تواجه السعودية خيارات صعبة بين احتمال تقليص أو إلغاء الحج للمرة الأولى في التاريخ الحديث، في قرار ينطوي على مخاطر سياسية مع مواجهة المملكة لتفشي فيروس كورونا المستجد. وتضغط العديد من الدول الإسلامية على الرياض من أجل إصدار قرارها حول المضي قدماً في موسم الحج المقرر في أواخر تموز/يوليو المقبل.
ويبدو من غير المرجح أن يتم تنظيم موسم الحج بكامل قدرته الاستيعابية، خاصة بعد دعوة المملكة المسلمين في أواخر مارس/آذار الماضي، إلى التريث في إبرام عقود متعلقة بالحج والعمرة بسبب تفشي الفيروس. فما الخيارات البديلة التي ستضطر لها السعودية بموسم الحج هذا العام، وماذا يعني إلغاء الموسم بالنسبة لاقتصادها؟
خيارات أحلاها مرّ
حول ذلك، أكّد مسؤول جنوب آسيوي على تواصل مع سلطات الحج السعودية لوكالة فرانس برس أن "الأمر معلق بين خيارين، إما إقامة حج بالاسم فقط، أو إلغاؤه بشكل تام". كما أوضح مسؤول سعودي لفرانس برس أنه "سيتم اتخاذ القرار والإعلان عنه قريباً".
وأعلنت إندونيسيا وهي أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، أوائل الشهر الجاري عدولها عن المشاركة في موسم الحج بسبب المخاطر المرتبطة بفيروس كورونا المستجد، في قرار وصفته بـ "الصعب والمرير".
وسيخيّب إلغاء أو تقليص الحج آمال ملايين المسلمين الذين غالباً ما ينفقون مدّخراتهم للسفر لأداء مناسك الحج، وينتظر بعضهم سنوات طويلة حتى يحصلوا على موافقة من سلطاتهم وسلطات السعودية للحج. وقالت ريا توريسناواتي وهي موظفة إندونيسية تبلغ من العمر 37 عاماً والدموع تنهمر من عينيها، لفرانس برس: "كنت أعرف أن ذلك ممكن، ولكن الآن بعد أن أصبح الأمر رسمياً، فقد انفطر قلبي. كنت أنتظر ذلك منذ سنوات". وأضافت: "أتممت جميع استعداداتي، وكانت ملابسي جاهزة وأخذت جميع اللقاحات، لكن الله كان له تدبير آخر".
وإلى جانب إندونيسيا، قررت كل من ماليزيا وسنغافورة إلغاء مشاركة مواطنيها. فيما أعلنت العديد من الدول – من مصر والمغرب إلى تركيا ولبنان وحتى بلغاريا- أنها بانتظار قرار السلطات السعودية. وحث مسؤولون مسلمون في دول أخرى مثل فرنسا الناس على "تأجيل" الحج إلى العام المقبل بسبب المخاطر الموجودة.
وكانت بعض التوقعات قد أشارت في أبريل/نيسان الماضي، إلى أن المملكة قد تسعى لتدبير موسم حج من نوع آخر، بفرض قيود إضافية، بموسم لن يكون مثل كل عام، سواء من النواحي التنظيمية أو العددية، فقد تلجأ فيه إلى تخفيض الأعداد منعاً للتكدس، وقد تشترط سناً معينة، حرصاً على صحة الحجاج، ربما يخضعون لحجر صحي بشكل ما.
وبالنظر إلى تجارب السلطات السعودية مع الأمراض الوبائية في الماضي القريب، فقد كانت مواسم الحج عرضة لتغييرات وقيود كثيرة على الحجاج بفعل انتشار الأمراض، مثل سارس عام 2003، حيث أعلنت الحكومة السعودية قيوداً على استقبال الحجاج من الدول المصابة، وحينما انتشرت إنفلونزا الخنازير في عام 2009 أعلنت السعودية منع دخول كبار السن والأطفال للحج والكشف على الحجاج القادمين إليها.
وقوع كوارث في مواسم سابقة يشكك بقدرة المملكة على تنظيم هذا الموسم
يعدّ الحج من أكبر التجمعات البشرية سنوياً في العالم. ويشكل أحد الأركان الخمسة للإسلام وعلى من استطاع من المسلمين أن يؤديه على الأقل مرة واحدة في العمر.
وقد يشكل أداء هذه الفريضة بؤرة رئيسية محتملة لانتشار العدوى حيث إن ملايين الحجاج من حول العالم يتدفّقون على المواقع الدينية المزدحمة في مدينة مكة المكرّمة لأداء المناسك.
وتسلّط طريقة إدارة المملكة العربية السعودية للأزمة الضوء أيضاً على دور حكّامها بصفتهم الأوصياء على الأماكن المقدسة، الأمر الذي منحهم على مدى عقود طويلة مصدر نفوذ سياسي.
ووقعت سلسلة من الكوارث المميتة على مر السنين أثارت انتقادات تجاه طريقة إدارة المملكة السنية للحج. ففي سبتمبر/أيلول 2015، قتل في تدافع نحو 2300 من المصلين في أسوأ كارثة على الإطلاق خلال موسم الحج.
ويرى عمر كريم وهو باحث زائر في المعهد الملكي للخدمات المتحدة أن السعودية: "في معضلة التأخير في إعلان قرارها، تظهر أنها تتفهم العواقب السياسية لإلغاء الحج أو تقليص حجمه".
فيما تقول ياسمين فاروق الخبيرة في شؤون الشرق الأوسط من "مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي"، إن "الحج أهم رحلة روحانية في حياة أي مسلم، ولكن في حال مضت السعودية قدماً مع هذا السيناريو فإنه لن يؤدي إلى الضغط على نظامها الصحي فحسب"، لكنه "قد يؤدي إلى تحميلها على نطاق واسع مسؤولية تفشي الوباء".
لماذا إلغاء الموسم هو الخيار الأكثر ترجيحاً، وما البديل؟
بحسب المسؤول الجنوب آسيوي، فإن المملكة تقوم حالياً "بكسب الوقت" بمقاربتها الحذرة. وأضاف: "في اللحظة الأخيرة في حال قالت السعودية نحن مستعدون للحج بشكل كامل، فإن العديد من الدول (لوجيستياً) لن تكون في موقع" يسمح لها بالمشاركة.
ومع الإيقاف الحالي لرحلات الطيران الدولية، فإن سيناريو تنظيم الحج بشكل مقلص للسكان المحليين قد يبدو الأكثر احتمالاً، بحسب المسؤول. وسيكون قرار إلغاء الحج الأول من نوعه منذ تأسيس المملكة في عام 1932.
وتمكنت السعودية في السابق من تنظيم الحج خلال تفشي وباء "ايبولا" وأمراض أخرى. وتحاول المملكة احتواء تفشي فيروس كورونا المستجد مع زيادة كبيرة في الحالات المسجلة يومياً وحالات الوفاة منذ تخفيف إجراءات حظر التنقل في البلاد أواخر الشهر الماضي.
تقول مصادر إنه في المستشفيات السعودية تمتلىء أسرة العناية المركزة بشكل سريع مع تزايد أعداد العاملين في مجال الصحة المصابين. وسجلت السعودية حتى الآن أكثر من 120 ألف إصابة بالفيروس بينما يجاوز عدد الوفيات ألف وفاة. وقامت السلطات السعودية هذا الشهر بإعادة تشديد الإجراءات الاحترازية الصحية في مدينة جدة، بوابة المسافرين لأداء مناسك العمرة والحج.
أزمات اجتمعت على الاقتصاد السعودي، كيف كانت المملكة تجني أرباحها من الحج؟
سيأتي إصدار هذا القرار في وقت حساس للمملكة حيث تصارع الدولة النفطية أسعار الخام المتدنية التي قلّصت العائدات، في الوقت الذي يستعد فيه العالم لركود اقتصادي بسبب إجراءات الحد من فيروس كورونا. وتم أيضاً تعليق أداء العمرة في مارس/آذار الماضي.
والسياحة الدينية حيوية بالنسبة لجهود السعودية في وقف الارتهان للنفط وتطوير مصادر دخل بديلة، كونها تساهم في ضخ 12 مليار دولار في الاقتصاد كل عام، وفقاً لأرقام حكومية.
ويؤدي زهاء 2.5 مليون مسلم فريضة الحج سنوياً، يشكل إنفاقهم خلال الموسم مورداً مالياً ضخماً لاقتصاد المملكة، يناهز 7 مليارات دولار، حتى إن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان كان قد قدّم مقاربة اقتصادية، العام الماضي، من خلال رؤية المملكة 2030، تطمح إلى استضافة 30 مليون حاج ومعتمر، بإجمالي إيرادات يصل لـ50 مليار دولار سنوياً حال تحقيق الرؤية.
وتحصّل المملكة أرباحاً طائلة من استصدار الحجاج لتأشيرات الحج، التي تبلغ قيمتها ألفي ريال سعودي -ما يعادل 533 دولاراً- على أن تتحمل الدولة هذا الرسم عن القادم لأداء الحج والعمرة لأول مرة، بعد أن كانت سابقاً لا تتجاوز 350 ريالاً بنسبة تضخم تصل لـ500%.
وبحسب مديرية الجوازات السعودية، فإن عدد حجاج بيت الله الحرام من الخارج لعام 2019 بلغ مليوناً و838 حاجاً، منهم 969 ألف حاج ذكر، أما الإناث فبلغن 868 ألف حاجة. في حين يتجاوز المتوسط العام لأسعار الحج في برنامج "الحج العام" 7 آلاف ريال سعودي، ما يعادل 1866 دولاراً. ويبلغ إجمالي تكلفة الحج بالنسبة للشخص الواحد من حجاج الخارج بين 4 و5 آلاف دولار في المتوسط.
أما متوسط إنفاق الحجاج على السكن والطعام والهدايا فيبلغ نحو 2500 دولار. وتشير التقارير إلى زيادة مضطردة لأسعار الحج، عقب فرض السعودية ضرائب على الفنادق والخدمات. أما عن خدمات النقل التي ينتعش سوقها خلال موسم الحج فكانت تشهد ازدهاراً ملحوظاً حتى العام الماضي، فبحسب صحيفة "عكاظ"، أشار عضو لجنة الحج في الغرفة التجارية والصناعية بمكة المكرمة، عضو لجنة النقل محمد سعد القرشي، إلى أن العوائد المالية لـ300 شركة نقل بداخل مكة فقط وصلت لـ900 مليون ريال (ما يعادل 240 مليون دولار) من نقل الحجاج خلال موسم حج عام 2019.
وبالنسبة لاقتصاد مدينة مكّة وحدها التي تحتضن شعائر الحج، فإن موسم الحج يمثل %70 من الإيرادات السنوية للمدينة، ويقدم الآلاف من الأعمال الموسمية لشباب وشابات مكة. ويُنعش وجود الحجاج في مكة والمشاعر المقدسة مهناً خاصة عدة، كتجارة اللحوم، والحلاقة، وتحويل العملات، وتلعب الأخيرة دوراً حيوياً في تدفق النقد الأجنبي وتحسين ميزان المدفوعات بالسعودية، ناهيك عن تسوق الحجاج وشرائهم للهدايا.