استندت استراتيجية الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى أربعة أعمدة منذ أواخر السبعينيات: إسرائيل، وتركيا، والسعودية، ومصر، والآن فإن خلافات حلفاء أمريكا الكبار بالشرق الأوسط حولت المنطقة إلى فوضى.
كانت نجاحات الولايات المتحدة في المنطقة، أو على الأقل جزء منها، تُعزى إلى التعاون الوثيق مع دولة أو أكثر من هذه الدول: معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979، واحتواء الثورة الإيرانية، وهزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، ودحر إرهابيي القاعدة وما يُعرف بتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش).
بيد أنه بعد 40 عاماً تسبب خفض الإنفاق الجزئي من جانب الولايات المتحدة وتنامي المشاعر القومية والشوفينية في المنطقة، في دفع الدول الأربع نفسها إلى استخدام العنف خارج أراضيها لصياغة مصائر جيرانها الأضعف، بحسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times لبريطانية.
أما الولايات المتحدة فقد صارت الآن مراقباً بائساً، بينما يتعاظم نفوذ روسيا. وبالرغم من أن الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب طور علاقات شخصية وثيقة مع زعماء هذه البلاد، فقد استنزفت هذه البلاد نفسها رصيد النوايا الحسنة في الولايات المتحدة، الذي كان رصيداً هائلاً في سابق العهد.
لم يحتفظ بهذا الدعم الحقيقي إلا إسرائيل، حسب صحيفة The Financial Times.
لكن معاملتها القاسية مع الفلسطينيين في ظل الاحتلال والتوجه السياسي الشوفيني المتزايد أضعف مكانتها أيضاً في الولايات المتحدة، ولاسيما بين دوائر الحزب الديمقراطي وحتى في الجالية اليهودية. أما الدول الأخرى فينفد لديها الأصدقاء بسرعة، سواء في صفوف الحكومة أو الرأي العام.
ترامب وأوباما يتفقان على ضرورة الابتعاد عن المنطقة
الجدير بالملاحظة أن كلاً من الرئيس السابق باراك أوباما وترامب يعتقدون أن المشكلات المعقدة في المنطقة لا تقبل الحلول الأمريكية. وقد ارتأى الرئيسان، لأسباب مختلفة، أن الشرق الأوسط غير المضياف ليس إلا مقبرة للغطرسة الأمريكية.
رأى أوباما منطقة يسكنها "الخارجون عن السيطرة"، الذين يجب على قادتهم تحمل مزيد من مسؤوليات المشكلات الاقتصادية.
ويريد ترامب، الذي ينتقد العبء المالي للمنطقة، سحب القوات الأمريكية من جنوب آسيا والشرق الأوسط، ليترك عالماً لا يستطيع أبداً أن يفهمه على وضعه.
تقبّل كلا الرجلين سيادة روسيا في الدول المحطمة، مثل سوريا وليبيا، وكان كلاهما مهووساً بإيران، ولكن بطرق مختلفة جداً. عقد أوباما اتفاقاً نووياً في 2015 مع إيران كي تكون جوهرة تاجه في الشرق الأوسط، أما ترامب فقد مزّق هذا الاتفاق بكل سرور.
إسرائيل وتركيا في سوريا
تقاتل تركيا وإسرائيل الآن أطقماً متنافرة من المجموعات في سوريا، في إطار ما تبدو أحياناً حرباً بين الجميع لإعادة تشكيل بلد مشوهة لدرجة يصعب معها التعرف عليها. وقد تشجعوا بما يكفي عن طريق إدارة ترامب، تخشى تركيا التطلعات السياسية للأكراد في سوريا وما وراءها، وتسعى إسرائيل لضمّ جزءٍ كبير من الضفة الغربية لتجعل احتلالها غزواً مُقيماً.
في السنوات الأخيرة، أرسلت تركيا قواتها المسلحة إلى الولايات السابقة التي كانت تتبع الدولة العثمانية، بدءاً من سوريا القريبة، والعراق، ووصولاً إلى ليبيا، حيث تريد أنقرة ترسيخ وجود عسكريا دائما لها لحماية استثماراتها الاقتصادية السابقة وتأمين استثمارات جديدة.
كما هدَّد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مؤخراً بالتدخل العسكري في ليبيا، لكبح تقدم قوات حكومة الوفاق المدعومة من تركيا، بعدما هزمت رجله في ليبيا الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.
وتصف العديد من الصحف الغربية حفتر المدعوم من مصر والإمارات بأنه "سيسي ليبيا"، إذ يسعى إلى فرض حكم عسكري في البلاد، وأعلن مؤخراً إلغاء الاتفاق السياسي بما يحملة ذلك من تقويض حتى لمجلس النواب الذي يدعمه.
وأغنى الدول العربية تدمر أفقرها
عندما طلب أوباما من دول الخليج الاضطلاع بمزيد من المسؤولية تجاه احتياجاتها الأمنية، لم يتوقع أن يتعامل ولي العهد السعودي المتهور محمد بن سلمان مع ندائه على أنه مباركة لشن حملة جوية وحشية ضد أعدائه الحوثيين في اليمن.
وقف العالم عاجزاً أمام مشهد دمرت فيه واحدة من أغنى الدول العربية إحدى أفقر الدول العربية، وبدعم لوجستي كبير من إدارتي أوباما وترامب.
قُتل عشرات الآلاف من المدنيين، بمن فيهم الأطفال، وشُوهوا على يد التحالف الذي تقوده السعودية
في المقابل يقصف الحوثيون، الذين تسلحهم إيران، المدن اليمنية والسعودية قصفاً عشوائياً.
ماذا يجب على الإدارة القادمة أن تفعل مع حلفاء أمريكا الكبار بالشرق الأوسط
فأي الطرق سوف تسلكها الإدارة الأمريكية القادمة؟ بداية يجب عليها إنهاء علاقاتها الخاصة مع بعض من هذه البلدان الهائجة.
علاقات التحالف مع تركيا لم تعد كما كانت، خاصة مع توجه أنقرة للتسلح من روسيا.
تواصل إسرائيل تمتعها بالسخاء المالي الأمريكي والدعم السياسي شبه المطلق، بينما تبدي ازدراءً لموقف الولايات المتحدة ومصالحها.
وليس ثمة مبرر بكل بساطة لدعم أمريكا الموجه إلى نظام القاهرة الأشد قمعاً منذ ثورة يوليو/تموز 1952.
وبالنسبة للسعودية صارت أسعار النفط منخفضة عند أدنى مستوياتها، وصارت الولايات المتحدة تنتج طاقة أكثر من الرياض.
ولذا ينبغي لواشنطن أن تنهي احتضانها تلك المملكة المبهمة التي يحكمها أمير شاب يسعد باضطهاد الرجال والنساء من أصحاب العلم.
آن أوان توقف الولايات المتحدة عن الاعتماد على أعمدة الملح الأربعة الهشة هذه. وآن الأوان لأن يسلك صناع السياسة الأمريكيون مسلكاً جديداً في الشرق الأوسط، وأن يكونوا على مسافة متساوية من أجندة الحرية الخيالية القائمة على التدخل في شؤون الآخرين التي انتهجها جورج دبليو بوش، والتي قضت نحبها في العراق، وخفض الإنفاق غير المسؤول الذي تبعها، ما خلّف وراءها منطقة في حالة يرثى لها، من بنغازي الليبية إلى باب المندب في اليمن.