هل وضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأمنَ القومي لبلاده في خطر على حساب علاقته "الخاصة جداً" مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين؟ هذا السؤال الذي يتردد الآن قبل أربعة أشهر فقط من الانتخابات الرئاسية كان نقطة أساسية في الانتخابات الماضية التي فاز بها ترامب، فلماذا قد يكون الأمر مختلفاً هذه المرة؟
صداقة رومانسية بين الرجلين
تعود قصة استخدام مصطلح "صداقة رومانسية" بين ترامب وبوتين إلى عام 2016، حينما أصبح الرئيس الأمريكي الحالي المرشح الرسمي للحزب الجمهوري ليواجه منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، والسبب هو الإعجاب الشديد وعبارات المديح المتكرر من جانب ترامب بحق الرئيس الروسي.
ومن الطبيعي أن يثير ذلك علامات الاستفهام والدهشة والاستنكار من جانب كثير من الأمريكيين الذين يرون روسيا -وريث الاتحاد السوفييتي- دولة في قائمة الأعداء أو على أقل تقدير دولة لا تريد الخير لهم، وفي خضم معركة انتخابية شرسة بين ترامب عديم الخبرة السياسية وبين هيلاري صاحبة التاريخ الطويل في العمل السياسي سواء كسيدة أولى لمدة 8 سنوات، أو وزيرة للخارجية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، كانت علاقة ترامب-بوتين محط انتقاد كبير من المعسكر الديمقراطي.
وفي أحد أشهر البرامج الأمريكية وأكثرها مشاهدة وهو برنامج جيمي فالون على قناة NBC يوم 16 سبتمبر/أيلول 2016، واجه فالون ترامب بوصف "الصداقة الرومانسية مع بوتين" وطلب منه توضيح الأمر، وكان رد ترامب أنه ليس معجباً ببوتين ولا يكرهه أيضاً: "أنا لا أحمل له أي مشاعر على الإطلاق. أنا لا أفكر سوى في صالح الشعب الأمريكي".
وحكماً على نتيجة الانتخابات، من الواضح أن ترامب تمكن من إقناع أغلبية الناخبين الأمريكيين بمنطقه، فالرجل فاز بالفعل وأصبح الرئيس رقم 44 للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يدعو للتساؤل حول إصرار الديمقراطيين الآن على إعادة فتح ملف "الصداقة الرومانسية" بين الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي مرة أخرى قبل أربعة أشهر فقط من الانتخابات التي يسعى فيها منافس ترامب جو بايدن للإطاحة بالرئيس الذي يضع بقاءه لفترة ثانية في البيت الأبيض على رأس أولوياته منذ اليوم الأول لتسلمه مهام منصبه.
مكافآت روسية لقتل الجنود الأمريكيين
قبل أيام ظهرت تقارير عن "رصد روسيا مكافآت لقتل الجنود الأمريكيين" في أفغانستان وكيف أن تلك التقارير الاستخباراتية قد وصلت البيت الأبيض بالفعل قبل أشهر ولم يفعل ترامب شيئاً، وهو ما تسبب في جدل لا زال مستمراً، خصوصاً أن رد الرئيس الأمريكي تراوح ما بين نفي علمه بالأمر ثم تغير إلى القول إن المعلومات لم تكن "صحيحة".
وأمس الأربعاء 1 يوليو/تموز نشرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً بعنوان: "ترامب يرى أن القوات الأمريكية لا حاجة لها بعد استعمالها، وفضيحة المكافآت الروسية لقتل جنود أمريكيين خير دليل على ذلك"، تناول القصة التي ترصد التناقض الصارخ بين ما يقوله ترامب وبين ما يفعله.
يفضّل ترامب الإشارة إلى أنه يحظى بدعم الجنود الأمريكيين الذين يقاتلون خصوم الولايات المتحدة حول العالم، وكان هذا أحد الموضوعات المهمة التي اعتمدت عليها حملته في 2016، وكان كذلك موضوع حديثه في الأكاديمية العسكرية الأمريكية في منطقة ويست بوينت في وقت مبكر من الشهر الماضي، ورعايته المطلقة لمن يقاتل من الرجال الأمريكيين والنساء الأمريكيات، كانت شيئاً عظيماً، لدرجة أنه قال إنه سيوقف الحروب الخارجية المكلفة التي لا تنتهي والتي خاضها سابقوه من الرؤساء، وسيعيد الجنود إلى الديار.
غير أن التقارير الحديثة التي تشير إلى أن ترامب تجاهل معلومة استخباراتية رسمية تحذر من أن وحدة سرية تابعة للاستخبارات الحربية الروسية وضعت مكافآت من أجل استهداف الجنود الأمريكيين والبريطانيين في أفغانستان، تجعل تلك الكذبة التي يرددها الرئيس هراءً ساخراً على نحو خاص، بحسب تقرير الغارديان.
فتش عن "الصداقة الرومانسية"
لا ينكر ترامب مثل هذه الاستنتاجات الاستخباراتية المُقدمة في فبراير/شباط، أو ربما قبل هذا التاريخ، وعندما سُئل عن سبب عدم تحركه لإنقاذ أرواح الجنود، ادعى البيت الأبيض في البداية أن المعلومة الاستخباراتية كانت ضعيفة وغير مقنعة، وعندما دُحض هذا الادعاء، ادعى ترامب أنه لم يُبلغ بالأمر. فأي الأمرين نصدق؟
يظن كثيرون أن ترامب كان عازماً على استرضاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، صديقه الشرير في الكرملين، الذي يزعم الجاسوس البريطاني السابق في الاستخبارات البريطانية كريستوفر ستيل أنه يملك نوعاً من السيطرة الشخصية أو المالية على الرئيس الأمريكي، ولعل الأمر أبسط من هذا: لم يولِ ترامب ببساطة انتباهه عندما أحاطه ضباط الاستخبارات التابعون لمجلس الأمن القومي بالمسألة.
وفي كلتا الحالتين، فشل ترامب في أداء واجبه المنوط به، بوصفه القائد العام، لحماية أفراد الجيش الذين يخدمون بلادهم في أفغانستان، والذين تعرضوا لضرر في إطار تورطهم في صراع فشل في إنهائه، رغم وعوده.
كيف تأثرت السياسة الخارجية؟
تأثير العلاقة الخاصة بين ترامب وبوتين، أو بمعنى أدق "خضوع الرئيس الأمريكي لنظيره الروسي" حسب مزاعم ستيل وغيره من المحللين والمراقبين الأمريكيين لا يمكن إنكار وجوده، وذلك قياساً على المواقف التي تكررت ولا تزال بصورة لافتة ومثلت تحولاً في ملفات السياسة الخارجية كان بعضها تغييراً جذرياً.
قصة المعلومات الاستخباراتية بشأن المكافآت الروسية لقتل جنود أمريكا وبريطانيا في أفغانستان هي فقط الحلقة الأخيرة في سلسلة ممتدة، سبقتها كما ذكر تقرير الغارديان السياسة الأمريكية في سوريا، وهناك أيضاً تعبير ترامب علناً عن رغبته في أن تعود روسيا إلى مجموعة السبعة الكبار، والتي كانت تسمى مجموعة الثمانية قبل طرد روسيا منها عام 2014 بسبب غزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم.
وعندما تفجرت فضيحة سعي ترامب لابتزاز الرئيس الأوكراني كي يقوم الأخير بالتحقيق في مزاعم فساد لنجل منافسه بايدن الذي كانت له أعمال تجارية في أوكرانيا، وقيام الرئيس الأمريكي بتأجيل معونات عسكرية لأوكرانيا تحتاجها بشدة للدفاع عن نفسها ضد روسيا، فسر البعض ذلك أيضاً في إطار سعي ترامب لإرضاء بوتين وليس فقط للبحث عن "أي فضائح تضر بمنافسه المحتمل".
تاريخ ممتد من المواقف والتصريحات
والحقيقة أن بعض المعلقين الأمريكيين قد عبروا مراراً وتكراراً عن دهشتهم البالغة من علاقة ترامب ببوتين، خصوصاً أنها المرة الأولى في التاريخ التي يقوم فيها مرشح للرئاسة ثم رئيس أمريكي بكيل المديح للرئيس الروسي ووصفه "بالذكي جداً والقوي للغاية" ومقارنته بالرئيس الأمريكي -باراك أوباما- "الأقل ذكاءً والأقل قوةً".
لكن الأمر لم يتوقف عند التصريحات وحسب، فالأفعال نفسها تتحدث بصوت أعلى؛ ترامب اختار بول مانافورت الذي كان يعمل مستشاراً للرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش أحد أبرز حلفاء بوتين، ليكون مانافورت رئيساً لحملته الانتخابية عام 2016، وتم الحكم على مانافورت بالسجن خلال التحقيقات في "التواطؤ الروسي" في الانتخابات الأمريكية لصالح ترامب.
ووصف جيفري توبين -كبير المحللين القانونيين في شبكة CNN– اختيار ترامب لمانافورت بأنه يثير تساؤلاً مهماً حول ما إذا كان "مانافورت يعمل لصالح ترامب والشعب الأمريكي أم أنه كان يعمل بالفعل لصالح فلاديمير بوتين"؟
هل عرّض ترامب الأمن القومي الأمريكي للخطر؟
وفي هذا السياق، أصبحت القضية الآن -من وجهة نظر الديمقراطيين- تتعلق بمدى الخطر الذي تسببت فيه علاقة ترامب الخاصة ببوتين (بغض النظر عن أسبابها) على الأمن القومي الأمريكي، وهو ما تناولته شبكة ABCNEWS في تقرير لها بعنوان "الديمقراطيون يرون في تقارير مكافآت القتل جرس إنذار بشأن علاقة ترامب وبوتين الخاصة".
فبعد أن حضر وفد من النواب الديمقراطيين في مجلس النواب جلسة خاصة في البيت الأبيض لإطلاعهم على ملخص بشأن التقارير عن مكافآت روسية لطالبان مقابل قتل جنود أمريكيين، جدد النواب الدعوة لعقد جلسة لمجلس النواب بالكامل يطلعهم خلالها مسؤولو المخابرات عن القصة بالكامل.
وكان طبيعياً ألا يفوت رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس النواب آدم شيف -أحد أبرز المنتقدين لترامب والنائب الذي قاد فريق الادعاء في محاكمة ترامب البرلمانية وفشل في عزله- الفرصة كي يوجه ضربة أخرى للرئيس الجمهوري، فقال شيف إنه كان على ترامب أن "ينتبه لتلك التقارير الاستخباراتية سواء كانت قوية أو ضعيفة. لو أنك ستتحدث هاتفيا مع بوتين، فهذا أمر يجب أن تعرفه!".