قضى عبدالحليم العكوم الشطر الأعظم من حياته في ادخار النقود، أملاً في السفر من بلدته الجبلية اللبنانية إلى مكة لتأدية فريضة الحج. وكان من المقرر أن ينطلق في رحلته هذا العام، قبل أن تُجبِر جائحة فيروس كورونا المملكة العربية السعودية على إلغاء موسم الحج للمرة الأولى في التاريخ، على حد قول بعض الباحثين.
صدمة وحزن وخيبة أمل
تقول صحيفة New York Times الأمريكية، إن الإعلان السعودي أثار الصدمة والحزن وخيبة الأمل في كافة أنحاء العالم الإسلامي، كما قوّض خطط ملايين المسلمين لتأدية الحج، الذي يتطلّع إليه الكثيرون طيلة حياتهم، والذي يُمثّل تجربة يقظة روحية عميقة.
إذ إنّ حج بيت الله الحرام لِمن استطاع إليه سبيلاً مرةً واحدة على الأقل هو واحد من أركان الإسلام الخمسة. وتُمثّل رحلة الحج مهمةً مُقدّسة لنحو 1.8 مليار مُسلم حول العالم، لدرجة أنَّ عائلات الحجيج في بعض الدول العربية يطلون منازلهم بلوحات جدارية للدلالة على وجود حاجٍّ لبيت الله في منزلهم.
في حين يدَّخر الكثير من الناس طيلة حياتهم من أجل حجّ بيت الله، وكانوا يقضون شهوراً لبلوغه قبل ظهور وسائل النقل الحديثة.
الإلغاء كان كارثياً، لكنه ضروري
فضلاً عن أنَّ موسم الحج مهمٌّ للشركات أيضاً؛ إذ إنَّ موسم الحج الذي يستمر لعدة أيام وينطلق أواخر يوليو/تموز العام الجاري، والعمرة التي يُمكن تأديتها طوال العام، يُدِرُّ على السعودية مليارات الدولارات سنوياً. إلى جانب وجود وكالات سفر للمجتمعات المسلمة من تكساس وحتى طاجيكستان، وهي متخصصةٌ في توصيل الحجيج من وإلى الأماكن المقدسة وتوفير الإقامة على طول الطريق.
تتكلّف رحلة الحج للشخص الواحد مبلغاً يتراوح بين ثلاثة آلاف و10 آلاف دولار، بحسب طارق كلش، الذي يُدير إحدى وكالات السفر في بيروت. وتُوفِّر وكالة السفر خدماتها للعديد من الجمعيات الإسلامية التي تدفع لمجموعات من فقراء المسلمين حتى يُسافروا لتأدية فريضة الحج كل عام. وأضاف أنّ إلغاء موسم الحج كان كارثياً، ولكنّه ضروري.
وأعلنت الحكومة السعودية التي يُمثّل الحج أحد مصادرها الرئيسية للسياحة والمكانة المرموقة، يوم الإثنين 22 يونيو/حزيران، أنّها لن تستقبل الحجيج من خارج المملكة هذا العام لاحتواء العدوى.
وفي يوم الثلاثاء، 23 يونيو/حزيران 2020، قلّص المسؤولون السعوديون ذلك القرار، قائلين إنّه سيتم السماح لألف حاجٍ فقط بتأدية فريضة الحج هذا العام، وهو رقمٌ ضئيل للغاية مقارنة بـ2.5 مليون حاج سافروا إلى مكة العام الماضي.
وتعرّض موسم الحج للمقاطعة والتقليصات في أكثر من مناسبة نتيجة الحروب والأمراض، لكنّه لم يتعرّض لمثل هذه القيود الكبيرة على الحضور منذ منتصف القرن الـ19، حين أبعدت جوائح الكوليرا والطاعون الحجيج لبضع سنوات.
ولم يسبق للمملكة العربية السعودية، التي يحمل ملكها لقب "خادم الحرمين الشريفين"، أن ألغت موسم الحج منذ تأسيسها عام 1932.
وانتقد القليلون قرار تقليص الحجيج، لأنَّ المملكة تُعاني بالفعل واحدةً من أكبر حالات تفشِّي فيروس كورونا في الشرق الأوسط، مع إعلان إصابة نحو 161 ألف شخص ووفاة 1300 بسبب الفيروس.
فرصة تحتاج للانتظار لسنوات طويلة
وفي مصر، حوّلت المصاعب الاقتصادية الحجَّ خلال السنوات الأخيرة إلى حلمٍ بعيد المنال بالنسبة للكثيرين، ما زاد حدة الصدمة إزاء إلغاء موسم الحج هذا العام.
إذ قدَّمت السيدة زينب إبراهيم، مديرة إحدى المدارس، في نظام الحج بالقرعة الذي تُجريه الحكومة من أجل الحصول على رحلة حجٍ مجانية قبل أربع سنوات، لكنّها كانت تفشل في الفوز كل مرة؛ لذا قرّرت هذا العام جمع التكلفة من مدخراتها الشخصية. وقالت زينب (58 عاماً)، التي تجني 175 دولاراً شهرياً: "كُنت أريد تأدية الحج وأنا لا أزال بصحةٍ جيدة، ولا تهمني التكلفة".
وفي الكثير من البلدان يتعيَّن على الناس الانتظار لسنوات حتى يتم إدراجهم في حصة بلادهم من الحجيج -حتى وإن كانوا يمتلكون المقدرة المادية- وتُعيِّن السعودية هذه الحصة بهدف تحقيق تكافؤ الفرص بين مواطني دول العالم الإسلامي.
إذ قال الإمام موخي ترك (45 عاماً)، إنَّ 15 شخصاً من قريته الزراعية المتهالكة في مقاطعة قندوز بأفغانستان كانوا ينتظرون دورهم في تأدية الحج هذا العام، وإنّ بعض الجيران باعوا أراضيهم من أجل سداد التكلفة.
وأردف: "أصابني القرار بحزنٍ عميق، لأنَّ كل مسلم يأمل في تأدية فريضة الحج مرةً على الأقل في حياته، ولكن حين جاء دوري أُلغِيَ موسم الحج. أشعر بغضبٍ شديد لأنّني لا أضمن بقائي على قيد الحياة خلال الأيام القليلة المقبلة، ناهيك عن العام المقبل".
الحج عبر الأزمان
ومنذ موسم الحج الأول عام 632، سافر المسلمون إلى مكة رغم كل المصاعب والشدائد والكوارث، وحوّلوا موسم الحج تدريجياً من مسعى مقصور على عددٍ صغير من القادرين إلى واحدٍ من أكبر التجمعات الإسلامية في العالم. وطيلة قرون كان الوصول إلى مكة سالماً يُمثّل سبباً كافياً للاحتفال.
ففي العهود القديمة، كان الحجيج على ظهور الجمال يجتازون الصحاري الشاسعة بشبه الجزيرة العربية، وسط قوافل ضخمة تنطلق من القاهرة أو دمشق، في رحلاتٍ تستغرق نحو ستة أسابيع، وتكون عرضةً لهجمات قطاع الطرق من البدو. بينما وصل الآخرون بحراً مُجتازين العواصف، وتفشي الأمراض في السفن المزدحمة، وغيرها من التهديدات.
لكن قناة السويس أسهمت في تقصير الرحلة البحرية على الكثيرين بعد افتتاحها عام 1869، في حين سهّل ظهور المركبات الآلية الرحلة البرية بدءاً من العشرينات، لكن أعداد الحجيج ظلّت منخفضة؛ إذ شهد موسم الحج عام 1929 وصول 66 ألف حاج فقط.
وبدأت أعداد الحجيج في الارتفاع خلال السبعينات، بعد أن صارت أسعار السفر الجوي الجماعي معقولة، وبعد أن أدرك حكام السعودية أنَّ الحج يُدِرُّ على السعودية دخلاً كبيراً، إلى جانب المكانة الدينية المرموقة.
"حلمت بالحج لـ20 عاماً"
ومنذ التسعينات بدأت مواسم الحج تشهد الكثير من حوادث التدافع، وحرائق الخيام العملاقة، والمخاوف بشأن تفشِّي أمراض مثل السارس وميرس. إذ وقعت حادثة التدافع الأكثر دموية في عام 2015، حين لقي أكثر من 2200 شخص مصرعهم.
لكن السلطات السعودية لم يسبق لها إلغاء موسم الحج من قبل على الإطلاق، رغم الكوارث المأساوية الدورية.
ويقع الشطر الأكبر من عبء الإلغاء على المسلمين الأكبر سناً، الذين انتظروا لسنوات أملاً في تأدية فريضتهم الدينية قبل أن تُوافيهم المنية.
إذ قالت فريان المصري (68 عاماً) من بيروت: "كنت أحلم بالحج طيلة 20 عاماً، وتمنيت أن أُؤدي هذه الفريضة قبل أن أبلغ من العمر أرذله".
وأخيراً، أُدرِج اسمها هذا العام على قائمة الجمعية الإسلامية اللبنانية التي تُموّل رحلات الحج لغير القادرين، لكن الجائحة جاءت لتقضي على فرصها. وأردفت: "إن شاء الله سوف أحُجّ بيته الحرام العام المقبل. إن كُنت لا أزال على قيد الحياة".