مَن وراءها، وماذا يريد؟ ربما هذا هو التساؤل الأبرز الذي تسيّد الساحة السودانية، عقب المظاهرات المباغتة وغير المُعلنة، التي شهدتها ثلاث مدن سودانية، في توقيت متزامن، وبشعارات متناغمة.
كانت حشود ضخمة جابت الشوارع الرئيسية في وسط العاصمة السودانية الخرطوم، مساء الأربعاء الماضي، للتنديد بالغلاء وارتفاع الأسعار وللمطالبة برحيل الحكومة الانتقالية، ورفض البعثة الأممية التي قرر مجلس الأمن إنشاءها في السودان بطلب من رئيس الوزراء الدكتور عبدالله حمدوك، بزعم أنها تهدف للمساعدة في بناء السلام والانتقال الديمقراطي.
وفي موزاة ذلك، تظاهرت جموع من السودانيين في مدينة الأبيض بولاية شمال كردفان ورفعت ذات المطالب، ما فُهم منه وجود تنسيق بين المتظاهرين، خاصة أن مدينة كسلا شرقي السودان شهدت أيضاً في ذات التوقيت مظاهرة تنادي بذات الهتافات.
النظام السابق في دائرة الاتهام
اتهمت قوى الحرية والتغيير الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، أنصار النظام السابق بالوقوف وراء المظاهرات، التي انتظمت عدداً من المدن السودانية، من خلال استغلال الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة وبعض القرارات السياسية لتأليب الرأي العام على الحكومة.
وقال القيادي في الحرية والتغيير، نورالدين صلاح الدين، لـ"عربي بوست"، إن الدلائل والمؤشرات كلها تشير إلى أن حزب المؤتمر الوطني ـ المنحل ـ يقف وراء الدعوة للتظاهر لصرف الأنظار عن فساد رموز النظام السابق الذي ظلت تكشفه لجنة إزالة التمكين تباعاً.
ولفت صلاح الدين إلى أن أنصار النظام السابق استغلوا قرار الحكومة بطلب بعثة أممية للمساعدة في بناء السلام واستكمال التحول الديمقراطي لحث المواطنين على التظاهر بدعوى أن البعثة الأممية ستنتقص من السيادة الوطنية للسودان، مشدداً على أن وجود البعثة لا يتعارض مع السيادة الوطنية.
لكن القيادي في المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً، ضياء الدين سليمان، نفى وجود أي علاقة مباشرة لهم بالدعوة للمظاهرات، منوهاً بأن جموع واسعة من الشعب السوداني خرجت للتعبير عن رفضها للبعثة الأممية وللتنديد بارتفاع الأسعار وللمطالبة برحيل الحكومة الانتقالية دون أدنى تنسيق مع حزبهم.
وقال سليمان لـ"عربي بوست" إن أهداف المتظاهرين اتفقت مع أهداف المؤتمر الوطني المتمثلة في ضرورة إسقاط الحكومة الانتقالية، لكن هذا لا يعني أننا من قمنا بالدعوة للتظاهر.
وأضاف: "هذه المظاهرات يقف وراءها الحراك الشعبي الموحّد (حشد)، الذي لا يمثل المؤتمر الوطني، وإنما يمثل واجهات شعبية خرجت ضد الواقع السياسي والاقتصادي المتردي في السودان".
واجهات جديدة
بدا واضحاً خلال المظاهرات في الخرطوم وعدد من المدن السودانية، أن هناك أجساماً مطلية وواجهات احتجاجية جديدة لم تكن ضمن المشهد الاحتجاجي والسياسي في سابقات الأيام، أبرزها تنسيقية القوى الوطنية لتصحيح مسار الثورة.
هنا يقول المحلل السياسي محمد عبدالغني إن هناك تكتيكاً جديداً ظهر في المظاهرات الأخيرة، حيث غابت ملامح المظاهرات التي دعا لها أنصار الرئيس المعزول عمر البشير في أوقات سابقة.
ورأى عبدالغني في حديثه لـ"عربي بوست" أن المظاهرات تخلّت عن النزوع لإعلان أمكنة وأزمنة التظاهر، واختارت الرهان على الفجائية الظرفية والمكانية.
ولفت المحلل السياسي إلى أنه من الراجح أن يكون عدم ظهور الجهات الداعية للمظاهرات إلى العلن، بغرض توسيع دائرة المشاركة، على اعتبار أن قيادة أنصار النظام السابق للتظاهرات في مرات سابقة، جعلها تبدو معزولة عن الشارع السوداني، الذي لم يتفاعل مع دعوات التظاهر، بسبب التاريخ الحافل بالأخطاء للنظام السابق.
ونوّه محمد بأن انطلاق الدعوات من جهات غير معلومة ربما يرفع فرص الاستجابة لها، على نحو ما حدث مع دعوات تجمُّع المهنيين السودانيين.
وقاد تجمُّع المهنيين، وهو جسم نقابي مكون من أطباء وصحفيين ومعلمين ومحامين، المظاهرات ضد النظام السابق دون أن يكشف عن قيادته لها، حيث كان الآلاف يستجيبون للدعوات التي يطلقها للتظاهر، من خلال صفحته على فيسبوك، ما أسهم في سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، في الحادي عشر من أبريل/نيسان 2019.
غموض وأهداف معلنة
الجدل حول المظاهرات التزامنية التي اندلعت بصورة مباغتة في عدد من المدن السودانية، أفرز حالة من الاتهامات داخل مكونات الحكومة الانتقالية، حيث سارع تجمُّع المهنيين السودانيين إلى اتهام المكون العسكري بالتواطؤ مع المتظاهرين، من خلال السماح لهم بالتظاهر، "في الوقت الذي يقوم فيه بقمع المظاهرات المحسوبة على الثورة".
وطالب تجمع المهنيين بإقالة المدير العام للشرطة السودانية الفريق عادل بشاير، بحجة أن قواته لم تقُم بدورها للحيلولة دون قيام المظاهرات المناهضة للحكومة الانتقالية.
كما لفت المحلل السياسي محمد عبدالغني إلى أن المظاهرات، أياً كان مصدرها، تخدم أجندة المكون العسكري في الحكومة الانتقالية، والذي سبق أن غامر قادته الفريق أول عبدالفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان حميدتي بمحاولة الاستيلاء على السلطة، عقب فض الاعتصام، لكن الشارع السوداني ظهر بموقف موحد، واستطاع حماية ثورته.
وقريباً من حديث عبدالغني، فإن أحد رؤساء المؤتمر الوطني، في أحد محليات ولاية الخرطوم، نفى أية علاقة لهم بالمظاهرات الأخيرة، وقال المصدر ـ بعد أن طلب حجب هويته ـ لـ"عربي بوست": "إنه لم تصله أية توجيهات من رئاسة الحزب لحشد الأعضاء الذين يقعون تحت قيادته للمشاركة في المظاهرة".
وتابع: "هذا ينفي أي صلة لنا بالمظاهرة، لأن الدعوة للتظاهر إذا كانت صادرة من حزبنا لكان تم تكليفي بحشد قواعدنا للمشاركة فيها وهذا ما لم يحدث".
حديث رئيس حزب المؤتمر الوطني أعاد الجدل حول الجهة التي دعت للتظاهر، وما إذا كانت المظاهرات مدعومة من قِبل المكون العسكري في الحكومة، أو أنها تتفق مع أهدافه.
وهنا يقول القيادي في قوى الحرية والتغيير نورالدين صلاح الدين إن أداء وزارة الداخلية وتعاملها مع المظاهرات المرتبطة بأنصار النظام السابق غير مرضٍ بالنسبة لهم كحاضنة سياسية للحكومة الانتقالية.
وأضاف: "قدمنا طلباً لرئيس الوزراء لإقالة المدير العام لقوات الشرطة، لكن ذلك لم يحدث، مع أننا لا نجد تبريراً لتأخُّر إقالته".
ورفض نورالدين توجيه اتهام للمكون العسكري في الحكومة الانتقالية بمحاولة السعي للانقضاض على الثورة السودانية، باستغلال المظاهرات، لكنه قطع بوجود تقاعس وتراخٍ من قِبل الجهات الأمنية المختصة، في التعامل مع الاحتجاجات التي تهدف لتخريب الفترة الانتقالية.
تطورات محتملة
المعطيات الماثلة في المشهد السياسي والاحتجاجي في السودان تشير إلى أن هذا البلد الذي يعيش مرحلة انتقالية عقب سقوط نظام الرئيس المعزول عمر البشير، ربما لن يكون هو نفسه ما قبل مظاهرات العاشر من يونيو/حزيران الجاري، ذلك أنه للمرة الأولى تشهد البلاد عملاً احتجاجياً منظماً في جغرافيا متعددة، حسبما يرى المحلل السياسي محمد عبدالغني.
وأضاف: "إذا استمرت المظاهرات بذات الوتيرة، في ظل التباين الذي برز مؤخراً بين المكون المدني والمكون العسكري في الحكومة الانتقالية، وخاصة حول البعثة الأممية، فمن الراجح جداً أن يُعاد ترتيب المشهد السياسي في السودان، وفقاً لموازين القوى الاحتجاجية، ما قد يقود لضم بعض التيارات الإسلامية إلى مكونات الحكومة الانتقالية، ولو من خلال المجلس التشريعي".
وحذر المحلل السياسي من أن المظاهرات يمكن أن يتم توظيفها من قِبل العسكريين المرتبطين بمحور الإمارات في صالح الانقضاض على الثورة السودانية، بحجة أن الوضع السياسي أصبح محتقناً ويمكن أن يقود إلى انفلات السودان ناحية الفوضى، بخاصة أن المتظاهرين حاولوا الذهاب إلى المقر الرئيسي للجيش السوداني، وهتفوا "الكاب ولا الأحزاب"، في إشارة إلى إبعاد المدنيين وتسلُّم الجيش للسلطة.
هنا يشير القيادي في الحرية والتغيير نورالدين صلاح الدين إلى أنهم لا يرفضون كل التنظيمات ذات المرجعية الإسلامية، منوهاً بأن الفترة الانتقالية يجب أن تستوعب الجميع، ما عدا المؤتمر الوطني والأحزاب التي كانت متحالفة معه حتى لحظة سقوطه.
لكن القيادي في المؤتمر الوطني الحاكم سابقاً، ضياء الدين سليمان، يشير إلى أن المظاهرات نابعة من جماهير الشعب السوداني التي أضحت أكثر وعياً بقضاياها.
ولفت سليمان إلى أن اتجاه المتظاهرين إلى مقر الجيش لا يعني وجود تنسيق مع الجيش، كما أنه لا يعني أن المظاهرات تهدف لمنح قادة المجلس السيادي من العسكريين تفويضاً للاستيلاء على السلطة، منوهاً بأن القوات المسلحة ظلت تلعب أدواراً تاريخية في إنجاح الثورات السودانية الثلاث، بما في ذلك ثورة ديسمبر/كانون الأول الأخيرة.
وتابع: "الحديث عن اختطاف المظاهرات من قِبل العسكريين للارتماء في أحضان المحور السعودي المصري الإماراتي حديث سابق لأوانه، لأننا نخطط لشكل مرحلي بإسقاط الحكومة الانتقالية، وفرض واقع سياسي جديد، ومن ثم النقاش حول شكل الحكم، حتى لو دانت السلطة لغير الإسلاميين، لأن المطلوب حكومة كفاءات وطنية تعبر عن الشعب السوداني".