أصبح الاختراق الصيني للغرب أكبر تحدٍّ يواجه الديمقراطية في هذه الدول بعدما تحولت الصين من استخدام القوة الناعمة إلى القوة الحادة.
و"القوة الحادة" مصطلحٌ صاغه خوان بابلو كاردينال عام 2017، وتستخدمها الأنظمة الاستبدادية "للتلاعب بالثقافة والأنظمة التعليمية ووسائل الإعلام، والسيطرة عليها".
ويستغل هذا النهج عدم التماثل بين الأنظمة الحرة والأنظمة غير الحرة، مما يسمح للأنظمة الحاكمة بالحد من حرية التعبير وتشويه البيئات السياسية في الديمقراطيات، مع حماية بلادهم في الوقت ذاته من التأثير الخارجي.
وتحوّلت السياسة الخارجية الصينية في السنوات الأخيرة من القوة الناعمة القائمة على التقارب، إلى استغلال سطوتها الاقتصادية. وشعرت ديمقراطيات العالم بآلام القوة الحادة الصينية في قضايا احتجاجات هونغ كونغ، ومعسكرات اعتقال الإيغور، وجائحة كوفيد-19 مؤخراً، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Diplomat الأمريكية.
ومن المستبعد أن تتراجع الصين عن هذه السياسة الخارجية، بسبب المناخ الداخلي، مما يُذكي التوتُّرات في علاقتها مع الولايات المتحدة وغيرها من الديمقراطيات.
الأمر بدأ مع هونغ كونغ
قبل اختراق الصين للغرب، كانت هونغ كونغ بمثابة موقع الاختبار لتلك القوة الحادة.
وكمستعمرة بريطانية سابقة، كانت هونغ كونغ تتمتع بدرجة أكبر من الحرية السياسية والاقتصادية من البر الرئيسي للصين وتايوان، وتطورت إلى مركز لصناعة الأفلام في العالم الناطق بالصينية (وضمن ذلك الشتات بجميع أنحاء العالم).
ولعقود من الزمان، كانت هونغ كونغ ثالث أكبر صناعة للأفلام السينمائية في العالم (بعد السينما الهندية وهوليوود) وثاني أكبر مصدر.
وعلى الرغم من أزمة الصناعة التي بدأت في منتصف التسعينيات وعودة هونغ كونغ إلى السيادة الصينية في يوليو/تموز 1997، احتفظ فيلم هونغ كونغ بكثير من هويته المميزة ولا يزال يلعب دوراً بارزاً بالمسرح السينمائي العالمي في الغرب.
وحين بلغت صناعة الترفيه في هونغ كونغ ذروتها خلال التسعينيات؛ استطاع رموز الموسيقى الكانتونية (لغة هونغ كونغ وجنوب الصين) المشاركة في استضافة الذكرى العاشرة لعشية الرابع من يونيو/حزيران (أحداث ساحة تيانانمن) دون تداعياتٍ سياسية.
وعلى نحوٍ مماثل، دُعِيَت المغنية التايوانية الراحلة تيريزا تينغ إلى الصين؛ لتقديم حفلاتها في الثمانينيات، رغم وصفها بـ"الخائنة" للصين، بسبب أغنياتها الحساسة سياسياً. ونادراً ما تُؤثّر السياسة على الحرية الفردية والتعبير الفنّي للفنانين المُقيمين خارج البر الرئيسي للصين.
لكن الصناعة تغيّرت بشكلٍ كبير منذ أن بدأت هونغ كونغ في إنتاج أفلام مشتركة مع الصين. إذ اضطُّر صُنّاع الترفيه عادةً إلى الالتزام علناً بخط الحزب القومي من أجل الحفاظ على فرص عملهم. وأي تعليقات أو أفعال غامضة كانت تضعهم مباشرةً تحت تصنيف "مؤيّدي استقلال هونغ كونغ" و"غير الوطنيين"، الذين يُؤثّرون على الفنانين الشباب والأسماء الأكبر مثل "العالم الناطق بلغة الماندرين".
وعلى مرّ السنوات، أسهمت قوة الصين الحادة في خنق المجتمع المدني بهونغ كونغ، بدءاً من قطاع الإعلام ووصولاً إلى قطاع التجارة، الذي من المفترض أن يكون محميّاً بموجب مبدأ "دولة واحدة ونظامان". والآن، تدق الصين المسمار الأخير في نعش الحكم الذاتي لهونغ كونغ بدفعها من أجل فرض قانون الأمن القومي، وتجاوز الهيئة التشريعية بالمدينة.
والحكومات رحبت بالاختراق الصيني للغرب
ورحّبت الدول الغربية أوّل الأمر بنهج القوة الناعمة الصيني، حتى بدأت بكين في تمويل مراكز الدراسات؛ من أجل التأثير على الآراء الأكاديمية. وأبرز مثالٍ على ذلك هو معاهد كونفوشيوس، وهي عبارةٌ عن منظمات تعليمية تُروِّج للغة والثقافة الصينيتين.
لكن الافتقار إلى الشفافية في معاملاتها المالية مع الجامعات المُضيفة، ورقابتها على نقاشات الحزب الشيوعي الصيني الحساسة داخل الحرم الجامعي، أدّيا إلى إغلاق عديد من تلك المعاهد حول العالم.
كما رفضت الجامعات الأمريكية عروض التمويل الأخرى المرتبطة بالحكومة الصينية، بسبب مخاوف الاختراق. وفي أستراليا، تتعرّض علاقة المُشرّعين بجماعات الدعاية الصينية لانتقادٍ كبير، إذ لم يعُد المجتمع الدولي يعتبر الحوافز الاقتصادية الصينية غير ضارة.
ولكن ها هو الغرب يستفيق
ومؤخراً، استشعر الغرب تهديداً للأمن القومي بالتزامن مع ترويج الصين لنجاحها في السيطرة على كوفيد-19.
ورأى عديد من الباحثين أنّ المجتمع الدولي سيمنح الأولوية للأرباح والوصول إلى السوق الصيني، لكن ذلك لن يكون صحيحاً حين تتجاوز الصين حدود الأمن القومي.
بل إن الاستخدام العدواني للقوة الحادة سيُوحِّد ديمقراطيات الغرب ويُثير رد فعلٍ عالمياً. ففي النهاية، ليست الصين هي القوة العظمى الوحيدة في العالم.
هكذا تجبر بكين القوى المؤثرة على الصمت عن جرائمها
وكشفت الصين عن معدنها الحقيقي بقائمةٍ طويلة من وقائع التنمُّر. إذ استهدفت خلال العامين الماضيين فقط، دوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين (بسبب تغريدة المدير العام لفريق هيوستن روكتس)، ونادي أرسنال الإنجليزي (بسبب رسالة دعم نجمه مسعود أوزيل لاحتجاجات هونغ كونغ)، ومجموعةً من الشركات الدولية -بدءاً من خطوط الطيران ووصولاً إلى البنوك- بسبب اعتبار تايوان دولة.
ويُمكن أن تتعرّض العلامات التجارية العالمية للحظر من السوق الصيني بسبب مواقفها، أو حتى نشاط موظفيها على الشبكات الاجتماعية، إن رأت الصين أنها "تجرح مشاعر الشعب الصيني". وعلى الجانب المقابل، لن تتعرّض العلامات التجارية الصينية لمثل هذه العواقب في الخارج إن قرّرت انتقادَ الزعماء والرأسمالية علناً. فضلاً عن أن مزايا السوق المثيرة للجدل، نتيجة إعانات الحكومة الصينية وانتهاكات الملكية الفكرية المحتملة، زادت من مشاعر الاستياء في الغرب.
وعلاوةً على ذلك، كانت واقعة خطوط طيران Cathay Pacific -ومقرها هونغ كونغ- بمثابة صيحة استفاقة، إذ كشفت عن خطورة عمل الشركات الدولية تحت إشراف الصين. وفي خضم الاحتجاجات المناهضة لتسليم المجرمين بهونغ كونغ ضغطت الصين على Swire، الشركة الأم لخطوط طيران Cathay Pacific، بسبب إعلان العاملين في الشركة دعمهم للاحتجاج؛ مما أسفر عن تسريح كثير من الموظفين واستقالة الرئيس التنفيذي روبرت هوغ. ونتيجةً لذلك تلطّخ اسم شركةٍ لها سمعتها. ومن المستبعد أن تسمح الولايات المتحدة والدول الأوروبية للشركات الصينية بمواصلة العمل دون تنظيم، والإضرار بالشركات المحلية.
إنهم يتوغلون أكثر من الاتحاد السوفييتي
إبان الحرب الباردة، كانت أجهزة استخبارات الغرب تُراقب الاستثمارات السوفييتية السرية على أرض الوطن عن قرب. لكن الاختراق الصيني الحالي للشركات ووسائل الإعلام الغربية أوسع نطاقاً بكثير من الاختراق السوفييتي، كما يتجلّى من حملة الدعاية العالمية في أثناء الجائحة.
كما يُحكِم الحزب الشيوعي الصيني قبضته على الشركات الصينية، سواء الشركات تُسيطر عليها الدولة أو "الشركات الخاصة" التي يُديرها عادةً أفرادٌ من الحزب.
واضطر مؤسّسو شركات كبرى، مثل جاك ما وبوني ما، إلى التخلّي عن مناصبهم التنفيذية. ولا شك في أن تدقيق الغرب في أمر الشركات الصينية سيتزايد في أعقاب كوفيد-19 ويصير موضوعاً رئيسياً بالمحادثات التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
الوضع أكثر تشدداً من عهد الثورة الثقافية
وتحت الضغوط الدولية، تتمتّع الدول الواقعية سياسياً بمجموعةٍ واسعة من الاستجابات الممكنة. لكن الصين تتراجع إلى حقبةٍ شبيهةٍ بالثورة، حيث تُهيمن إدارة الدعاية بالحزب الشيوعي والفصائل القومية المُتشدّدة على النقاشات في كافة المجالات، من الأنشطة الاقتصادية إلى السياسة الخارجية، لتُجبر الجميع على الامتثال لأيديولوجية الحزب الصارمة.
وكانت الثورة الثقافية عبارةً عن حملة أطلقها ماو تسي تونغ قبل 50 عاماً؛ لإحكام قبضته على السلطة، وتطهير الساحة من خصومه السياسيين عن طريق تصنيفهم أعداءً للدولة. وتعرَّض المُعتدلون للإهانة علناً بواسطة الحرس الأحمر، "بسبب معارضتهم للثورة". لكن ذلك العصر شهد شيئاً من المرونة في القيادة والسياسات. فعلى سبيل المثال، لم يستقبل الجمهور الرئيس ريتشارد نيكسون بعدائية خلال زيارته لتطبيع العلاقات الصينية-الأمريكية عام 1972، رغم أن المناخ العام كان شديد العداء تجاه الولايات المتحدة. كما نأت قيادة الحزب الشيوعي الصيني بنفسها عن مناهضي الإمبريالية إبان أعمال شغب عام 1967 بهونغ كونغ، ولم تسعَ كذلك إلى الخيار المُتشدّد الذي يتضمّن فرض السيطرة على هونغ كونغ.
والشركات الأجنبية مضطرة لمواكبة القومية الصينية المتشددة، وإلا فإنها ستعاقب
واليوم صارت القومية المُتشدّدة أكثر انتشاراً بفضل الشبكات الاجتماعية الصينية، وترتبط بشكلٍ مثير للاهتمام بالمصالح الاقتصادية للفصائل القومية. فضلاً عن أن الشركات الأجنبية التي تدخل السوق الصيني تصير عرضةً لحملات التشويه من المنافسين، إذ إن تعليقات بسيطة من القوميين على الإنترنت تصف الشركة بأنها "مُؤيّدةٌ لاحتجاجات هونغ كونغ"، ستضعها في موقفٍ صعب للغاية: فإما أن تلتزم الصمت وتظل تحت المقاطعة داخل البر الرئيسي للصين، وإما أن تنحاز إلى جانب الحزب الشيوعي الصيني وتخسر سمعتها الدولية.
ومن شأن ذلك أن يخنق الحيوية الاقتصادية، ويمنح الفصائل القومية نفوذاً كبيراً على الاقتصاد.
ولا شك في أن الافتقار إلى الأصوات المتنوعة يحدُّ من الخيارات السياسية المطروحة أمام قيادة الحزب الشيوعي الصيني، إذ إن الإنترنت مُحاصَرٌ خلف "جدار الحماية الناري العظيم"، كما همّشت الرقابة الأصوات الليبرالية منذ وقتٍ طويل. وربما تتجنّب القيادة مخاطر اتخاذ سياسات مُعتدلة؛ خشية رد فعل جماعات المصالح القومية المُهيمنة. وخير دليلٍ على ذلك فشل حكومة هونغ كونغ في اتخاذ سياسات معتدلة إبان الأزمة المتفاقمة حالياً.
والعالم في طريقه إلى غدٍ أكثر استقطاباً، دون أي مؤشر في الأفق على نهاية سياسة القوة الحادة الصينية.