يدور في أروقة مجلس الوزراء المصري حديث هامس بين قياداته بحثاً عن مخرج من الحرج الذي تسبب فيه بيان وزارة الصحة المصرية الذي صدر قبل أيام، ليؤكد أن بوابات التعقيم الإلكترونية التي تحتكر تصنيعها وزارة الإنتاج الحربي غير مفيدة.
ما جرى في كواليس صفقة بوابات التعقيم الإلكترونية كشف شيئاً من شبهات الفساد وتورط مؤسسات الدولة في تسهيل صفقات لا فائدة منها، فقط لمجاملة بعض المؤسسات العسكرية تارةً بالصمت عن إنتاجها لأغراض غير مطابقة للمواصفات وبدون ترخيص من الجهات المختصة، وتارةً بإهدار عشرات ومئات الملايين من ميزانية الدولة دون أن تُصرف في مسارات التنمية والتطوير المأمول.
وعلم "عربي بوست" من مصدر بمجلس الوزراء أن شبه أزمة وقعت بين عدد من الوزراء بسبب إنفاق الملايين على شراء هذه البوابات من وزارة الإنتاج الحربي التي أنتجت هذه البوابات دون الحصول على تصريح من وزارة الصحة لتطابق المواصفات والمعايير الصحية.
كما أن وفاة اللواء محمد العصار، وزير الإنتاج الحربي، أوقعت الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء في مأزق، إذ إن الاتجاه العام بالمجلس يذهب نحو إصدار قرار بإلغائها، لكن عدم تسمية وزير آخر حتى الآن خلفاً للعصار تسبَّب في تأجيل القرار.
وزير التعليم ينفق بغير حساب
وزارة التربية والتعليم كانت أولى الوزارات التي بادرت بالإعلان عن خطة لنشر هذه البوابات بالمدارس في جميع محافظات مصر بتكلفة تبلغ 30 ألف جنيه للبوابة الواحدة، حسب تصريح وزير التعليم د. طارق شوقي، إلا أن مصدراً بوزارة التعليم كشف أن الوزارة طلبت إنتاج بوابات بمواصفات خاصة -مزدوجة بإطارين- فبلغت تكلفة البوابة الواحدة 50 ألف جنيه، باعتبارها طلبية خاصة.
وبناء على هذا التعاقد قامت وزارة الإنتاج الحربي بتوريد 1298 بوابة تعقيم ذاتية مزدوجة لوزارة التربية والتعليم لتوزيعها على لجان امتحانات الثانوية العامة في مصر، ورغم حرص وزارتي الإنتاج الحربي والتعليم على عدم الإعلان عن تكلفة التعاقد فإن حساب القيمة الإجمالية طبقاً للسعر الذي علمناه من مصدرنا بالوزارة تصل إلى نحو 65 مليون جنيه مصري، دفعتها وزارة التربية والتعليم من أصل 600 مليون جنيه كانت وزارة التعليم قد أعلنت عن رصدها لتأمين متطلبات الوقاية من فيروس كورونا.
للوقوف على حقيقة المبلغ المدفوع سألنا الدكتور محمد الطيب، المتحدث باسم وزارة التربية والتعليم عن حقيقة السعر المتداول، إلا أننا لم نتلقَّ منه رداً حتى كتابة التقرير.
وكان وزير التعليم الدكتور طارق شوقي قد صرح خلال مناقشة استعدادات وزارته الوقائية للعام الدراسي الجديد المقرر انطلاقه سبتمبر/أيلول المقبل، بأنه من المقرر أن تتعاقد الوزارة مع وزارة الإنتاج الحربي على شراء المزيد من البوابات لتغطية احتياجات المدارس التابعة للوزارة والتي يبلغ عددها 45 ألف مدرسة، مشيراً إلى أن تكلفة البوابة الواحدة تبلغ 30 ألف جنيه.
كما دافع وزير التعليم المصري عن شراء هذه البوابات واستخدام الوزارة لها، وذلك قبل بدء امتحانات الثانوية العامة في العشرين من يونيو/حزيران الماضي، قائلاً إنه لا خطورة من بوابات التعقيم على الطلاب، بسبب نسبة الكلور مؤكداً أنه لا يوجد أي ضرر علي الطلاب أو على ملابسهم من المرور ببوابات التعقيم، وعدا ذلك كله شائعات وتضليل.
البرلمان يشارك رفضها
وكان الدكتور إيهاب عطية مدير إدارة مكافحة العدوى بوزارة الصحة والسكان المصرية أعلن يوم الإثنين الماضي 13 يوليو/تموز أن بوابات التعقيم لا جدوى منها وقد تسبب مشاكل صحية خطيرة بسبب المواد الكيميائية المستخدمة بعيداً عن رقابة الوزارة.
قبل ذلك تداول العاملون في قطاع الصحة خطاباً صادراً عن قطاع الطب الوقائي بوزارة الصحة في الثاني من شهر يوليو الجاري يرد على استفسار من مجلس الوزراء بخصوص استخدام كبائن التعقيم الذاتي، وذلك بعد تركيبها في أغلب مؤسسات الدولة والقطاع الحكومي للوقاية من كورونا.
وقال الدكتور علاء عيد، رئيس قطاع الطب الوقائي، في خطابه، إنه لا يوجد دليل علمي يثبت فاعلية استخدام المطهرات ببوابات التعقيم لمجابهة الفيروس المسبب لمرض كورونا أو تقليل انتشار العدوى بين المواطنين.
أثناء ذلك تصاعد الموقف الرافض بنشر بوابات التعقيم ليصل إلى البرلمان المصري، حيث وجه المهندس علاء والى عضو البرلمان يوم الثلاثاء الماضي سؤالاً عاجلاً حول مصير بوابات التعقيم الإلكترونية التي كلفت الحكومة ملايين الجنيهات، لحماية المواطنين والحفاظ عليهم من فيروس كورونا، في ضوء ما تم تداوله عن خطورتها وأضرارها.
لم يكن والي أول نائب يتطرق لمخاطر بوابات التعقيم، بل سبقه النائب خالد مشهور وعضو اللجنة التشريعية بالبرلمان المصري الذي تقدم في ٢٠ مايو/أيار الماضي، بطلب إحاطة لوقف بيع البوابات المطهرة باعتبارها "سبوبة للارتزاق" ــ وهو تعبير مصري يصف كل مصدر رزق يأتي دون تعب ــ لاستغلال أزمة كورونا وحرص الناس على التعقيم المستمر.
وكان مشهور قد أشار في طلبه إلى موقف الجهات الصحية التي بينت أن أضرار البوابات أكثر من نفعها، وأن تصنيعها لم يقتصر على الشركات المتخصصة بل أصبحت متوفرة لدى الحدادين بدون أية مواصفات فنية متبعة في التصنيع.
بالرغم من ذلك لم تتحرك وزارة الصحة رسمياً إلا بعد أكثر من ثلاثة أشهر من انتشار وتصنيع هذا النوع من البوابات، ما وضعها في شبهة تواطؤ مع الجهات المصنعة أو مجاملة الوزارات العسكرية.
تجاهل مقصود أم شبهة مجاملة؟
اللافت في الأمر أن المسؤولين في الحكومة المصرية تجاهلوا ما صدر من تحذيرات من استخدام البوابات الإلكترونية لسبب غير معلوم.
كذلك لم يصدر عن وزارة الصحة ما يؤكد أو ينفي ضرر تلك البوابات إلا منذ يومين فقط، وهو ما طرح العديد من التساؤلات عن سر التزام الوزارة الصمت لفترة طويلة وهي ترى آلاف البوابات يتم تصنيعها وبيعها بالملايين!
ولماذا لم تفصح وزارة الصحة عن أضرارها قبل الشروع في تركيبها بالمدارس والنقابات والمؤسسات وغيرها؟
وكان العديد من الأطباء والمسؤولين في مجال الصناعات الطبية قد أعلنوا مراراً عن عدم جدوى البوابات بل وخطورتها على الصحة العامة، حتى أن الدكتور شريف عزت، رئيس شعبة المستلزمات الطبية باتحاد الصناعات المصرية، وصف بوابات التعقيم الإلكترونية بأنها نوع من "النصب المقنع" ولا قيمة لها، مضيفاً أن فكرة إنتاج بوابات إلكترونية للتعقيم كانت مقبولة في بداية ظهور فيروس كورونا نظراً لعدم معرفة طبيعته وكيفية تجنب الإصابة به، لكن الغريب هو استمرار مصر في إنتاج تلك البوابات رغم ثبوت عدم جدواها صحياً.
كما أجمع عدد من أطباء الأمراض الصدرية والجلدية على أن هناك خطورة بالغة على المواطنين حال التعرض بشكل مباشر لرش سوائل التعقيم وملامستها للأنف أو الجلد.
حيث إنها قد تؤدي إلى الإصابة بحساسية الصدر إلى جانب تطور الأمور إلى مرض الأكزيما حال تكرار إصابة الجلد بالحساسية، نتيجة التعرض المستمر للمواد الكيميائية التي تضاف إلى سوائل التعقيم.
وأكد الطبيب محمد أمين أخصائى مكافحة عدوى لـ"عربي بوست" أن كابينات التعقيم ما هي إلا أمان زائف للمواطنين، فعدوى فيروس كورونا هي عدوى تنفسية لا يمكن التعامل معها عن طريق رش الملابس، ولا توجد أدلة علمية تثبت فاعليتها فى الوقاية من فيروس كورونا.
وأنه بمجرد مرور المستخدم من البوابة يتملكه شعور بالراحة ويعتبر نفسه محمياً من خطر الإصابة بالفيروس وربما يكتفي بهذا ويتخلى عن احتياطات الأمان.
وتساءل د. أمين في استغراب: أريد من صُناع هذه البوابات أن يخبرونا من هي الجهة العلمية التي اعتمدوا وصرحت لهم بتصنيعها باعتبارها حقاً تقاوم العدوى؟!
فيما قال الدكتور محمد صبري القاضي أستاذ الأورام، في منشور على صفحته، إن كابينات التعقيم خدعة كبرى تكلف آلاف الجنيهات بدون فائدة، ونصح متابعيه بعدم المرور من أي كابينة تعقيم يجدونها في أي مكان يذهبون إليه.
على الجانب الآخر وجد بعض المصنعين في بوابات التعقيم التي انتشر الحديث عنها مصدراً جديداً للتربح حتى دخل على خط تصنيعها بعض أصحاب ورش الحدادة في المناطق الشعبية.
وصل الأمر إلى أن أحد أصحاب الورش الشعبية كان يبيع البوابة بدءاً من 20 ألف جنيه وحتى 100 ألف جنيه للبوابة ذات المواصفات الخاصة، حتى أن أحد أصحاب الورش قال إن ما جناه من أرباح خلال هذه الأزمة أضعاف ما جناه خلال عشرات السنين الماضية.
المؤسسات الصحفية لم تسلم من الفخ
ولم تسلم المؤسسات الصحفية والإعلامية من الفخ، إذ طرح العديد من الصحفيين تساؤلات كثيرة في مجموعة استعلامات الصحفيين على صفحة التواصل الاجتماعي المغلقة على أعضاء النقابة، يتساءلون فيها عن مدى فعالية بوابة التعقيم الذاتية التي تم وضعها في مدخل مبنى النقابة الكائن بوسط العاصمة المصرية.
أمام قلق الأعضاء أصدرت النقابة بياناً رسمياً جاء فيه أن "هناك بالفعل بوابات غير مطابقة للمواصفات وتقوم بتصنيعها أماكن غير مرخص لها بذلك، أما بوابة التعقيم الذكية التي قامت بشرائها نقابة الصحفيين فقد جاءت بعد دراسة دقيقة ووقع الاختيار على أفضل بوابة ذكية للتعقيم بالسوق المصري وتنتجها ووزارة الانتاج الحربي كجهة سيادية حكومية".
غير أن كلمة "جهة سيادية" أثارت حفيظة البعض لما لهم تجربة سابقة مع كمامات تنتجها "جهة سيادية" أخرى هي وزارة الإنتاج الحربي حيث وردت شكاوى متعددة من أعضاء بالنقابة من سوء حالة "الكمامات الطبية" التي قام مجلس النقابة بتوفيرها من خلال منفذ بيع بالنقابة، ووضح بالعين المجردة أنها غير مطابقة للمواصفات الطبية.
فضلاً عن تداول صورة من خطاب موجَّه من مجلس نقابة أطباء سوهاج للمحافظ يؤكدون فيه سوء تصنيع الكمامات الواردة من مصانع الإنتاج الحربي وتسببها في تعريض حياة من يستخدمها للخطر، وهي نفس نوع الكمامات المتوفرة بمنافذ البيع بالنقابة.
لكن اعتراضات الصحفيين سرعان ما أُجهضت بعدما وجدت المؤسسات الصحفية نفسها مجبرة على الشراء من وزارة الإنتاج الحربي، وقال كرم جبر، رئيس المجلس الأعلى للإعلام، إن كل مؤسسة حصلت على 100 ألف جنيه دعماً لشراء أدوات تعقيم ومطهرات بشرط أن يتم الشراء من جهاز الخدمة الوطنية ووزارة الإنتاج الحربي .
ويظل السؤال مطروحاً متى سوف يتخذ مجلس الوزراء قراره بوقف تصنيع هذه البوابات الإلكترونية التي حذرت منها وزارة الصحة ، ومتى سوف تلتزم الجهات السيادية المُصنعة بالحصول على التراخيص والموافقات قبل الشروع في تصنيع أي منتج يمس صحة المصريين؟