أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حالة الطوارئ الوطنية، يوم الخميس الماضي، الـ11 من يونيو/حزيران، لكن ذلك لم يكُن بسبب جائحة كوفيد-19، أو وحشية الشرطة، أو الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، بل هدفه كان معاقبة المحكمة الجنائية الدولية.
نعم كان سبب إعلان حالة الطوارئ في أمريكا هو معاقبة المحكمة الجنائية الدولية، لأنها تعتزم فتح تحقيق في جرائم الحرب الأمريكية المشتبه بها في أفغانستان.
ولكن يبدو أن قرار ترامب الغريب لا يهدف فقط إلى حماية المسؤولين والجنود الأمريكيين العاملين في أفغانستان، بل إن له علاقة أيضاً بإسرائيل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
ليست محاولة ترامب الأولى معاقبة المحكمة الجنائية الدولية
أعلن ترامب أنّ المحكمة الجنائية الدولية تُمثّل "تهديداً غير معتاد وخارجاً عن المألوف للأمن القومي والسياسة الخارجية الأمريكية". ويضغط الأمر التنفيذي على المحكمة من خلال تمرير عقوبات اقتصادية ودبلوماسية على موظفي المحكمة الجنائية الدولية المُكلّفين بتحقيق أفغانستان، وأيّ شخص يتعاون معهم.
واعتادت إدارة ترامب على معارضة المحكمة الجنائية مباشرةً باستمرار، على عكس الموقف السلبي أو حتى الدعم الذي كانت تحصل عليه المحكمة من الإدارات السابقة. والغرض من العقوبات هو تقويض سلطة المحكمة وفقاً لتصريحات المسؤولين الأمريكيين، من خلال التدخّل في تحقيقات أفغانستان وحتى التحقيقات التي لا تُؤثّر على الولايات المتحدة بشكلٍ مباشر.
كيف ستحقق المحكمة مع أمريكا رغم أنها ليست عضواً بها؟
وفي مارس/آذار، أذنت دائرة الاستئناف في المحكمة الجنائية الدولية للمدعية العامة فاتو بنسودة بالتحقيق في الجرائم المُحتملة التي ارتُكِبَت داخل أفغانستان، على يد أجهزة الاستخبارات والقوات الأمريكية وغير الأمريكية، وهذا يشمل قوات الأمن الوطنية الأفغانية وطالبان. وجاء الإذن بعد نحو عام من رفض الدائرة التمهيدية للمحكمة طلب فاتو الأوّلي بفتح تحقيق.
والآن، ستُحقّق فاتو مع فريقها في مزاعم "التعذيب، والمعاملة القاسية، وانتهاكات الكرامة الشخصية، والاغتصاب"، وغيرها من القضايا.
والولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية حالياً.
لكن قائمة الأعضاء تشمل أفغانستان، الدولة التي حدثت على أرضها الانتهاكات المزعومة. وهذا يضع جرائم الولايات المتحدة ضمن نطاق اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
العقوبات لن تشمل أعضاء المحكمة فقط، بل أُسرهم أيضاً والشهود
ينطبق أمر العقوبات الأمريكي على أي أجنبي يدعم مادياً أو يُشارك مباشرةً في جهود المحكمة الجنائية الدولية "للتحقيق مع، وتوقيف، واحتجاز، ومحاكمة أي جندي أمريكي". وهذا يشمل تجميد الأصول المالية لأولئك الأفراد داخل الولايات المتحدة وحظر سفرهم. كما تنطبق العقوبات أيضاً على أفراد العائلة المباشرين.
وفي القراءة الأولى، نجد أن نطاق الأمر واسعٌ للغاية، ما يمنح مسؤولي الإدارة مساحةً عريضة لتطبيقه.
المفارقة في تضمين أفراد العائلة في أمر العقوبات، أنّ الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب عام 2019 لفرض العقوبات على الإرهابيين لم يشمل أفراد العائلة.
والجانب غير المعتاد الآخر لهذا الأمر التنفيذي هو أنّه يُمكِّن المسؤولين الأمريكيين ضمنياً من استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان والمنظمات الحقوقية غير الحكومية، نظراً لتعاونهم المستمر مع المحكمة الجنائية الدولية والمجتمعات المتضرّرة خلال التحقيقات. وقد يعني أن العقوبات قد تشمل حتى الشهود.
وسبق أن منعت واشنطن تأشيرة زيارة عن المدعية العامة للمحكمة
هدَّد مسؤولو إدارة ترامب بفرض عقوبات متعلّقة بالمحكمة الجنائية الدولية من قبل. ففي عام 2018 مثلاً، دعا مستشار الأمن القومي جون بولتون إلى فرض العقوبات على أيّ كيان يُساعد المحكمة، ولكن التهديد لم يدخل حيز التنفيذ.
وفي مارس/آذار عام 2019، قبل قرار الدائرة التمهيدية حول فتح تحقيق أفغانستان من عدمه، هدَّد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بفرض قيود تأشيرات وعقوبات اقتصادية ضد أي مواطن غير أمريكي يُساعد في التحقيق. ورفضت وزارة الخارجية تأشيرة المدعية العامة فاتو لزيارة الولايات المتحدة بعد أقل من شهر.
لكن توقيت جولة العقوبات الأخيرة يختلف عن سابقاتها، إذ اعتادت إدارة ترامب التصرّف بسرعة واستباقية أحياناً خلال مناوشاتها السابقة مع المحكمة الجنائية الدولية. فعلى سبيل المثال رُفِضَت تأشيرة فاتو قبل اتّخاذ القرار في الدائرة التمهيدية، التي رفضت طلبها بفتح التحقيق حينها.
واستجاب بومبيو ليضرب بسرعةٍ كبيرة حين ألغت دائرة الاستئناف قرار الدائرة التمهيدية في الخامس من مارس/آذار، ما مهّد الطريق أمام فتح التحقيق، إذ وعد بومبيو باتّخاذ "كافة التدابير اللازمة" للحيلولة دون استهداف التحقيق للجنود الأمريكيين.
لكن ذلك حدث قبل ثلاثة أشهر، فلماذا صدر أمر العقوبات الآن؟
توقيت هذه الخطوة يبدو عجيباً بعض الشيء بالنظر إلى الأزمة الصحية المحلية المستمرة، والانكماش الاقتصادي، والأزمة السياسية. فلماذا الآن؟ وكيف سيكون تأثير ذلك؟
لماذا العجلة الآن، الولايات المتحدة تتحدى القانون الدولي من أجل إسرائيل
تتميّز العقوبات الأخيرة أيضاً بأنّها لا تتوقّف عند مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية الذين يُحقّقون مع الولايات المتحدة فقط، بل تشمل أيضاً المسؤولين الذين يُحقّقون مع حلفاء الولايات المتحدة. وأشار تصريح بومبيو الأسبوع الماضي صراحةً إلى أهم أولئك الحلفاء: إسرائيل.
إذ تقدّمت المدعية العامة للمحكمة في ديسمبر/كانون الأول بطلبٍ لفتح تحقيق في الجرائم المُحتملة المُرتكبة على الأراضي الفلسطينية منذ عام 2014. ومن المتوقّع أن تُصدِر الدائرة التمهيدية قرارها في هذا الطلب قريباً. وربما يُمثّل أمر ترامب التنفيذي محاولةً لردع الدائرة التمهيدية عن السماح بتنفيذ الطلب، ناهيك عن محاولة إعاقة التحقيق في حال الموافقة على الطلب.
سبق أن رضخت المحكمة لتهديدات بومبيدو، ولكن الأمر جاء بنتيجة عكسية على واشنطن
وليست هذه هي المرة الأولى، إذ يبدو أنّ تهديدات بومبيو العام الماضي نجحت، حيث رفض قضاة الدائرة التمهيدية فتح تحقيق حول أفغانستان.
وانتقد علماء القانون والمدافعون عن حقوق الإنسان ذلك القرار، وتكهّنوا بأنّ القضاة رضخوا للضغوطات الأمريكية، لكن المحكمة الجنائية الدولية ألغت قرارها في النهاية، رغم أنّ التأخير أعاق فتح أي تحقيق حول أفغانستان لفترةٍ من الوقت.
وربما يُكرِّر ترامب نفس المسرحية هنا: اتّخاذ خطوة جريئة أملاً في الضغط على الدائرة التمهيدية لترفض السماح بفتح تحقيق حول الانتهاكات الإسرائيلية في فلسطين.
هل ترضخ المحكمة للترهيب الأمريكي؟
لا يبدو أنّ المحكمة الجنائية الدولية ستتراجع. ففي اليوم نفسه ردّت وحدة الشؤون العامة بالمحكمة، واصفةً إجراءات ترامب بأنّها تُمثّل "محاولةً للتدخّل، وتصعيداً غير مقبول، وتحدّياً لسيادة القانون".
وأوضح البيان، الذي ردّد انتقادات الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، أنّ "الهجوم على المحكمة الجنائية الدولية يُعَدُّ هجوماً على مصالح ضحايا الجرائم الفظيعة، الذين تُمثّل المحكمة الأمل الأخير في العدالة بالنسبة للكثير منهم".
وأمام محكمة الرأي العام الأمريكية، ربما لن تُثير استراتيجية ترامب العداء ضد المحكمة الجنائية الدولية؛ إذ أشارت أبحاثنا إلى أنّ غالبية الأمريكيين يدعمون المحكمة الجنائية الدولية، ويشعرون بالقلق حيال قيادة الولايات المتحدة للعالم وحقوق الإنسان. وربما تعني هذه المخاوف، إلى جانب انتقاد العقوبات من جانب الحلفاء الأمريكيين الأعضاء في المحكمة، أنّ الأمريكيين سيُواصلون دعم المحكمة بغض النظر عن محاولات ترامب.
وربما تأتي جهود ترامب بنتائج عكسية، وتُثير نوعاً من أنواع "ظاهرة سترايسند"، حيث ستُؤدّي محاولات عرقلة التحقيقات إلى المزيد من التدقيق العام السلبي في القضية. وسجّل ترامب بالفعل أرقاماً ضعيفة في استطلاعات الرأي قبل انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني. وربما لن يُساعده فرض العقوبات على المحكمة الجنائية الدولية.
وربما يعتبر العقوبات خطوةً لها بعض المكاسب المُحتملة بأقل تكلفة، مثل: تشتيت الانتباه عن المشكلات في أمريكا، أو اعتبارها وسيلة لعرقلة تحقيقات فلسطين وأفغانستان. وربما اعتاد فريق الإدارة على تلقّي الإدانات الأجنبية حول سياسة "أمريكا أولاً"، لكن المواطنين العاديين قد يُخالفونهم الرأي.