بعد أن ساهم في إجهاض مشروع خليفة حفتر وارتفعت أسهمه بشكل واضح وخطف الأضواء دولياً وداخلياً، أصبح البعض يرى في عقيلة صالح رئيس مجلس نواب طبرق مفاوضاً مناسباً باسم المنطقة الشرقية بغرض التوصل إلى سلام يعيد بناء مؤسسات الدولة في ليبيا ويعزز وحدتها، والسؤال هل صالح مؤهل فعلاً لإصلاح ما أفسده حفتر؟
أحد أبرز المعرقلين للعملية الدبلوماسية
صحيح أن صالح انقلب على الجنرال الانقلابي حفتر، لكن الحقيقة هي أن الرجل لم يغير موقفه منه إلا بعد أن تعرضت ميليشيا شرق ليبيا للهزيمة على أبواب العاصمة وتبخرت أوهام السيطرة والديكتاتورية، فصالح ساهم بدور رئيسي في دعم حفتر وانحاز له بالكامل في وقت كان رئيس مجلس نواب طبرق في وضع يسمح له بلعب دور محوري في توحيد البلاد وجمع فرقاء الوطن.
ورغم أنه انتخب نائباً في مجلس النواب في انتخابات 2014، ثم رئيساً له، فإنه لم يحترم الكثير من القواعد الديمقراطية، ولا الإعلان الدستوري، واستفرد بقرارات البرلمان، على غرار تعيين حفتر قائداً للجيش دون استشارة النواب، المنقسمين بشأن هذه الشخصية الجدلية، بحسب تقرير لوكالة الأناضول اليوم الخميس 18 يونيو/حزيران.
وحتى بعدما وقّع وفدا مجلس النواب في طبرق، والمؤتمر العام في طرابلس، وبرعاية أممية، على اتفاق الصخيرات، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2015، عارضه صالح، وسعى لتعطيل تنفيذه بكل السبل.
مواقف متناقضة
ووقع صالح في تناقض غريب، فمن جهة يرفض التنازل عن صلاحيات رئيس الدولة (بما فيها تعيين قائد الجيش) إلى المجلس الرئاسي، طبقاً للاتفاق السياسي، وفي نفس الوقت يقبل بتمديد المجلس الرئاسي لولاية مجلس النواب عاماً آخر بعد انتهائها في 2015، طبقاً للإعلان الدستوري، الذي يمنع التمديد.
فبدون الاتفاق السياسي، تنتهي ولاية مجلس النواب، ويفقد عقيلة صالح أي شرعية دستورية أو اعتراف دولي، لكن ظل الأخير يلعب على الحبلين؛ القبول بالتمديد، ورفض الاتفاق في نفس الوقت.
وهذه المواقف المتناقضة لصالح دفعت وزارة الخزانة الأمريكية إلى فرض عقوبات عليه في مايو/أيار 2016، واتهمته بأنه "عرقل مراراً تصويت مجلس النواب على تأييد عملية الانتقال السياسي في ليبيا".
كما اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً مماثلاً في الأول من أبريل/نيسان 2016، يشجب سياسة صالح "المعرقلة" لعمل الحكومة، مما جعله حينها "منبوذاً" دولياً، على حد وصف أحد المسؤولين في طرابلس.
رئيس برلمان بلا نواب!
إجمالي عدد نواب البرلمان الليبي 200، لكن لم ينتخب منهم سوى 188 نائباً في 2014، في حين أن 12 مقعداً مخصصاً لمدينة درنة (نحو 1350 كلم شرق طرابلس) بقيت شاغرة، لأن المدينة كانت خاضعة لتنظيمات متطرفة تُحرم الانتخابات.
وبسبب اجتماع غالبية أعضاء البرلمان في مدينة طبرق (شرق)، بدلاً من استلام السلطة من المؤتمر العام في طرابلس، ثم الانعقاد في مدينة بنغازي بشكل دائم، وفق الإعلان الدستوري، مما أدى إلى أزمة دستورية، خاصة بعد مقاطعة أكثر من 50 نائباً لاجتماع المجلس في طبرق، كان فتحي باشاغا، وزير الداخلية الحالي أبرزهم.
ففي كل مرة كان عدد النواب المجتمعين في طبرق يتقلص، إلا في مرحلة واحدة بعد التوقيع على الاتفاق السياسي نهاية 2015، وعودة النواب المقاطعين لحضور الجلسات مطلع 2016، لكن المضايقات التي تعرض لها بعض النواب المعارضين لحفتر، ووضع عقيلة صالح العراقيل أمام إقرار الاتفاق السياسي واعتماد حكومة الوفاق، أدى إلى تغيّب أغلب النواب عن جلسات البرلمان.
كما قاطع النواب الفيدراليون من إقليم برقة جلسات مجلس النواب للضغط على زملائهم للقبول بمطالبهم الداعية لتطبيق النظام الفيدرالي في برقة، ومنحه أكثر استقلالية عن طرابلس، وبسبب كل هذه التغيبات، واجه عقيلة صالح معضلة في جمع النواب لإقرار بعض القوانين المهمة التي تتطلب حضور أغلبية الثلثين لبلوغ النصاب القانوني، أي نحو 120 نائباً على الأقل، الأمر الذي تعذر في غالب الأحيان، مما أدى إلى إلغاء عدة جلسات مهمة.
ولاستحالة بلوغ النصاب في الظروف التي كانت عليها البلاد في 2018، رغم الضغوط الدولية، من أجل اعتماد قانون الانتخابات، ومشروع دستور جديد أقرته لجنة الـ60، تم القفز على الإعلان الدستوري وتمرير قوانين مهمة حتى بدون بلوغ النصاب.
الضربة القاصمة
لكن الأزمة التي قصمت ظهر مجلس النواب إعلان صالح أن البرلمان يؤيد هجوم حفتر على طرابلس في أبريل/نيسان 2019، وهو ما أثار حفيظة غالبية النواب الذين كانوا يعارضون العدوان على العاصمة.
وأدى ذلك إلى انقسام مجلس النواب؛ واحد في طبرق بقيادة عقيلة صالح، ومعه نحو 40 نائباً ونيف، والثاني في طرابلس ويضم أكثر من 50 نائباً، والذي يترأسه حالياً حمودة سيالة.
لكن الانقسامات في مجلس نواب طبرق لم تتوقف عند هذا الحد، فبعد إعلان حفتر تعيين نفسه حاكماً على ليبيا في نهاية أبريل/نيسان 2020، ومعارضة صالح لهذا القرار الغريب، أعلن نحو 15 نائباً تأييدهم للأول، فيما أيّد نحو 12 نائباً فقط رئيس البرلمان.
تقسيم البلاد
فمن إجمالي 200 نائب، لم يبق مع عقيلة صالح فعلياً سوى 6٪ من النواب، ومع ذلك مازال يتكلم بصفة "رئيس مجلس النواب الليبي" رغم أنه لم يعد يملك من هذه الصفة سوى "الاعتراف الدولي"، الذي يمنحه له الاتفاق السياسي، والذي يسعى لإسقاطه عبر مبادرته.
وبدل أن يكون له خطاب جامع يشمل كل أبناء البلاد، يتصرف صالح كزعيم قبلي، يدافع عن مصالح إقليم برقة، وهو ما تجلى في كلمته أمام شيوخ قبيلة العبيدات كبرى قبائل الشرق، التي ينتمي إليها.
حتى مبادرته التي تحدث فيها عن انتخاب ممثل عن كل إقليم من الأقاليم الثلاثة للبلاد، تحمل في طياتها بذور الانقسام والتفتت والمحاصصة على أساس جهوي، بدل السعي لبناء دولة قوية بعيداً عن جلباب القبيلة.
فالرهان الدولي على عقيلة صالح، لإصلاح ما أفسده حفتر، قد لا يحقق الهدف المرجو منه إلا بالنسبة لداعميه الرئيسيين (مصر وروسيا)، وأكثر ما يمكن توقعه إزاحة حفتر من المشهد في برقة، لكن يُستبعد التوصل معه إلى اتفاق سلام شامل، إلا إذا ضَمن مصالحه على رأس الدولة.
أقل سوءاً من حفتر
لا شك أن صالح أقل سوءاً من حفتر، لكنه حتى الآن ليس الخيار المثالي للسلام ولوحدة البلاد، إلا أن عدة دول بدأت ترى فيه بديلاً مقبولاً يمكنه أن يفاوض الحكومة الشرعية، التي ترفض الجلوس مع حفتر، بعدما نسف عدة اتفاقات وتفاهمات سابقة.
فخلال الأسابيع الأخيرة، استقبل الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون، عقيلة صالح، الذي زار القاهرة مرتين خلال فترة وجيزة، كما تواصل هاتفياً مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، في 26 مايو/أيار الماضي.
وهذه الاتصالات الدولية إلى جانب حشد قبائل برقة إلى صفه، تهدف لإزاحة حفتر تدريجياً من المشهد الليبي حتى لا يحدث أي انهيار أمني في المنطقة الشرقية.
كما أن صالح حاول، خلال زيارته للجزائر، التسويق "لإعلان القاهرة"، على أساس أنه يتماهى مع المبادرة التي تقدم بها، والتي تهدف إلى تغيير تشكيلة المجلس الرئاسي على أساس الأقاليم الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزان).
لكن الجزائر وإن لم تعلن رسمياً رفضها لـ"إعلان القاهرة"، إلا أنها أكدت تمسكها بقرارات مؤتمر برلين، مما يعني فشل صالح في الحصول على تأييد دولة قوية بجوار ليبيا لمبادرته، ولكنه بالمقابل حصل على دعمها ولو ضمنياً في معركته الصامتة مع حفتر، الذي لا يحمل له المسؤولون الجزائريون الكثير من الود.