خلقت الهزائم المتتالية لقوات خليفة حفتر واقعاً جديداً في الأزمة الليبية، هذا الواقع لم يعد في معركة بين الغرب والشرق الليبي، بل في تنازع بين متطلبات المستقبل وضرورات الحاضر الذي يبدو أنه مليءٌ بالخيارات والمفاجآت. الأزمة الليبية امتدت منذ عام 2014 بعد الانقسام الدستوري الذي أحدثه الانقلاب الذي قاده خليفة حفتر، تحول معها النزاع في ليبيا من نموذج الاحتراب الداخلي إلى الحرب بالوكالة حين استعانت "عملية الكرامة" بالإمارات ومصر وفرنسا ومعها السعودية للاستمرار في مشروع السيطرة على ليبيا.
فما الذي يحدث في ليبيا، وكيف لتلك الجيوش التي جابت الأراضي الليبية الشاسعة من شرقها لجنوبها إلى غربها أن تنهار بين عشية وضحاها؟ كيف لتلك القوات المجنزرة أن تفِرَّ خلال أيام من مساحة قدرها 200 ألف كيلومتر مربع من الغرب الليبي؟ وكيف لكل تلك الآلةِ المسلحةِ التي أنفقت عليها الإمارات مليارات الدولارات أن تنهار كل ذلك الانهيار؟
خُطة "السيطرة السريعة" على العاصمة فشلت
بدأ مشروع السيطرة على ليبيا من الشرق الليبي، واستمر للجنوب لكن الخطوة الأخيرة كانت في التوجه نحو العاصمة من خلال قاعدة الجفرة في وسط البلد. وتظهر الوثائق التي وُجدت في مدينة غريان بعد فرار قوات حفتر منها أن المخطط كان بالفعل يهدف إلى سيطرة سريعة وأن يحاط بالعاصمة من سبعة محاور، وأن حجم الآلة العسكرية التي استخدمت لم تكن مجرد مغامرة غير محسوبة العواقب، إذ يكفي أن نعرف أن عدد الجنود الذي نزلوا من جبل غريان إلى العاصمة قدر بـ12 ألف جندي مدججين بالسلاح، وأن منظومات الدفاع والآليات التي وجدها الثوار قد تعادل آلة السلاح التي تركها القذافي في ليبيا بعد سقوطه.
إدراك حجم التغيير الذي سيطرأ على المشهد الليبي بعد هذه الخسارة الفادحة يتطلب منّا أن ندرك السياق العام للنزاع، وأن نتعرف على الاستراتيجيات التي سيتخذها كل طرف من الأطراف المنخرطة في الصراع الليبي من القوى الإقليمية والدولية، وهذا ما سنحاول أن نرسم ملامحه.
سياق النزاع الليبي
دون أن نخوض في أدبيات التاريخ الطبيعي للنزاعات الدولية، نلتقط من ذلك التاريخ فكرة أساسية وهي المسار الكلي الذي عرفه التاريخ لتلك النزاعات، فإن أغلب النزاعات التي لم تستطع القوى المتمردة فيه أن تدخل للعاصمة كانت نهايتها بالدخول في مسار سياسي انتهى بانتخابات، وانتهى الأمر بجنرالات الحرب في المحاكم الدولية بعد أن قضت الدول العظمى مآربها.
هزيمة حفتر على أسوار طرابلس تعني أن مركز الدولة الليبية لم يعد محلاً للنزاع، وأن الأطراف التي كانت تحاول السيطرة على المركز هي محل النزاع وأن عليها إما أن تنفصل عن المركز أو أن ترضى بالدخول في حوار سياسي. وبالتالي ما يحدث في ليبيا الآن هو انتقال من النزاع حول الدولة ومؤسساتها، إلى التفاوض حول ضم الشرق الليبي إلى الغرب، وهذا سيعتمد على عدة محددات أساسية:
- قدرة الأطراف الليبية على صناعة مشروع وطني جامع
- السلوك التركي تجاه الملف الليبي
- سلوك الدولة الروسية تجاه الملف الليبي
- خيارات الأطراف المهزومة في معركة
هذا السياق يجعلنا أمام "سيناريو النهاية" للأزمة الليبية التي ستعتمد على تلك المحددات؛ دعنا نأخذها واحداً تلو الآخر، مع العلم بأن محددات أخرى كسلوك الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا أو مصر والإمارات سيؤخذ تبعاً للسلوك التركي والسلوك الروسي.
خيارات الأطراف الليبية
وجدت حكومة الوفاق نفسها أمام نصر كبير وظهر للعيان إمكانية أن تعيد سلطتها على الأرض الليبية، وفيما يبدو أن العملية التي أطلقت في طرابلس تحت اسم "عاصفة السلام" لم تكن فقط لطرد قوات حفتر من طرابلس والمنطقة الغربية بل هي لتحرير سرت وقاعدة الجفرة وسط ليبيا، ومن ثم الانتقال للشرق الليبي، هذا ما شرحه الرئيس التركي في حديثه أمام مجموعة من الصحفيين الأتراك في إحدى القنوات التركية، وهذا ما يمكن فهمه من خلال متابعة مضمون الخطابات التي يقدمها القادة العسكريون النظاميون في الجيش الليبي في المنطقة الغربية.
هذا التوجه يبدو أنه أحد الخيارات التي تجده حكومة الوفاق أمامها لأنها صنعت سردية واضحة أثناء الحرب، وهي تحرير البلاد وعدم القبول بخليفة حفتر كطرف سياسي. لكن بالطبع هذا ليس الخيار الوحيد لحكومة الوفاق، فأمامها ثلاثة خيارات:
- خيار المضي في العمل العسكري
- خيار الجلوس لطاولة المفاوضات
- خيار مزدوج بين السياسي والعسكري
أما الخيار العسكري فيعني أن حكومة الوفاق تسيطر على الموانئ النفطية وهذا ما يبدو أن الحليف التركي قد اتفق مع حكومة الوفاق حوله من خلال تصريحات الرئيس أردوغان والقيادات العسكرية لحكومة الوفاق؛ وبعد سيطرتها على الموانئ النفطية تبدأ في الضغط على حفتر في الشرق الليبي ليبدأ حراك شعبي مدني وعسكري يحاول الإطاحة بخليفة حفتر، وهنا يمكن أن تستمر مصر والإمارات في "التنكيل" بالشعب الليبي.
هناك بعض التصورات لذلك في الغرب الليبي، لكن هذا سيعتمد على استمرار الدعم التركي والخيارات السياسية التي ستطرح في المجتمع الدولي، لكن فيما يتوفر من معلومات أنه خيار مطروح وبقوة وله صلة بالواقع الليبي. لكن هذا الخيار بمفرده لن يحل الأزمة الليبية لأن الدولة الليبية بالفعل لم تنجز شيئاً من متطلبات مراحل ما بعد النزاع، وهي بذلك ستحتاج لمشروع سياسي لأن عودة النزاع لأسباب مختلفة أمر محتمل إذا لم يكن هناك تحول جوهري في المقاربة التي تنظر الأطراف الليبية للنزاع من خلالها.
الخيار السياسي في هذه المرحلة قد يكون متاحاً لحكومة الوفاق، إلا أن مصر سارعت في وضع إطار سياسي جديد تريد أن تدخل فيه حكومة الوفاق وقوى الثورة في ليبيا، وهذا سيعني توقف النزاع المسلح في سرت وما حولها وتبقى الموانئ النفطية موضع نزاع، وسيعني أن ماراثوناً من الحوارات سيبدأ ويحاول كل طرف من الأطراف الاستفادة من الوضع العسكري الذي انتهت إليه، ولأنَّ كل طرف يملك قدراً من السيطرة والداعمين المستعدين للعودة للدعم بالسلاح كالإمارات وروسيا فإن عودة النزاع في أي لحظة من اللحظات ممكنة.
أما دمج الخيار العسكري بالسياسي فهو أحد الخيارات التي تطرح في الأوساط السياسية الليبية وفيها تعتمد القوى العسكرية لحكومة الوفاق على الزخم الذي حققته في طرابلس لنقل المعركة في معقل قوات حفتر مع تقديم مشروع يضع البلد على قاعدة دستورية وانتخابات تحقق سلطة شرعية، وفي نفس الوقت يحقق حالة من الاستقرار قد تحقق حالة من الاطمئنان للدور الذي تقوم به تركيا بأنه سيفضي في النهاية إلى الاستقرار، وهذا سيعتمد على القدرة العسكرية والدبلوماسية التركية، وسيعتمد كذلك على قدرة الأطراف الليبية على استعادة ملكيتها للأزمة الليبية عبر تقديم مشاريع واقعية وفاعلة تحقق المصالحة السياسية والاجتماعية في البلاد.
خيارات حفتر وداعميه
في الجانب تبدو خيارات حفتر محدودة، فهو مهزوم وقد فشل في المشروع الذي أقحم شركاءه فيه. لكن من غير المتوقع أن مصر والإمارات سترفع يدها عن خليفة حفتر بالشكل الذي يصوره البعض بأن حفتر قد خرج تماماً من المشهد، لكن الواقع يقول إن استمرار حفتر يعطي خيارات كثيرة لمصر والإمارات في منطقة هي في النهاية جزء أساسي من الصراع في شرق المتوسط وفيها موانئ وحقول نفطية قد تكون وسيلة ضغط كبيرة للدول الداعمة لخليفة حفتر.
لكن أمام حفتر الآن تحديات كثيرة في الشرق الليبي وهي أصعب من التحديات التي واجهها من قبل، لأن صورته قد اهتزت تماماً، ولأن الإمارات لن يكون مجدياً لها الاستمرار في مشروع يبدو كتب عليه الفشل، لذا سيكون الشرق الليبي محلاً لأجندات إماراتية تنسق فيه مع الجانب المصري. عامل آخر قد يؤثر في الشرق وهو صعود بعض التيارات كالتيار الفيدرالي الذي قد يسعى للحديث عن تقسيم البلد كخيار وحيد لحل الأزمة الليبية. هذا الخيار لن يرضاه حفتر وداعموه إلا في حال يئسوا من تحقيق أي نتائج على الأرض.
ويعتقد أن الإمارات ومصر قد فشلتا في مشروعهما تجاه ليبيا بدعمهما لحفتر، وأن تغيير المقاربة تجاه الملف الليبي من خلال مبادرة سياسية كما فعلت مصر مثلاً لن يكون له تأثير على حركية الصراع، فإن حجم التدخل الإماراتي والمصري العسكري في ليبيا سيجعلها غير قادرة على مواجهة التغيرات السريعة التي يشهدها الواقع الليبي فكما أن الماء لا يجري في النهر مرتين فلا يمكن لمصر والإمارات أن تعود للمشهد الليبي إلا من بوابة واحدة هي المطالبة بانفصال الشرق عن الغرب الليبي، أو من خلال الاحتماء بدولة مثل روسيا ليبقى لها نصيب من التأثير في الأزمة الليبية دون أن يكون لها دور الصدارة، حيث انتهى ذلك العهد.
تركيا في شمال إفريقيا
منذ الاتفاق الليبي التركي كانت تركيا واضحة في سلوكها تجاه ليبيا، فهي من جانب تريد ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا بما يضمن لها منفذاً لشرق المتوسط الغني بالغاز والنفط وتكسر الاحتكار الذي حاولت دول حوض شرق المتوسط فرضه على تركيا. كما أن تركيا تريد أن تكون قوة إقليمية يحسب حسابها في ملفات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وهذا سيعزز دورها في حلف الناتو في المستوى الدولي.
هذه الأهداف تفسر السلوك الذي يسعى لوضع استراتيجية تسعى لزيادة قدرات الدولة الليبية من خلال دعم حكومة الوفاق عسكرياً وسياسياً لضمان قانونية كافة الاتفاقات مع حكومة الوفاق واستمرارها كشريك استراتيجي في المنطقة.
الشرط الأساسي لنجاح هذه الاستراتيجية هو ضمان وحدة ليبيا لأن الشرعية التي قام عليها الاتفاق هو حكومة الوفاق في طرابلس، والحدود الذي رسمت مع حكومة الوفاق هي في المنطقة الشرقية في درنة وبعض المدن القريبة من طبرق.
هذا يؤكد أنَّ هذه الاستراتيجية تسعى لتثبت شرعية سياسية تؤكد هذه الشراكة بين الدولة الليبية ممثلة في حكومة الوفاق والدولة التركية بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان. هذا ما يمكن أن نفهمه بوضوح من خلال تصريحات الأخير حين يقول مثلاً: "أنا على ثقة بأن وحدتنا وتضامننا سيجعلان العالم ينظر بإعجاب إلى تركيا ويعززان وضعنا داخل حلف شمال الأطلسي". وفي اللقاء الأخير الذي جمع أردوغان مع السراج في أنقرة تعهد الرئيس التركي بمواصلة دعم حكومة الوفاق وتحدث عن إمكانية استبعاد حفتر من المشهد، وأنه ناقش ذلك مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتطورات المتسارعة في ليبيا.
ويبدو أن الدعم التركي لهذه السياسة نابع من مخاوفها من تواجد روسي في شمال إفريقيا، كما أن نجاح الحكومة التركية في تحقيق التوازن في المشهد الليبي يعزز من هذه الثقة ويوحد أهداف حلف الناتو مع المصالح التركية، والأطراف الليبية ترى في أن هذا التدافع يصب في صالحها في نهاية المطاف.
الدب الروسي في المياه الدافئة
لا أحد يعلم كيف سيستمر سلوك الروس في المياه الدافئة؛ لأن السياسة الروسية في ليبيا تبدو امتداداً لسياساتها في التمدد عبر ما يسمى "الحرب الهجينة"، تلك الحرب الذي تستخدم فيه كافة الوسائل للوصول للأهداف التي يسعى لها بوتين في إعادة التوازن للمشهد العالمي -حسب اعتقاده- من خلال عودة روسيا لقوتها العالمية كما كانت إبان الاتحاد السوفييتي.
هذه الاستراتيجية جعلت بوتين يرى إمكانية التمدد في شمال إفريقيا من خلال الملف الليبي، وهذا ما جعل موسكو تدعم حفتر اقتصادياً وعسكرياً لكن الهزيمة الأخيرة للجنرال المتقاعد جعلت روسيا بين خيارين إما أن تستمر في الحرب من خلال التمدد في الشرق الليبي وتجد نفسها لاعباً أساسياً في الأزمة الليبية، أو من خلال المساومة عبر التواجد العسكري لتكون لاعباً سياسياً أساسياً في الملف الليبي كما هو الحال في الأزمة السورية.
هزيمة مرتزقة فاغنر في ليبيا يبدو أنها كانت مؤلمة لبوتين، فقد صرح أردوغان بذلك حين قال: "روسيا غاضبة مما حدث في ليبيا"، لكن روسيا تعرف جيداً أنه من الصعب أن تخلق لها مجالاً حيوياً في ليبيا في وجود كل هذه القوات من الأفريكوم وحلف الناتو والقوات التركية والاتحاد الأوروبي، لذا فإنها ستحاول أن تستفيد من الفراغ الذي خلفه وجود خليفة حفتر في الشرق الليبي من خلال:
- تواجد عسكري بإعادة تموضع قوات فاغنر ونشر مضادات جوية طويلة الأمد، وهذا ما تذكره تقارير قوات الأفريكوم.
- أو من خلال بناء شراكات سياسية مع عناصر من النظام السابق أو الدخول مع مصر والإمارات في تحالفات للاستمرار في دعم خليفة حفتر.
- وفي نفس الوقت تسعى للاستمرار في عملها عبر شبكة من النشاطات الإعلامية والاقتصادية والعسكرية (الحرب الهجينة) الذي يمكنها من إيصال حليف لها في الانتخابات التي قد تحدث في البلد، وهذا ظاهر من خلال في بيان نشرته قوات "بركان الغضب" التابعة لحكومة الوفاق عقب القبض على عملاء روس في ليبيا، قالت فيه إن "المخابرات الليبية هي من أحالت البلاغ حول قضية الجاسوسين مكسيم شوغالي وسامر سعيفان للنيابة العامة، بتهمة ارتكابهما أفعالاً مضرّة بأمن الدولة"، وجاء في البيان أن "الجاسوسين عملا على تجنيد ليبيين لجمع المعلومات وتدريبهم للعمل مستقبلاً للتأثير في الانتخابات الليبية".
أمام روسيا تحدٍّ أكبر في ليبيا وهو صناعة التحالفات، فإن الملف الليبي ليس من أولويات السياسة الروسية لكنها تشكل فرصةَ لا يضير روسيا لو استفادت منها دون أن تضر هذه المصالح بتحالفها مع تركيا التي من خلالها تصدر الغاز لأوروبا وتشكل هي وتركيا تحالفاً إقليمياً له قدرة على حل النزاعات في المنطقة دون اللجوء بشكل مباشر للمعسكر الغربي المتمثل في الولايات المتحدة الأمريكية.
سيكون للقدرات الدبلوماسية التركية مع روسيا الدور الأكبر في تحديد خيارات روسيا في ليبيا، هذا بالضبط ما مثلته المكالمة التي جرت بين الرئيسين التركي والروسي والتي تضَّمنت صفقة تُخرج بموجبها روسيا قواتِ فاغنر من سرت ومنطقة الجفرة مقابل أن تضمن تركيا المصالح الروسية في تركيا، الأمر الذي عززته تصريحات لوزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو يدعو فيها لخروج روسيا من ليبيا.
ليبيا وتأثير الجيران
ما أن هزمت مصر والإمارات في الغرب الليبي حتى أعلن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي عن مبادرة سياسية تنهي النزاع في ليبيا في إطار مؤتمر برلين، قوبلت باستهجان من بعض الأطراف السياسية في الغرب الليبي حيث رفضها المجلس الأعلى للدولة، وردت قيادات في عملية بركان الغضب بأن لا وقت للتعامل مع الهرطقات التي تأتي من الأطراف المهزومة، حسب تعبير المتحدث باسم الجيش الليبي العقيد محمد قنونو، في المقابل رأت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي أن التوجه نحو المجال السياسي قد يكون بداية لحلحلة الأزمة الليبية.
المبادرة في تفاصيلها لا يمكن القبول بها وهي غير واقعية؛ لأنها تطالب حكومة الوفاق الشرعية بتسليم أسلحتها لقوات حفتر المتورطة في جرائم حرب معروضة أمام محكمة الجنايات الدولية، لذا فإن الترحيب الذي جاء للمبادرة هو ترحيب بالتوجه نحو السياسة وليس ترحيباً بمحتوى المبادرة، وسيكون على حكومة الوفاق وضع إطار ومبادرة خاصة بها، لأن الذي تسعى إليه ومصر والإمارات هو استغلال هذه المبادرة لتكون أجندة الحل والمرجعية الجديدة التي تمكّن مصر والإمارات أن تحقق سياسياً ما فشلت فيه عسكرياً.
الرد المغربي جاء واضحاً على لسان وزير الخارجية ناصر بوريطة الذي هاتف وزير الخارجية في حكومة الوفاق مؤكدًا أن اتفاق الصخيرات هو مرجعية الحل في ليبيا، الأمر الذي أكدته تونس على لسان وزير خارجيتها. هذه الردود الإقليمية والتي تمثلت كذلك في الموقف الجزائري على لسان وزير خارجيتها بأن بلاده تسعى لتنظيم حوار بين الفرقاء الليبيين، هي التي تحد من محاولة التغول المصري الإماراتي في الملف الليبي.
وأثار الملف الليبي نزاعاً كبيراً داخل البرلمان التونسي ما يجعله جزءاً من الحراك الذي يشهده الإقليم في الصراع بين قوى التغيير والمشروع الذي تقوده الإمارات والسعودية للاستمرار تحت حكم الأنظمة العسكرية أو استمرار النظام الإقليمي العربي تحت سيطرة السعودية بمعارضة محدودة من دول كبرى مثل الجزائر بعد تأزم الأوضاع في العراق وسوريا. ويمكن اختصار الأمر بأن المجال الإقليمي والدولي يتداخل في الملف الليبي نظرًا لعنصر الجغرافيا، لكن فيما يبدو أن التأثير الأكبر هو للقوى الكبرى في المنطقة حلف الناتو متمثلاً في تركيا وروسيا وقد جاء الرد التركي على المبادرة المصرية واضحًا بأنّه ُ"ولِدَت ميتة".
مآلات الأزمة في ليبيا
من خلال ما سبق يمكن القول إن حكومة الوفاق ترى أن تهديدَ حفتر لن ينتهي إلا ببسط سلطانها على كامل التراب الليبي، كما أن التوجه التركي في ليبيا لن يتوقف. إذا استمرت تركيا بزيادة قدرات حكومة الوفاق عسكرياً وسياسياً فإن تلاقي المصالح بين الطرفين سيعطيهما المبرر والحافز للاستمرار في التوجه نحو الشرق الليبي؛ هذا الزخم سيقابل معارضة سياسية دبلوماسية روسية، وسيقابل كذلك بمحاولات مصرية وإماراتية لمواجهة تركيا عسكرياً من خلال منعها من التقدم نحو الشرق.
نتاج كل ذلك سيعتمد على سرعة العمليات في الشرق الليبي وردود فعل روسيا تجاه أي توجه لقوات الوفاق للشرق. ستحاول مصر والإمارات محاربة تركيا دبلوماسياً ومناوشتها عسكرياً، لكن دون التدخل الروسي سيصعب على مصر السيسي خوض حرب خارج حدودها، ولن يكون مسموحاً للإمارات بخرق استراتيجية حلف الناتو بمنع التواجد الروسي في شمال إفريقيا.
سيشهد الملف الليبي في الأيام القادمة حرب سرديات مختلفة ما بين بناء الدولة وصناعة السلام ودعم الشرعية في المنطقة الغربية وبدعم تركي وأمريكي، في مقابل سردية تسعى للحديث عن تدخل واستعمار تركي لليبيا، كما أنها ستشهد نزاعاً بين المبادرات السياسية، وسيعتمد نتاج تلك المبادرات على قدرة الأطراف المختلفة على ملء الفراغ في الشرق الليبي، إنه موسم الرحلة إلى الشرق، وهذا هو المشهد القادم، فلننتظر.