النزاع الحدودي بين الصين والهند ليس جديداً، ولا يوجد سبب واضح وراء التصعيد الذي أقدمت عليه بكين مؤخراً، مما يطرح التساؤل حول الدوافع الحقيقية للتنين وراء التحرش الحالي بنيودلهي، فما علاقة الرواية الصينية بشأن الحرب الباردة مع واشنطن بالقصة؟
مجلة The Diplomat الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "المواجهة الصينية الهندية وأسطورة حرب باردة جديدة"، ألقى الضوء على كواليس التوتر الحدودي الأخير وموقعه في الصورة الأكبر لما يجري في ساحة التجاذبات الدولية بين بكين وواشنطن.
تحذير صيني للهند
وجّه تقرير حديث نُشر في صحيفة Global Times الصينية الحكومية نصيحة إلى الهند بألا تنخرط في المواجهة الأكبر بين الصين والولايات المتحدة، وذلك في إطار تعليقه على المواجهة المستمرة بين الصين والهند. انطوت النصيحة بين طياتها على تحذير خفي من أن التحول إلى جبهة أمريكية في "الحرب الباردة الجديدة" يمكن أن يضر اقتصاد الهند ومصالحها في المنطقة.
وبالرغم من أن أغلب خبراء الغرب لا يرون أي ميزة في المبالغة بأننا نشهد بداية عهد جديد من تنافس القوى الكبرى، بذلت وسائل الإعلام الصينية وصناع السياسة والباحثون في الصين محاولات جريئة من أجل صياغة الرواية التي تشير إلى قدوم "حرب باردة جديدة"، وتأتي مثل هذه الصورة لتُمثل محاولة سافرة تقدم إلى العالم أمراً واقعاً: الصين بوصفها قوة عظمى راسخة وقطباً ثانياً خصماً في التوزيع العالمي للقوة.
ولدى هذا الخطاب نتيجة آنية أخرى، بينما يمكن التوصل إلى حل للمواجهة الحالية بين الهند والصين عبر الجهود الدبلوماسية، يعتمد مستقبل السلام بين الهند والصين -من وجهة نظر الصين- على قدرة الهند على مواصلة سياستها تجاه الصين باستقلالية وليس تحت ظلال التحالف المتنامي بين الولايات المتحدة والهند.
ماذا فعلت الهند؟
يرى بعض الخبراء أن الحزم المكتسب حديثاً من جانب الهند على امتداد خط السيطرة الفعلية، والمتمثل في تشييد طرق فرعية وبنية أساسية داعمة، قد يُنظر إليه على أنه السبب في إثارة المواجهة الحالية، ومن ثم فإن التعدي الصيني قد يكون محاولة لمنع الهند من بناء بنية أساسية دائمة، مما قد يمنح الهند ميزة استراتيجية في حال إتمامه.
وحيرت هذه الحجة بعض محللي الشؤون الأمنية في الهند؛ نظراً إلى أن القوات التي تتشكل عن طريق الصين على امتداد خط السيطرة الفعلية بدأت عندما قيل إن أغلب تشييد الطرق الرئيسية والفرعية من جانب الهند بالقرب من هذه المناطق، أوشك على الإتمام، ولكن تقل احتمالات أن تكون الصين قد غاب عنها هذا التشييد ولم تُحط علماً به، لأنها تتباهى بامتلاكها قدرات استطلاعية قوية (على الأرض وفي الفضاء). علاوة على أن تطوير الطرق والبنية الأساسية من الجانبين على امتداد خط السيطرة الفعلية من أجل دعم مواقفهما الاستراتيجية استمر لسنوات عديدة، وأدى هذا إلى مناوشات بسيطة ولكن نادراً ما أثارت تعدياً كبيراً على الحدود.
استعراض للقوة بشكل استباقي
أحد التفسيرات الإيضاحية يشير إلى أن الصين تحاول إظهار قوتها في محاولة لاستعادة مصداقيتها وإعادة بناء قوتها، بعد أن تلقت ضربة قوية مع استمرار تداعيات الجائحة العالمية، كما ألمح بعض خبراء جنوب آسيا إلى نظرية مؤامرة ترى أن المواجهة الحالية ربما تكون تحركاً استباقياً محتملاً من جانب الصين لإحباط نوايا الهند المفترضة بخوض مغامرة عسكرية في المناطق الشمالية لباكستان (غلغت وبلتستان)، التي يعبر من خلالها الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.
بيد أن كلا النقاشين أقرب إلى عوالم التكهنات والفرضيات بدون دليل على وجود مثل هذه التحركات على أرض الواقع. وفي حقيقة الأمر، يرى كثيرون في الحزب الشيوعي الصيني أن الأزمة العالمية الحالية، وخاصة التأثير المدمر لمرض كوفيد-19 على الاقتصاد الأمريكي، تشكل فرصة للمطالبة بحقها في اعتبارها قوة عظمى، مما يعلن عن نهاية صدارة الولايات المتحدة والتحول إلى عالم ثنائي القطب.
يجب أن يُنظر إلى عدوان الصين في الحقيقة عبر سياق بروز روايتها الذاتية بأن الصين تمثل القطب الثاني في عالم ثنائي القطب، ويرى الزعيم الصيني شي جين بينغ أن الوقت قد حان لاستبدال رواية أن الصين قد وصلت إلى مكانة القوة العظمى برواية "الصين الصاعدة"، ويعتقد شي جين بينغ أن الصين يجب أن تتبوأ مكانتها في التوزيع العالمي للقوة.
ولذا فإن التوقعات المتعلقة بالمواجهة الحدودية الحالية تكون أقرب إلى التفسيرات الجيوسياسية العالمية. تحاول الصين تصوير الأزمة في إطار لعبة القوى العظمى المسماة "الحرب الباردة الجديدة"، ويرى خبراء الصين ووسائل إعلامها الوطنية أن الدعم الأمريكي هو أحد الدوافع الرئيسية وراء حزم الهند وثباتها في التعامل مع مشكلاتها الحدودية مع الصين.
ومن خلال مطالبة الهند بألا تحركها الولايات المتحدة، تحاول الصين أن تنقل فكرة مفادها أن تنافسها الحقيقي مع الولايات المتحدة وليس مع الهند، فهذه المحاولة التي تتم عبر بوابة خلفية للحصول على تأشيرة لدخول نادي القوى العظمى، عن طريق العزف على رواية الحرب الباردة الجديدة، يبدو أنها تنجح، وقد وقع كثير من الباحثين الغربيين فريسة لهذه الرواية وبدأوا في النظر إليها على أنها تمثل شيئاً حقيقياً.
كيف يجب أن تتصرف الهند؟
تنسجم كذلك الأصوات المتصاعدة في الغرب، التي تقول إن الولايات المتحدة ينبغي لها تعميق تحالف اقتصادي ودفاعي مع الهند، مع وجهة النظر الناشئة التي تعد الهند حليفاً طبيعياً للولايات المتحدة ومن ثم فإنها حصن ضد الصين في آسيا، وبالرغم من أن هذا قد يعطي موقف الهند في المنطقة دفعةً كبيرة، يجب على نيودلهي أن تحذر عند سلك هذا المسار، إذ إن "الحرب الباردة الجديدة"، إذا صارت حقيقة، سوف تكون مختلفة تمامًاً عن الحرب الباردة المشهودة في القرن العشرين، فلم تعد الولايات المتحدة تتمتع بنفس المكانة المهيمنة التي تمتعت بها منذ عقد مضى، ولعله ليس من الحكمة بالنسبة للهند أن تضع كل رهاناتها في مكان واحد.
لذا فإن التعامل مع المواجهة الحالية على أنها مشكلة ثنائية بحتة بدون ربطها بما يسمى "الحرب الباردة الجديدة"، لن يحقق فائدة استراتيجية للهند فحسب، بل وسوف يقوض كذلك جهود الصين الرامية إلى صياغة رواية تتعلق بلعبة القوى العالمية، ومن ثم سوف تقوض محاولتها للارتقاء بنفسها في منزلة القطب الجديد في توزيعات القوة الدولية.
وتعتمد مكائد الصين -التي تمارسها عبر باب خلفي من أجل الحصول على مكانة قوة عظمى- على استطاعتها بأن تحظى بالقبول الإقليمي للهيمنة. وسوف تصعّب نزاعاتها العالقة مع أغلب جاراتها قبول الدول الإقليمية منح هذه المكانة إلى الصين أو الاتفاق على ذلك. أما الهند، فمن خلال الاستفادة من نقاط القوة الخاصة بها، سوف تحرم الصين من المجال الاستراتيجي الذي تحاول انتزاعه عبر تصوير الأزمة الحالية على أنها جزء من "الحرب الباردة الجديدة" بين الولايات المتحدة والصين، وبدلاً من هذا، يجب أن يجري حل الأزمة والتعامل معها بوصفها مجرد نزاع ثنائي منفصل بين دولتين متجاورتين.