واصل النظام السوري جرائمه وانتهاكاته للحياد الإنساني طيلة السنوات التسع الماضية، بينما يقف المجتمع عاجزاً عن فعل شيء. مما يُحرّف مسار المساعدات المُخصّصة لنحو 16 مليون سوري محتاج، لا يزال ثلثاهم يقطنون مناطق خارج سيطرة النظام أو بلدان مجاورة. وفي حين يُخطِّط المتبرّعون لتجديد تعهداتهم المالية الإنسانية في بروكسل يوم 29 يونيو/حزيران، ربما يصل الفيتو الروسي خلال الأسابيع المقبلة لتفكيك ما تبقى من آلية الأمم المتحدة للمساعدات العابرة للحدود، مما سيزيد نفوذ النظام السوري على المنظمات غير النظامية ووكالات الأمم المتحدة، كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية.
إذ تُمثِّل الولايات المتحدة وأوروبا 90% من تمويل المساعدات الإنسانية للشعب السوري. وبإرسال تمويلهم المُتنوّع داخل وخارج إطار عمل الأمم المتحدة؛ تتمتّع تلك الدول بنفوذٍ يجب أن تستخدمه لاستعادة الحياد الإنساني وضمان وصول المساعدات إلى مستحقيها بدلاً من وقوعها في حوزة نظام بشار الأسد.
"معضلة أخلاقية"
تقول فورين بوليسي، إن الاستجابة الإنسانية في سوريا تتميّز بأنّها معضلةٌ أخلاقية. إذ أعدّت الأمم المتحدة آلية تنسيق قوية للغاية من أجل دعم المنظمات غير الحكومية داخل سوريا والدول المجاورة. وحصلت برامج الأمم المتحدة على تمويلٍ هائل (تجاوز الثلاثة مليارات دولار في عام 2019)، ووصلت إلى ملايين الأشخاص أثناء تطوير البرنامج الأكثر خضوعاً للتدقيق في العالم من أجل تيسير عمليات التسليم عبر الحدود، ومن أجل منع الجماعات المسلحة من تحويل الموارد.
وفي الوقت ذاته، ارتكب النظام السوري انتهاكات ممنهجة للمبادئ الإنسانية الخاصة بالنزاهة والحياد والاستقلال. إذ توجد أمثلة لا حصر لها على تسليح الموارد الإنسانية لصالح النظام. ولا تُعتبر المساعدات محايدةً إذا كانت تُسلم في غالب الأحيان إلى الموالين عبر المنظمات التابعة للنظام مثل الهلال الأحمر العربي السوري، أو الأمانة السورية للتنمية برئاسة زوجة الأسد.
ومن الضروري بالطبع الحفاظ على درجةٍ مُعيّنة من التنسيق النفعي مع السلطات المحلية داخل غالب مناطق الحرب. ولكن قلةً قليلة من المنظمات غير الحكومية التي تعمل في دمشق نجحت في مواصلة عملياتها بشكلٍ مستقل، بينما خضعت الغالبية العظمى من المنظمات للظروف التي فرضها النظام.
خضوع وكالات الأمم المتحدة للنظام
وتكمُن المعضلة في أنّ مساعدات الأمم المتحدة للسوريين تُموّل على الأغلب بواسطة دولٍ معارضة للأسد. إذ تكفّلت أوروبا والولايات المتحدة بنحو 90% من تمويل الأمم المتحدة، مع إسهامات وصلت إلى 19 مليار دولار و11 مليار دولار على الترتيب منذ عام 2011. ورغم ذلك تردّد كبار المانحين، مثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمفوضية الأوروبية، في التصدّي لتحويل مسار دعم الأمم المتحدة إلى دُمى النظام والموالين له. وربما خشيت تلك الدول على الأرجح أن تُتّهم من الأطراف الفاعلة الإنسانية بتسييس مساعداتها، فضلاً عن إضعاف وكالات الأمم المتحدة أكثر. وربما كانوا يخشون أيضاً من أن يصدر عن النظام رد فعل يحجب المزيد من المساعدات إلى غير الموالين.
ولم تترك أوجه القصور تلك خياراً آخر أمام المنظمات غير الحكومية، التي رفضت الإفصاح عن أنشطتها لمسؤولي نظام الأسد، سوى العمل بعيداً عن الأنظار مع وصولٍ محدود إلى أموال وتنسيق الأمم المتحدة.
وتُعَدُّ موسكو مساهماً ثانوياً في مساعدات الأمم المتحدة (بنسبة 0.3% عام 2019)، لكنّها حصدت نفوذاً غير متناسب على العمليات الإنسانية عن طريق الدعم الممنهج لتسييس المساعدات بواسطة الأسد. وحمت روسيا دمشق من أي تداعيات في أعقاب قصفها للمنظمات الإنسانية. كما عملت تدريجياً من أجل تقويض آلية عبور الحدود.
وعلى أرض الواقع، تتجاهل موسكو انتهاكات النظام السوري تماماً. وتهدف روايتها فقط إلى تبرير هيمنة النظام على وكالات الأمم المتحدة، كما تتجاهل الحقوق الإنسانية للشعب السوري، مثل الحق في الغذاء أو الدعم الطبي. ومن وجهة نظر الكرملين، فإنّ خضوع وكالات الأمم المتحدة للنظام يُمثّل نتيجةً طبيعية لموازين القوى.
كيف يمكن حل هذه المعضلة؟
تقول المجلة الأمريكية، لا يكمُن الحل في تحويل الأمم المتحدة إلى كبش فداء، أو قطع التمويل بالكامل عن سوريا التي هي في أمسّ الحاجة له. ولا يجب أن نتوقّع من المنظمات التي تعترف بالحقوق الإنسانية للسوريين أن تحُل المشكلات الهيكلية بمفردها. إذ تمتلك الدول المانحة القدرة على إصلاح الإطار الإنساني في سوريا عن طريق إعادة تخصيص التمويل بشكلٍ مختلف.
ويجب أن تظل حماية ما تبقى من آلية عبور الحدود هي الأولوية. إذ جرى تقليص نطاقها بالفعل من أربعة معابر حدودية إلى معبرين فقط هما باب السلام وباب الهوى على الحدود السورية-التركية، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2504 في يناير/كانون الثاني، وذلك بعد تصويت روسيا والصين بالفيتو على تجديد معبري اليعربية من العراق والرمثا من الأردن. وينتهي العمل بهذه الآلية المُقلّصة في العاشر من يوليو/تموز.
ويُوفّر مؤتمر المانحين الذي سيعقده الاتحاد الأوروبي في الـ29 من يونيو/حزيران فرصةً جاءت في وقتها المثالي بالنسبة للمانحين -مثل الولايات المتحدة وأوروبا وكندا- حتى يُعلنوا: أولاً أنّ إدارة التمويل العابر للحدود في تركيا لن تنتقل إلى دمشق في حال عدم تجديد القرار رقم 2504، وثانياً أنّه من الضروري وضع توجيهات تشغيلية أكثر صرامة وفرض رقابة مستقلة على المشروعات من أجل العمل في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
ويكمُن التحدّي الرئيسي بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها -داخل وخارج مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- في استخدام كافة الأدوات الممكنة من أجل التوصّل إلى تسوية مع موسكو للحفاظ على المعبرين الحدوديين من تركيا وتحسين الوصول إلى شمال شرق سوريا، بدءاً من المحادثات الثنائية مع روسيا وتركيا ووصولاً إلى الدبلوماسية الشخصية على المستوى الوزاري والتواصل مع الأمين العام للأمم المتحدة.
وفي حال عدم تجديد آلية عبور الحدود، فيجب على المانحين جمع الأموال التي كانت مخصصةً للمساعدات وتوجيهها إلى مُساهمين خارج إطار عمل الأمم المتحدة. وحتى في حال تجديدها، فيجب أيضاً على المانحين الرئيسيين أن يفرضوا شروطاً على تمويلهم لعمليات الأمم المتحدة في دمشق، ويُعيدوا توزيع التمويل بطريقةٍ مختلفة تستند إلى احترام المعايير الإنسانية. كما يجب على الحكومات المانحة تحويل تمويلها إلى وكالات أخرى، أو تمويل المنظمات غير الحكومية خارج إطار عمل الأمم المتحدة، في حال رفضت وكالاتٌ مثل منظمة الصحة العالمية في دمشق توضيح علاقاتها مع النظام. إذ طوّرت المنظمات السورية غير الحكومية مهارات واسعة النطاق ويُمكن دعمها مباشرةً.
ويُمكن لجمع التمويل خارج نظام الأمم المتحدة أن يزيد المساعدة المباشرة من أربيل في العراق إلى شمال شرق سوريا، على غرار المركز الإنساني في غازي عنتاب بتركيا. وربما تزيد هذه التدابير النفقات على المانحين، لكنّها ستُمثّل استثماراً قيّماً يمنع تحويل الأموال إلى نظام الأسد. فضلاً عن أنّ تغيير الشركاء بناءً على توجيهات أكثر صرامة سيخلق نوعاً من المنافسة التي يستطيع الأمين العام للأمم المتحدة استغلالها لتقوية المساءلة الداخلية، ومساعدة المنظمات غير الحكومية على التفاوض مع دمشق من أجل رفع المعايير الإنسانية.
4.6 مليون سوري في مناطق النظام يعانون
السوريون بحاجةٍ إلى المزيد من المساعدات، لكن المطالبات بتطبيق مركزية العمليات في دمشق تتجاهل إلى أيّ مدى لا يزال الوضع الإنساني في سوريا مجزّءاً. إذ يعيش نحو 4.6 مليون من أصل 16.6 سوري محتاج داخل مناطق يُسيطر عليها النظام، بينما تُواصل دمشق منع الوصول إلى مناطق المعارضة السابقة التي أصبحت تُسيطر عليها الآن مثل الغوطة الشرقية بالقرب من العاصمة، في حين تسيطر بالكاد على مناطق أخرى مثل درعا.
في حين يعيش نحو 5.6 مليون سوري آخر كلاجئين في الدول المجاورة، مع خطر القبض عليهم في حال عودتهم. ويعيش 2.8 مليون على الأقل من المحتاجين لمساعدةٍ إنسانية في الشمال الغربي الخاضع لسيطرة المعارضة الموالية لتركيا، بينما يعيش 1.8 مليون في الشمال الشرقي تحت سيطرة المجموعات الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة. ويتطلّب كلٌ من هذه المواقف حلولاً خاصة في غياب التسوية السياسية.
ويحق للمنظمات الإنسانية الشعور بالقلق إزاء ضغوطات المانحين لأنّها تخشى استغلالها، لكن مستوى تدخل النظام في عملها كان يستدعي رد فعلٍ جماعي أبكر. إذ إنّ تدمير المبادئ الإنسانية في سوريا ستكون له تداعياتٌ سيئة وبعيدة الأمد على كيفية عمل الأمم المتحدة في مناطق أخرى من العالم، إذا فشل المانحون والوكالات والمنظمات غير الحكومية في إصلاح المنظومة. لقد أظهر الصراع السوري أنّ الشيطان -وما تبقى من نفوذ المانحين- يكمُن في التفاصيل.