدوان وقع، لا عن عدوان سيحدث، وفقاً لنص المادة 39".
وهنا يأتي، وفق الكاتب المصري، "دور الدبلوماسية المصرية العتيدة لتوضيح عدم جواز انتظار العدوان في حالة السد، لكي يتحمل المجتمع الدولي مسئولياته في الوقت المناسب، بل وبسرعة، وقبل أي ملء أحادي، ولا يجب أن تكون أي مفاوضات أخرى ستاراً لارتكاب جريمة يصعب تغييرها، وإلا فجميع الخيارات ستكون مفتوحة، لأن الصبر نفد".
هذا المقال، الذي نُشر في أهم صحيفة بمصر، عن الفصل السابع "شديد التعقيد"، يبرز ملامح مواجهة مستقبلية تعجل بها الخطوات المصرية أو الإثيوبية خلال أشهر الملء "شديدة الحساسية"، فيما رأت إثيوبيا، بحسب مندوبها الأممي، أن بحث القضية في مجلس الأمن من جانب مصر، التي استندت إلى الفصل السادس، "يهدد بجعل الحل صعباً". فماذا سيكون موقفها إن تحركت مصر نحو الفصل السابع.
ويظل الحل العسكري قائماً
نعم هناك فارق بين مسألة تقديرية وأخرى إلزامية، وفق قاموس مجلس الأمن، لكن خطوات مصر وإثيوبيا المقبلة، في حال عدم توصل الرعاية الإفريقية إلى اتفاق، يبدو أنها هي التي ستحدد أي الطرق ستذهب إليه أزمة السد داخل المجلس، خاصة في ظل حديث السودان، منذ أيام، عن تراجع كميات المياه القادمة إليه من نهر النيل، وخروج محطات مياه شرب من الخدمة مؤقتاً، في تلميح إلى احتمال أن أديس أبابا بدأت بالفعل ملء السد، وهو ما سبق أن أعلنته، ثم نفته.
ومنتصف يوليو/تموز الجاري، قال رئيس مجلس الأمن، السفير الألماني، كريستوف هويسجن، إن المجلس مستعد للنظر مجدداً في ملف السد، حال طلب أعضاء إثارة الموضوع.
إذا غامرت أديس أبابا بملء السد، من دون اتفاق وبإعلان رسمي لا تراجع فيه كما حدث مؤخراً، فلن يكون أمام القاهرة، وبشكل معلن، سوى عرقلة ملء السد، من دون أن تُحتسب بحقها "ركلة جزاء" بلغة لاعبي كرة القدم، وهذا ما يتيحه الفصل السادس، ويحسمه السابع، إذا أراد مجلس الأمن.
لكن يوجد فريق، منه أستاذ القانون الدولي في مصر أيمن سلامة، يرى أنه في حال الرجوع إلى مجلس الأمن فليس مضموناً أن يصدر قراراً بوقف بناء السد أو فرض جزاءات أو تدابير معينة ضد إثيوبيا، وتابع سلامة، في حديث متلفز منتصف الشهر الجاري، أن اللجوء إلى أي محكمة أو هيئة تحكيم دولية يحتاج رضاء أطراف النزاع الثلاثة، مصر وإثيوبيا والسودان.
لكنْ ثمة فريق مقابل يرى أن الخطر الكبير، الذي يحيط بمصر جراء السد ويتحدث عنه كثيراً في ساحات دولية، قد يكون دافعاً لتحرك مجلس الأمن خشية تفاقم الأمور، على أساس أن أزمة تجاوز عمرها التسع سنوات من دون حل، يبقى علاجها المثل الدارج: "آخر الدواء الكي".