توقعت فصائل الميليشيات العراقية تلقي الأموال المعتادة حين أجرى القائد الجديد لفيلق القدس، فرع الحرس الثوري الإيراني، الذي يُستخدَم لعمليات التدخل السريع، أولَ زيارة له إلى بغداد في وقت مبكر من هذا العام. لكن لخيبة أملهم، جلب لهم إسماعيل قآني، خليفةُ اللواء قاسم سليماني، خواتم فضية، في مؤشر على حجم الصعوبات التي تواجه إيران للحفاظ على نفوذها بالعراق.
وفي زيارته الثانية تعيَّن على قآني التقديم للحصول على تأشيرة دخول إلى العراق، وهو ما لم يحدث قط في زمن سليماني، وهي خطوة جريئة من حكومة بغداد الجديدة تُقيِّد بكفاءة حرية حركة إيران داخل العراق، حسبما ورد في تقرير لوكالة The Associated Press الأمريكية.
الصعوبات التي تواجه إيران للحفاظ على نفوذها بالعراق تتزايد
وتوضّح هذه الوقائع، التي نقلتها عدة وكالات عراقية إلى وكالة The Associated Press، معاناة إيران للحفاظ على سيطرتها على الميليشيات العراقية بعد 6 أشهر من اغتيال الولايات المتحدة لقاسم سليماني وأبومهدي المهندس، نائب رئيس ميليشيات الحشد الشعبي، في غارة بطائرة بدون طيار.
وفي الوقت نفسه، تُصارع إيران مع التداعيات الاقتصادية من العقوبات الأمريكية المفروضة عليها وتفشي فيروس كورونا المستجد.
ومن دون شخصيات مُسيِطرة مثل سليماني والمهندس لتوحيد الفصائل المتباينة، ظهرت انقسامات في قوات الحشد الشعبي، وهي المظلة الشاملة للقوات الشيعية.
إلى جانب ذلك، تسبَّبت وفاتهما في تعطيل مشروع إضفاء الطابع المؤسسي على الميليشيات، الذي كان المهندس يخطط له بدقة بمباركة سليماني.
وفي هذا السياق، قال فنار حداد، باحث في العراق: "مع رحيل المهندس لم تعد هناك مرساة تدور حولها سياسة قوات الحشد الشعبي".
تراجع الأموال والنفوذ.. والأهم غياب الرمز
منذ وفاة سليماني ظهر شِقاق بين الفصائل الشيعية، التي خاضت جدلاً حول اختيار رئيس الوزراء العراقي الجديد، قبل أن تستقرّ على مصطفى الكاظمي.
ومقارنةً بسليماني، يعتبر قآني أقل إلماماً بقيادات الميليشيات العراقية، ويتحدث إليهم من خلال مترجم. وأصبحت الاجتماعات في العراق تُدار أكثر من جانب السفير الإيراني إيرج مسجدي، وهو نفسه عضو سابق في فيلق القدس التابع للحرس الثوري.
ووفقاً لثلاثة مسؤولين، تحدثوا بشرط عدم الكشف عن هويتهم لأنهم غير مصرّح لهم بالتحدث إلى الصحافة، فقد جاءت هدية قآني من الخواتم الفضية -التي تحمل أهمية رمزية في الطائفة الشيعية- بدلاً من النقود، خلال اجتماع في أبريل/نيسان مع قادة عدة فصائل مسلحة تابعة للميليشيات العراقية.
وأخبر قآني قادة الفصائل أنَّ عليهم أن يعتمدوا في الوقت الحالي على الأموال التي تدفعها لهم الدولة العراقية؛ ما يعكس الأزمة الاقتصادية الإيرانية، بحسب تصريحات المسؤولين الثلاثة.
وتتلقى قوات الحشد الشعبي تمويلها في المقام الأول من خلال الدولة العراقية -الذي بلغ 2 مليار دولار في ميزانية 2019- لكن هذه الأموال لا تُوزَّع بالتساوي. وقال مسؤولان عراقيان مقربان من الميليشيات إنَّ الجماعات الأصغر حجماً المدعومة من إيران تعتمد على سبل تمويل أخرى غير رسمية، وتتلقى أموالاً إضافية من إيران تُقدَّر بنحو 3 إلى 9 ملايين دولار.
أنصار السيستاني يتمردون
تأسّست قوات الحشد الشعبي في عام 2014 ليكون إطاراً لتنظيم وتمويل الآلاف الذين تطوّعوا لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، بعد فتوى أصدرها رجل الدين العراقي آية الله علي السيستاني. ومنذ ذلك الحين، زادت قوتها السياسية والعسكرية. وتحت قيادة أبومهدي المهندس، المؤيد بشدة لإيران، أصبحت قناة لنفوذ طهران في العراق.
لكن وفاته أفسحت الطريق أمام الفصائل المعارضة لهذا النفوذ -خاصة تلك المرتبطة بالسيستاني- للانفصال عن قيادة الحشد الشعبي. وتشكو الميليشيات المرتبطة بالسيستاني من أنَّ الجماعات الصديقة لإيران تتلقى معاملة تفضيلية.
واجتمع الرجل الذي يُنظَر إليه على أنه خليفة المهندس المحتمل، عبدالعزيز المحمداوي، المعروف بـ"أبي فدك"، بالفصائل المعارضة التي اعتبرته الخيار المدعوم من إيران. وبحسب المسؤولين، لم يعترف رئيس الوزراء به رسمياً إلى الآن، رغم أنه تولى بعض المهام الإدارية.
لكن أظهرت بعض أكثر الميليشيات قرباً لإيران في ظل الحشد الشعبي علامات على الانشقاق.
ففي الآونة الأخيرة، قالت 4 ميليشيات تابعة لمرجعية السيستاني إنها ستتلقى أوامرها مباشرة من رئيس الوزراء العراقي، متجاوزة قيادة الحشد الشعبي.
من جانبه، قال مسؤول كبير في كتائب حزب الله إنَّ الخطوة أضعفت قوات الحشد الشعبي وشرعيتها بين الجمهور. وبالنسبة للعديد من العراقيين، فإنَّ مصداقية الحشد الشعبي مستمدة من فتوى السيستاني.
وظهر الانشقاق جلياً عندما زار رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي مقر قيادة الحشد، بعد أسابيع من رئاسته الحكومة. وجلس إلى يمينه شخصيات مقربة من طهران، بينما جلس إلى يساره التابعون للسيستاني.
وفي هذا السياق، قالت راندا سليم، مديرة برنامج حل النزاعات ودبلوماسية المسار الثاني في معهد الشرق الأوسط، إنَّ ذلك يمثل "انفصالاً مؤلماً ومهماً" للمؤسسة الشيعية بقيادة السيستاني ضمن الخطط الإيرانية الأوسع.
وأضافت: "هم يقولون ببساطة: لا نريد جهازاً يأخذ أوامره من إيران".
مستقبل مبهم بعدما يتطلعون لتشكيل قوة احترافية
ويخيم على مستقبل قوات الحشد الشعبي سؤالٌ أكبر.
كان المهندس يشرف على خطط لتحويل مجموعة من الميليشيات المستقلة إلى قوة أكثر احترافية. وقال ثلاثة من قادة الميليشيات، خلال زيارة أجريت مؤخراً إلى الموصل، إنَّ هذه الخطط لم تكتمل بعد.
وقد كان للمهندس نفوذ بالغ على الميليشيات العراقية وداعميها.
وقال محمد الموسوي، قيادي في ميليشيات الحشد الشعبي: "الحاج أبومهدي جعلنا مجموعة رسمية، وهذا أهم شيء فعله". وأشار الموسوي إلى أنَّ المهندس كان يخطط لتطوير تدريبات المقاتلين والأكاديميات والتجنيد خلال السنوات المقبلة لتحسين إدارة الميليشيات.
ويقول الخبراء إنَّ نفوذ إيران يتراجع في العراق، لكن هذا لفترة قصيرة.
إذ توضح راندا سليم أنَّ "إيران أثبتت أنها تتعلم وتتطور. وهي الآن في مرحلة التعلُّم".