العداء بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، أو "الشيطان الأكبر" في الأدبيات الإيرانية، منعكسٌ في جميع ملفات الشرق الأوسط، لكن الأمر مختلف تماماً في أفغانستان، حيث تكاد أهداف طهران وواشنطن تكون متطابقة، فما قصة إيران وأفغانستان إذن؟
مجلة Foreign Affairs الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "ماذا تريد إيران في أفغانستان؟"، أعدَّه كولين كلارك، زميل باحث أقدم بمركز صوفان، أريان طباطبائي، مساعدة باحث أقدم في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا الأمريكية.
هل تنسحب القوات الأمريكية فعلاً؟
تتقدَّم المفاوضات الرامية لإنهاء الحرب الدائرة منذ أمدٍ طويل بين الحكومة المركزية في أفغانستان وحركة طالبان ببطء، وتتخللها تشنجات عنيفة. فكثيراً ما تشن طالبان وولاية خراسان التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية "داعش" هجمات على القوى الأمنية الأفغانية والمدنيين، مع استهداف ولاية خراسان للمناطق الشيعية بصورة متكررة.
وعلى الأرجح ستتطلَّب أي تسوية من الولايات المتحدة سحب معظم قواتها المقاتلة من البلاد. والرئيس الأمريكي دونالد ترامب متحمّس لمغادرة أفغانستان بعد قرابة عقدين من الزمن، ويعتزم مراجعة العديد من الخيارات لتقليص مستويات القوات، وهو الأمر الذي قد يحدث بسهولة بحلول نهاية العام.
وقد يوفر تقليص الوجود الأمريكي لإيران فرصةً لتوسيع نفوذها في أفغانستان، فلطالما كانت طهران حذرة من انعدام الاستقرار في جارتها -ودفعت عقود من الصراع مئات الآلاف من الأفغان إلى اللجوء في إيران- لكنَّها أحجمت حتى الآن عن القيام بمثل ذلك النوع من التحركات التدخُّلية في أفغانستان، والتي تنتهجها في العراق وسوريا واليمن، حيث يعمل وكلاؤها، لكنَّ إيران لديها الآن مجال للمناورة، وقد تشعر بإغراء للتدخل في الشؤون الأفغانية بقوة أكبر، لحماية مصالحها الداخلية وتقويض مصالح الولايات المتحدة.
بحثاً عن الاستقرار
تتعارض طهران وواشنطن في الكثير من مناطق الشرق الأوسط، لكنَّهما تتقاسمان أهدافاً مشتركة في أفغانستان، ودعمت إيران الجهود الأمريكية عقب الغزو في أواخر عام 2001، فساعدت على تشكيل التحالف الذي سيحل محل طالبان في كابول، وفي المفاوضات المبكرة بعد الغزو، أصرَّ المسؤولون الإيرانيون على أهمية إجراء انتخابات ديمقراطية في مرحلة ما بعد طالبان، واليوم لا توجد رغبة لدى إيران أو واشنطن لرؤية قوة ولاية خراسان تتنامى في البلاد.
وتحتاج إيران إلى الاستقرار في أفغانستان، فالبَلَدان يتشاركان حدوداً يسهل اختراقها، وكثيراً ما تمتد تبعات الفوضى في أفغانستان إلى الأراضي الإيرانية. وقد وصل البلدان إلى حافة الحرب في ذروة حكم طالبان في أواخر التسعينيات، حين قتلت طالبان في سبتمبر/أيلول 1998، عدة دبلوماسيين إيرانيين في مدينة مزار شريف شمالي أفغانستان.
وتنبئنا حالة عدم الثقة المستمرة في طالبان بما يفكر فيه الإيرانيون بشأن المباحثات الأفغانية-الأفغانية في هذه المرحلة، إذ تخشى طهران العناصر الأكثر تصلُّباً في طالبان، وتريد أن تبقى تلك الفصائل، المُقرَّبة في الغالب من باكستان والسعودية، بعيدةً عن السلطة في أي حكومة مركزية جديدة. وفي حين أنَّ معظم العناصر الأكثر تشدداً في حركة طالبان ذات الغالبية السُّنّيّة ربما لا تكون بنفس تعصب ولاية خراسان، فإنَّ هذه العناصر تنظر بصورة سلبية إلى إيران، مركز ثقل الشيعة في المنطقة، وهذا الشعور متبادل. لكن إن كان التعامل مع حكومة مركزية في كابول تضم عناصر من طالبان سيساعد طهران على حماية مصالحها الأساسية، فستكون طهران مستعدة لذلك. وبالفعل، حاولت إيران في السنوات الأخيرة إصلاح وتقوية علاقتها مع بعض فصائل طالبان، من خلال المبادرات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية.
تتضمَّن مصالح إيران السياسية والاقتصادية الأساسية في أفغانستان الحفاظ على قدرتها على وصول السلع الإيرانية إلى السوق الأفغانية، والحماية من عدم الاستقرار على طول حدودها. وقد رحَّلت طهران الآلاف من اللاجئين الأفغان، لكنَّ مزيداً من العنف قد يؤدي إلى تدفق جديد للاجئين. ومن ثَمَّ تُفضِّل إيران الوضع الراهن إلى حدٍّ كبير، الذي يوفر على الأقل النذر اليسير من الاستقرار الذي يسمح لطهران بالتركيز على أولويات أخرى تُعتَبَر أكثر إلحاحاً.
مع ذلك، هناك ظروف قد تشعر معها إيران بأنَّها مضطرة للتدخل في الشؤون الأفغانية، كأن تجد أنَّ الحكومة المركزية التي تأتي في كابول بعد تسوية تفاوضية، غير مقبولة، لأنَّ بها على سبيل المثال فصائل متشددة من طالبان، تضطلع بدورٍ قيادي، وتسعى لتحدي المصالح الإيرانية في أفغانستان.
وفي هذه الحالة، قد تنشر إيران قواتٍ في غربي أفغانستان لتمثل منطقة عازلة في مواجهة أي اضطراباتٍ أكبر. وقد تشعر إيران أيضاً برغبة في التحرك إذا ما تبين أنَّ الحكومة الأفغانية عاجزة عن كبح ولاية خراسان بفاعلية، واستمرت المجموعات الإسلامية المسلحة في تشكيل تهديد مباشر للمصالح الإيرانية، وكذلك للمناطق الشيعية. وقد يصل قادة إيران إلى استنتاج بأنَّ ميليشياتها يمكنها تأمين المواقع المهمة ودحر ولاية خراسان بصورة أفضل من القوى الأمنية الأفغانية.
جبهة جديدة؟
إذا ما قررت إيران إدخال نفسها بصورة أكبر في الشؤون الأفغانية، فإنَّ لديها أدوات قوية لعمل ذلك، إذ يتمتع القائد الجديد لقائد فيلق القدس، العميد إسماعيل قآني، بخبرة طويلة في أفغانستان، فقد اضطلع بدور عملياتي في تجنيد الأفغان للقتال في الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينيات، وضد طالبان في التسعينيات.
لكن ربما تكون الوسيلة الأرجح للتدخل الإيراني هي عن طريق قوة شبه عسكرية تنشرها في منطقة أخرى، وحققت بها نتائج كبرى، وقامت إيران بمهمة مثيرة للإعجاب لجمع كتائب من المقاتلين الشيعة الأجانب، للانضمام إلى الحرب في سوريا، والكثير من هؤلاء المقاتلين أتوا من أفغانستان وباكستان.
ومع احتمال تراجع الصراع في سوريا، قد تعيد إيران نشر المقاتلين الأفغان الشيعة في أفغانستان، لتوسيع متناول يدها في أرجاء المنطقة، أو لكبح التصعيد الكبير من جانب ولاية خراسان. يظل مقاتلو ولاية خراسان في الوقت الحالي موجودين بمعظمهم في الجزء الشرقي من أفغانستان قرب الحدود مع باكستان، لكن إذا طرأ تغيير على ذلك ستتغيَّر حسابات طهران أيضاً.
لا يزال القادة الإيرانيون يئنّون من قتل الولايات المتحدة للفريق قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الراحل، في مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، ومن الممكن جداً أن يُقرِّروا فتح جبهة ضد واشنطن في أفغانستان. وقد تسعى إيران أيضاً لتدبير سلسلة من الهجمات لتسريع الانسحاب الأمريكي، أو لجعل الأمر يبدو وكأن إيران قامت بدور أكبر في إجبار الولايات المتحدة على التراجع. وقد تستخدم طهران الميليشيات الأفغانية الشيعية كولاء لها حتى تنأى بنفسها عن الأعمال العدائية العلنية.
أنفقت إيران مليارات الدولارات لتسليح وتدريب ودفع رواتب آلاف من المقاتلين الأجانب في سوريا، بما في ذلك من الأفغان. وستكون أهم مهمة لقآني كخليفة لسليماني هي إدارة علاقة فيلق القدس مع تلك القوات. وتشي خبرته مع المقاتلين الأفغان الشيعة بأنَّ تلك الميليشيات على وجه التحديد قد تكون على استعداد للاضطلاع بدور أبرز في سياسة إيران الخارجية. ومهما كان شكل الحكومة المستقبلية في كابول، ستُبقي إيران عيناً متيقظة على حدودها الشرقية، حيث يمكن أن تصل إلى استنتاج مفاده أنَّ أفضل صورة للدفاع هي التدخُّل.