بينما يبدو الموقف في ليبيا في طريقه للانفجار من خلال مواجهة مسلحة بين قوات حكومة الوفاق وقوات شرق ليبيا بهدف حسم السيطرة على مدينة سرت، وفي خلفية المشهد مواجهة بين الجيشين التركي والمصري، يبدو أن كواليس المشهد ربما تحمل سيناريو آخر مختلفاً تماماً، وكلمة السر هنا يبدو أنها الولايات المتحدة الأمريكية، فما القصة؟
مؤشرات تهدئة مفاجئة
أمس الأحد 19 يوليو/تموز، صدر بيان مجلس الدفاع الوطني المصري معلناً التزام القاهرة "بالحلّ السلمي لإنهاء الأزمة في ليبيا"، كما صدرت تصريحات تركية تؤكد أن أنقرة لا نية لديها "لمجابهة فرنسا أو مصر في ليبيا"، ويأتي كلا الموقفين في إطار ما يمكن وصفه ببوادر انفراجة في مشهد معقد للغاية.
فالتطورات، سواء من ناحية التصريحات أو حركة القوات على الأرض، في الأيام الماضية أعطت الانطباع بأن اندلاع المواجهات العسكرية في معركة سرت أصبح وارداً في أي لحظة، وبالطبع لا يمكن الجزم بأن ذلك الاحتمال انتهى إلى غير رجعة، لكن مؤشرات تراجع ذلك السيناريو تبدو الآن أكثر قوة ووضوحاً.
أول من أمس السبت 18 يوليو/تموز، قامت حكومة الوفاق الوطني الليبية المعترف بها دولياً بالدفع بمقاتلين لها باتجاه مدينة سرت التي تعد البوابة إلى مرافئ النفط الرئيسية بالبلاد التي تقول الحكومة إنها تخطط لانتزاعها من قوات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر.
وقال شهود وقادة عسكريون بقوات حكومة الوفاق الوطني لرويترز إن رتلاً من نحو 200 مركبة تحرك شرقاً من مصراتة على ساحل البحر المتوسط باتجاه مدينة تاورغاء وهو نحو ثلث الطريق إلى سرت، وفي المقابل تحشد ميليشيات حفتر أيضاً قواتها للدفاع عن سرت، التي أصبحت نقطة الصدام المتوقعة في أي لحظة.
لماذا سرت؟
بعد أن فشلت مغامرة حفتر العسكرية التي استمرت أكثر من 14 شهراً وكان يهدف منها إلى السيطرة على طرابلس -مقر الحكومة الشرعية- وبالتالي إحكام قبضته على كامل الأراضي الليبية، وتقهقرت ميليشياته نحو مدن الشرق الليبي، أصبحت مدينة شرت هي ساحة المعركة الفاصلة الآن، حيث أكدت حكومة الوفاق حتمية انسحاب قوات حفتر من المدينة، وأيضاً من قاعدة الجفرة الجوية قبل إبرام أي اتفاق لوقف إطلاق النار بين الجانبين.
حكومة الوفاق مدعومة من تركيا، بينما يحظى حفتر بدعم من مصر والإمارات وفرنسا وروسيا، لكن منذ إعلان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل نحو شهر أن القاهرة تعتبر "سرت والجفرة" خطاً أحمر، وتهديده بالتدخل العسكري المباشر في ليبيا للدفاع عما سمّاه الأمن القومي المصري، تصاعدت الحرب الكلامية بين أنقرة والقاهرة وبدت الأمور كما لو أن مواجهة عسكرية مصرية-تركية في ليبيا أصبحت مسألة وقت.
واستضافت القاهرة بعضاً من رجال قبائل الشرق الليبي، وأصدر برلمان طبرق برئاسة عقيلة صالح تفويضاً للجيش المصري بالتدخل العسكري في الأراضي الليبية، وفي المقابل تدعم أنقرة حكومة الوفاق المعترف بها دولياً، بموجب الاتفاقيات العسكرية والدفاع المشترك التي تم توقيعها بين الجانبين في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
ماذا عن الموقف الأمريكي؟
منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للرئاسة قبل نحو أربع سنوات رافعاً شعار "أمريكا أولاً" وسعيه لتنفيذ وعده الانتخابي الانسحاب من "الحروب اللانهائية"، لم يكن لواشنطن دور يُذكر في الصراع الليبي، حتى تلك المكالمة التي أجراها ترامب مع حفتر بعد أيام من انقلاب الأخير على المسار السياسي وشن هجومه على طرابلس، وبدا وقتها أن الإدارة الأمريكية تدعم حفتر ومعسكره (مصر والإمارات وفرنسا).
لكن تداعيات تلك المكالمة سرعان ما انقلبت على ترامب نفسه بعد أن اتضح أنه أجراها دون إلمام بتفاصيل الموقف ودون التشاور مع وزارتي الخارجية والدفاع، وبالتالي اختفى الدور الأمريكي مرة أخرى، حتى الأشهر القليلة الماضية عندما انكشف الدور الروسي في دعم حفتر من خلال مرتزقة فاغنر ومن خلال الطائرات الروسية التي يتم إرسالها لحفتر بتمويل إماراتي.
لكن مع وصول الأمور لمرحلة تنذر بتفجر الصراع وتحوله لمواجهة مسلحة بالوكالة بين القاهرة وأنقرة، يبدو أن واشنطن بدأت في تقدير الموقف بصورة مختلفة، وهنا لا يمكن استبعاد القلق من الوجود الروسي، لذلك شهدت الأيام الأخيرة عدة إشارات يمكن من خلالها قراءة الخطوط العريضة للرؤية الأمريكية لكيفية نزع فتيل الحرب الوشيكة في سرت والجفرة.
فالولايات المتحدة الأمريكية التي تسعى للانسحاب تدريجياً من أزمات الشرق الأوسط، تجد نفسها الآن مضطرة للالتفات إلى ليبيا، في ظل محاولة موسكو ملء الفراغ في الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، عبر مرتزقة شركة فاغنر الروسية.
انتقادات صريحة للموقف الأوروبي
وفي هذا السياق، قد تكون المرة الأولى التي تنتقد فيها واشنطن بشكل صريح تزويد الإمارات ومصر ميليشيات حفتر بالأسلحة، بعد أن لوحت سابقاً بفرض عزلة وعقوبات على من "يقوضون الاقتصاد الليبي ويتشبثون بالتصعيد العسكري"، وهذا ما دفع مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر، لانتقاد أداء عملية "إيريني" الأوروبية المتعلقة بحظر توريد السلاح إلى ليبيا، بسبب انتقائيتها.
كان شينكر قد قال، خلال فعالية افتراضية لباحثين، إن "اعتراضاتهم (الأوروبيين) الوحيدة على الأسلحة التركية المرسلة إلى ليبيا، في حين لا أحد يعترض على الطائرات الروسية، ولا الإماراتية، ولا على المصريين"، ويمكن اعتبار هذا التصريح، الذي صدر الخميس الماضي، محاولة من واشنطن لضبط بوصلة حلفائها الأوروبيين بشأن الملف الليبي، والتركيز أكثر على "قرار حظر توريد الأسلحة الأممي من قبل روسيا ودول أخرى كالإمارات ومصر"، بحسب المسؤول الأمريكي.
كيف يمكن الخروج من الأزمة؟
في ظل غياب خارطة طريق يمكن الاتفاق عليها للخروج من الأزمة الليبية تحظى بموافقة جميع الأطراف الفاعلة في الملف، وهذا طبيعي في ظل التشابك في المصالح من ناحية وإخفاء كواليس المناقشات عن أعين الإعلام من ناحية أخرى، يظل تحليل الإشارات الصادرة عن الأطراف هو المتاح أمام المراقبين للتحليل والخروج بسيناريوهات للخروج من المأزق.
وكان معهد بروكينجز الأمريكي للدراسات السياسية قد نشر أواخر يونيو/حزيران الماضي سلسلة من التقارير حول الملف الليبي بعنوان "من الفوضى إلى النظام"، تحدث عن "الفرصة المتجددة" الآن لإقرار السلام على الساحة الليبية، والمقصود بالفرصة المتجددة هو الموقف الحالي الذي نتج عن الهزائم التي تعرض لها حفتر وفشل مشروعه الانقلابي، وهو ما أعاد الأمور إلى ما كانت عليه نهايات مارس/آذار من العام الماضي.
ويرى الباحثون المشاركون في الدراسة أنه "من حسن الحظ أن تمكنت قوات الحكومة الشرعية من التصدي لهجوم ميليشيات حفتر على طرابلس ومن ثم مطاردتها إلى القواعد التي انطلقت منها من الشرق الليبي، وهو ما يعيد الأمور إلى ما كانت عليه حينما أوشك الليبيون على وضع لبنة قوية لبناء دولة مؤسسات تحت إشراف الأمم المتحدة".
وفي ظل تعدد الأطراف المنخرطة في الصراع الليبي، يرى كثير من المراقبين والمحللين الأمريكيين أن إدارة ترامب أمامها فرصة ذهبية للتدخل كطرف محايد وتفرض رؤية تقوم على التعاون والتعايش السلمي في ليبيا، اعتماداً على كونها غير منخرطة بشكل مباشر في دعم طرف دون الآخر -مثل باقي القوى الفاعلة في الملف- ومن ثم تحظى -على غير العادة- بثقة أغلب الأطراف الليبية، وبالتالي يستحق الأمر محاولة أخرى جادة لإقامة نظام يقوم على نوع من التوازن، ولو كان الهدف الرئيسي بالنسبة لواشنطن هو ضمان إفشال أي مخطط روسي لتواجد دائم في ليبيا.
صحيح أن الولايات المتحدة تسعى في هذه المرحلة لتسليط الأضواء أكثر على نشاط فاغنر في ليبيا، والمتمركزة خاصة في محافظة الجفرة (650 كلم جنوب شرق طرابلس) وفي مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، كما تحركت قبل أسابيع نحو حقل الشرارة النفطي في أقصى جنوب شرق ليبيا بالقرب من الحدود الجزائرية.
غير أن تقارير إعلامية ليبية تتحدث عن إعادة انتشار مرتزقة فاغنر خارج مدينة سرت إلى الشرق باتجاه الموانئ النفطية، وبعيداً عن مدن الجفرة الثلاث الرئيسية (هون، وودان، وسوكنة) باتجاه مدينة زلة، إلى أقصى شمال شرقي الجفرة، حيث يوجد حقل نفطي.
ويتزامن إعادة انتشار مرتزقة فاغنر، وانسحابها من الخطوط الأمامية للمواجهة مع تسريبات إعلامية غير مؤكدة عن "مقترح أمريكي لإخلاء منطقة الهلال النفطي من أي قوات عسكرية، وانسحاب ميليشيات حفتر إلى مدينة أجدابيا شرقاً، مقابل عدم هجوم الجيش الليبي التابع للحكومة الشرعية على المنطقة الممتدة من سرت إلى أجدابيا، وإشراف قوات أوروبية عليها برعاية الأمم المتحدة".
كما تحدثت جريدة "الشرق الأوسط" اللندنية، عن اجتماع عقده وفد عسكري وسياسي أمريكي في الرجمة ببنغازي، مع حفتر، وهو ما نفاه المتحدث باسم الأخير أحمد المسماري، كما لم تعلن عنه السلطات الأمريكية.
وبالتالي ومع ازدياد الاحتقان في ليبيا، خاصة مع تهديد القاهرة بالتدخل عسكرياً، وتأكيد تركيا أن هذا التدخل لن يكون شرعياً، يمثل الخيار التفاوضي أحسن حل للجميع لتفادي أسوأ السيناريوهات التي سيكون الشعب الليبي فيها الخاسر الأكبر.