أخذت تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي بشأن الوضع في ليبيا منحى تصعيدياً، خاصة بعد الدعم الذي وفرته تركيا لقوات حكومة الوفاق الوطني، إذ استطاعت بفضله أن تحقق مكاسب عسكرية على حساب حليف القاهرة اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وأطلق السيسي في مناسبتين وعوداً وتهديدات بالتدخل العسكري في البلد الجار. فهل مصر مستعدة فعلاً للزج بجيشها في هذه الحرب؟
ما وراء "تهديدات" السيسي
لا تنظر مصر ومن خلفها الإمارات والسعودية وفرنسا بعين الرضا للتدخل التركي في ليبيا، لا سيما أن حليفهم حفتر في الشرق كشف عن محدودية قدرته في السيطرة على طرابلس، بل تلقى هزائم قاسية جعلته يتراجع إلى الخلف، بفضل دعم أنقرة لحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً والتي تتجهز لمعارك أخرى حاسمة.
هذا الاستياء المصري من الوجود التركي في ليبيا عبّر عنه السيسي في مناسبتين، كان آخرهما الخميس أمام شيوخ ينتمون إلى قبائل ليبية موالية لحفتر، إذ أكد السيسي أن بلاده "لن تقف مكتوفة الأيدي" في مواجهة أي تحركات قد تشكّل تهديداً للأمن في مصر وليبيا، في رسالة واضحة إلى أنقرة.
وكان الرئيس المصري الذي وصل للحكم عام 2014 بعد انقلاب على الرئيس المدني الراحل محمد مرسي، قد شدّد في كلمة عقب تفقده وحدات الجيش المصري في المنطقة العسكرية الغربية، على أنه "إذا كان يعتقد البعض أنه يستطيع أن يتجاوز خط سرت أو الجفرة فهذا بالنسبة لنا خط أحمر". وعلق السيسي على ذلك الخميس الماضي قائلاً: "إن الخطوط الحمراء التي أعلناها هي بالأساس دعوة للسلام وإنهاء الصراع في ليبيا".
وتأتي تهديدات الرئيس المصري مجدداً بعد يومين من إعلان عقيلة صالح، رئيس مجلس النواب الليبي في طبرق المؤيد للمشير خليفة حفتر في شرق البلاد، أنه أعطى الضوء الأخضر لمصر للتدخل عسكرياً في بلاده "لحماية الأمن القومي" للبلدين، معتبراً أن ذلك يندرج في "سياق تضافر جهود الطرفين لدحر الغازي التركي".
لكن تهديدات السيسي لا يبدو أنها تؤثر شيئاً في الموقف التركي، إذ أكد أردوغان مواصلة دوره في ليبيا "إلى النهاية"، قائلاً إنه "لن يترك الليبيين يواجهون وحدهم العدوان العسكري للانقلابي حفتر"، كما لفت إلى أن الخطوات التي تتخذها مصر بوقوفها مع حفتر غير شرعية، واعتبر أن بلاده "تقف مع حكومة شرعية تكافح الانقلابيين".
تصريحات لا تتجاوز الوعيد
يبقى السؤال في خضم هذه "التصريحات النارية" للسيسي: هل فعلاً مصر اليوم على استعداد للتدخل في البلد الجار ليبيا؟ هذا ما يستبعده المتخصص في الشأن الليبي رشيد خشانة، الذي يعتبر في حديث لوكالة الأنباء الفرنسية أن "ّهذه التصريحات لا تتجاوز الوعيد".
ويرى خشانة "أن مَن يُرد التدخل لا يجمع القبائل ويخطب فيها، وإنما يقوم بذلك مباشرة"، في إشارة منه لخطاب السيسي الخميس أمام شيوخ قبائل ليبية، قال فيه موجهاً الكلمة لهم: "لن نتدخل (في ليبيا) إلا بطلب منكم (الليبيين) وسوف نخرج منها بأمر منكم".
ويرى خشانة أن "السيسي لا يمكنه أن يتدخل إلا بضوء أخضر من الولايات المتحدة والحلف الأطلسي، حتى لو حاولت روسيا الداعمة لحفتر جرّه إلى مستنقع الحرب؛ لأنه لا يستطيع أن يخضع لضغط موسكو بهذا الخصوص على حساب علاقاته الوثيقة مع واشنطن". علماً أن الولايات المتحدة تكتفي حتى الآن بوضع يدها على الملف الليبي عبر بوابة أنقرة. وكانت الرئاسة التركية قد أعلنت أن أردوغان توافق مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب على العمل "بشكل أوثق" من أجل إيجاد حل للنزاع الدائر في ليبيا.
ودخلت أطراف عديدة على خط النزاع في ليبيا، التي تملك أكبر احتياطي نفط في إفريقيا، فمن جهة تدعم روسيا ومصر والإمارات العربية المتحدة وفرنسا حفتر، بينما تدعم تركيا حكومة الوفاق الوطني المعترف بها من الأمم المتحدة.
كما أن مصر، بحسب المتخصص في الشأن الليبي، "غير مستعدة لفتح جبهة إضافية للجبهة الإثيوبية بخصوص سد النهضة"، باعتباره ملفاً معقداً ويمكن أن يأخذ أبعاداً أخرى في حال استمرار الوضع على ما هو عليه.
ويرى خشانة أن مصر لديها مصالحها الاقتصادية في ليبيا، "فهي تأخذ المحروقات الليبية بأسعار تفضيلية، ولها الكثير من العمال في البلد الجار، وستستفيد بشكل غير مباشر من إعادة الإعمار عند انتهاء الأزمة"، كما أن "النظام المصري ليس من مصلحته ظهور نظام إسلامي هناك"، حسب تعبيره.
لماذا لن يسمح الأمريكيون بالتدخل المصري؟
لكن كل ذلك لا يكفي لإعطاء ضوء أخضر أمريكي للسيسي للتدخل في ليبيا، إذ ترى واشنطن في الدعم الروسي لحفتر خطراً يهدد مصالحها، فيما يهاجم الأمريكيون علناً موقف الأوروبيين من الأزمة الليبية، إذ قالت واشنطن إن بعثة الاتحاد الأوروبي البحرية لفرض حظر على الأسلحة المفروض ليبيا كانت متحيزة، وقال مساعد وزير الخارجية الأمريكي ديفيد شينكر الخميس إن عدم اعتراض الغرب على إرسال روسيا ومصر والإمارات أسلحة إلى ليبيا، يؤكد عدم جدية الأوروبيين في فرض حظر توريد الأسلحة إلى البلد الإفريقي.
وأوضح شينكر أن أوروبا يمكنها فعل المزيد حيال انتهاكات قرار حظر توريد الأسلحة الأممي من قبل روسيا ودول أخرى كالإمارات ومصر. وأردف أن "الأوروبيين يشعرون بالفخر إزاء مهمتهم بالبحر الأبيض المتوسط"، في إشارة إلى عملية "إيريني" لمراقبة حظر الأسلحة على ليبيا.
واستدرك بالقول: "اعتراضات الأوروبيين الوحيدة على الأسلحة التركية المرسلة إلى ليبيا، في حين لا أحد يعترض على الطائرات الروسية، ولا الإماراتية، ولا على المصريين". ولفت قائلاً: "بإمكانهم (الأوروبيين)، إذا كانوا جادين، أن يستدعوا جميع أطراف الصراع (لم يحددها) عندما تنتهك حظر الأسلحة".
حتى الموالين لحفتر يعلمون أن السيسي غير جاد في تصريحاته
في السياق، وبعد اجتماع 50 رجلاً من المشايخ والأعيان الليبيين الموالين لحفتر مع السيسي الخميس، أكد مصدر مقرب من هؤلاء الأعيان والمشايخ لـ"عربي بوست" أن الوفد لم يتلق وعداً صريحاً من عبدالفتاح السيسي بالتدخل عسكرياً في ليبيا، وأن خطاب السيسي لم يكن واضحاً بالنسبة لهم، مضيفاً أن بعض المشايخ اقترحوا البقاء في مصر وطلب مقابلة أخرى غير معلنة مع عبدالفتاح السيسي للحصول على وعد صريح من السيسي بالتدخل عسكرياً في ليبيا.
وكان السيسي قد رفض في نهاية يونيو/حزيران الماضي مقابلة 100 من المشايخ والأعيان الموالين لحفتر من قبائل شرق ليبيا، لكن منسق الشؤون الاجتماعية التابع لحفتر بلعيد الشيخي ورئيس ما يعرف بقبائل ليبيا الموالي لحفتر صالح الفاندي الترهوني وبعض من شخصيات النظام السابق قاموا بالحشد لاجتماع بمنطقة سيدي براني على الحدود الليبية المصرية، لطلب تدخل الجيش المصري في ليبيا.
وبحسب مصادر مطلعة أكدت لـ"عربي بوست" أن السيسي رفض المقابلة لعدم وجود مشايخ تمثل قبائل العبيدات "القبيلة التي ينتمي لها رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح"، وقبائل المغاربة، القبيلة التي تستوطن منطقة الهلال النفطي، حيث كان أغلب المشاركين في ذاك الوقت من قبائل العواقير والبراعصة،
وتابعت المصادر ذاتها أن الشيخ صالح لاطيوش أبرز أعيان قبيلة المغاربة -القبائل التي تستوطن منطقة الهلال النفطي- والشيخ صالح الاطيوش أحد أبرز أعيان قبيلة العواقير -القبائل التي تحيط بمدينة بنغازي- والشيخ الطيب الشريف أحد أبرز قبيلة العبيدات -القبيلة التي ينتمي لها رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح – والشيخ يوسف التائب العبار أحد أبرز مشايخ العواقير، لم يكونوا ضمن المشاركين في الاجتماع المفترض في ذاك الوقت، الأمر الذي جعل السيسي يرفض المقابلة معتبراً أن الأسماء الموجودة في القائمة لا تمثل برقة وليس لها ثقل اجتماعي.
وتشهد قبائل ليبيا انقساماً كبيراً منذ انطلاق حفتر ما يعرف بـ"عملية الكرامة" بين مؤيد ومعارض، ما جعل بعض القيادات الاجتماعية الفاعلة في القبائل الليبية تتعرض للتهميش والغياب التام عن المشهد الاجتماعي الليبي.