قبل نحو عشر سنوات انطلقت الثورة في سوريا ضد فساد نظام الرئيس بشار الأسد من مدينة درعا في الجنوب، والآن يبدو وكأن ثورة ثانية ضد فساد نفس النظام تتشكل على الأرض وأيضاً من درعا، لكن اللافت أن الاحتجاجات المطالبة برحيل الأسد تتم هذه المرة تحت رعاية القوات الروسية في المدينة، فما القصة؟
ما قصة درعا مهد الثورة؟
قبل نحو أسبوعين، خرج آلاف السوريين في مدينة بصرى الشام بريف درعا في مظاهرات ضد نظام الرئيس بشار الأسد منادين بإسقاطه، وهي الاحتجاجات الأكبر من نوعها منذ عام 2018 حينما استعاد النظام السيطرة على محافظة درعا بدعم القوات الروسية، وشارك في تلك التظاهرات أهالي معظم مدن وبلدات وقرى الريف الشرقي.
المشهد استثنائي بكل المقاييس؛ فمن درعا انطلقت الثورة السورية عام 2011، كما أن استعادتها من جانب قوات النظام المدعومة من روسيا وإيران وحزب الله اللبناني تمت في إطار مختلف إلى حد كبير عن باقي المدن والمناطق التي تمت استعادتها، حيث كانت درعا المحافظة الوحيدة التي لم يفر منها المسلحون المقاتلون بأعداد كبيرة، بموجب اتفاق تم التفاوض عليه بإشراف موسكو، كما احتفظ المقاتلون السابقون الذين لم ينضموا إلى جيش الأسد وبقوا في المحافظة بالسيطرة على مناطق معينة منها، بالإضافة إلى أحياء معينة في مدينة درعا.
فبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، تشهد محافظة درعا مؤخراً تصعيداً كبيراً في الصراع الخفي بين الفيلق الخامس الذي أنشأته روسيا من جانب، والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق بشار من جانب آخر، ويتمثل الصراع الخفي بالمحاولات المستمرة من كل جانب لفرض نفوذه الكامل على درعا، فبعد أن ثبتت قوات الفيلق الخامس نفوذها وباتت القوة الأكبر على الأرض هناك، عادت الفرقة الرابعة إلى الساحة مؤخراً.
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً يرصد ما يحدث في درعا بعنوان "ثورة ثانية.. السوريون يتظاهرون في ظل مراقبة روسية"، ألقى الضوء على كواليس وأسباب تلك المظاهرات التي تستهدف بشار، وأيضاً أبرز قادة تلك المظاهرات مثل أحمد العودة، وهو أحد المقاتلين السابقين في صفوف المعارضة قبل أن ينضم للفيلق الخامس الذي أسسته روسيا في درعا.
البعض يرى العودة "خائناً" عقد صفقة مع النظام عند سقوط درعا قبل عامين، بينما ما زال البعض يراه "ثائراً" واعداً يسعى لإعادة توحيد صفوف الفصائل المعارضة.
صديق الأمس، عدو اليوم
ووفقاً لمصادر المرصد السوري، فإن الفرقة الرابعة تسعى لاستقطاب الرجال والشبان وخاصة المقاتلين السابقين لدى الفصائل مقابل رواتب شهرية وإغراءات أخرى، واستطاعت استقطاب دفعة مؤخراً تضم العشرات وجرى زجهم على الحواجز بعد إخضاعهم لدورات عسكرية بريف درعا الغربي، في المقابل لا تزال كفة الروس راجحة عبر الفيلق الخامس الذي يضم مقاتلين سابقين لدى الفصائل ممن رفضوا التهجير وأجروا ما يسميها النظام "تسوية ومصالحة".
الموقف في محافظة درعا جنوب سوريا يمكن توصيفه بالغريب، فالمحافظة التي منها انطلقت الثورة السورية تشهد الآن فصلاً من فصول توازنات القوى التي تلعبها روسيا – اللاعب الرئيسي في البلاد – في محاولة لتوفيق المصالح المتضاربة بين إيران وإسرائيل وبشار الأسد، الذي يبدو أنه لم يعد الخيار المفضل لموسكو.
فالمظاهرات لم تقتصر على مدينة درعا فقط، بل امتدت وبشكل أكبر إلى مدينة السويداء على مدى الأسابيع الستة الماضية، وهي مدفوعة بالأزمة الاقتصادية المتفاقمة، لكن مجرد الخروج للتظاهر والهتاف ضد بشار الأسد نفسه مطالبين إياه بالرحيل في مدينة يسيطر عليها النظام وأعوانه من الميليشيات المدعومة من إيران ومن روسيا أمر يدعو للتوقف.
وقد قال عباس منيف، أحد المحتجين للغارديان: "هذه المظاهرات امتداد للثورة السورية التي اندلعت عام 2011، لكن الأزمة الاقتصادية سبب إضافي للناس كي يحتجوا، فالمذنب هو نفسه: النظام وفساده. إنهم يسرقون خيرات البلاد ويحرمون الشعب منذ أكثر من نصف قرن، وهدفنا منذ 2011 لم يتغير وهو إسقاط النظام كخطوة أولى نحو بناء مستقبل أفضل للسوريين".
ويرى كثير من الناس في درعا أن ذلك المستقبل الأفضل يمكن أن يحققه أحمد العودة، الذي برز نجمه خلال المظاهرات، وبما أن العودة يقبض راتبه من روسيا، فموافقة موسكو على تلك التظاهرات التي تهدف لإسقاط بشار لا تحتاج لدليل إذن، لكنها تحتاج للتفسير.
والقصة هنا تحتاج للعودة للخلف عامين، حينما سقطت درعا في يد قوات بشار الأسد، حيث لم يحدث فيها ما حدث في باقي المناطق من استسلام لمقاتلي المعارضة ومن ثم إخراجهم إلى إدلب، بل ضغطت روسيا وقتها على بشار كي يقبل باتفاق مصالحة تم بموجبه انضمام المقاتلين لقوة أمنية محلية هي الفيلق الخامس بهدف مساعدة قوات النظام، وبحسب التقارير يضم هذا الفيلق أكثر من 30 ألف مقاتل حالياً.
ماذا تريد روسيا إذن؟
وعلى الرغم من كون الفيلق الخامس يتبع القوات المسلحة السورية، فإنه ليس جزءاً من وزارة الدفاع، فالفيلق الخامس ينتمي للعرب السنة ويعارض وجود الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني وكلاهما شيعة، وموسكو هي من تتكفل برواتب مقاتلي الفيلق ويأتمر بأوامرها، وبعد القضاء على داعش في درعا رفضت أغلب قوات الفيلق التوجه لإدلب، وخصوصاً الوحدة التي يقودها العودة وهي الكتيبة الثامنة.
ويقول أحمد محمد، أحد النشطاء المحليين، للغارديان: "يعتقد أهل درعا أنهم في حماية الفيلق الخامس الذي يحميهم من بطش قوات النظام وأذرعه الإيرانية في المنطقة، ولولا الفيلق لكان كثير من الناس قد تم اعتقالهم وتعذيبهم، بل إن أحداً لم يكن ليتظاهر من الأساس".
هذا الموقف بالطبع لا يروق لبشار الأسد، لكن دوافع موسكو أبعد من مجرد السعي لإزاحة الأسد كما قد يبدو من التصرفات والتصريحات الأخيرة؛ فالهم الأول لروسيا هو ألا تتواجد قوات تابعة لإيران أو حزب الله في درعا، لأن ذلك يهدد بتصعيد عسكري مع إسرائيل، وهذا هو الدافع الرئيسي من وراء حرص موسكو على وجود شبه حكم ذاتي في درعا وإحباط محاولات الأسد سحق المعارضة المسلحة هناك.
وهذا ما أكدته إليزابيث تسوركوف، الزميلة في معهد أبحاث السياسة الخارجية والمطلعة على تداخل القوى في الجنوب السوري، حيث قالت للغارديان: "أدركت روسيا أنها بحاجة لوجود حلفاء بين السنة العرب في المنطقة، وتريد ضمان سمعة جيدة بين السكان من خلال مساعدتهم على معرفة مصير أحبائهم الغائبين في معتقلات النظام".
لكن تسوركوف أضافت أنه من الصعب "تقييم الهدف النهائي لروسيا من وجود الفيلق الخامس، وبالطبع هو أمر مذهل أن نرى هؤلاء الرجال في نظر غالبية السكان أبطالاً معارضين للقوات الإيرانية وليسوا خونة للثورة، ومن الواضح أن السبب يرجع لكون الناس ترغب في تبرير بقائها في درعا".
لكن بغض النظر عن دوافع العودة والسكان المحليين، فمن الواضح أن روسيا باتباعها سياسة التوازن بين المكونات الموجودة على الأرض في درعا تريد من ناحية أن تبعد إيران تماماً عن التواجد بالقرب من إسرائيل، حتى لا يحدث تصعيد عسكري لا تريده ولا يخدم مصالحها واستثماراتها.