يخيِّم توتر دبلوماسي على العلاقات الجزائرية-الفرنسية، منذ ما يزيد عن عام؛ بسبب ما تعتبره الجزائر حملات إعلامية فرنسية "مسيئة وغير بريئة" تستهدف البلد، وخاصة ما يشهده من تحول سياسي.
ولطالما شكلت ملفات الذاكرة المرتبطة بالحقبة الاستعمارية الفرنسية للجزائر (1830 – 1962) نقطة الخلاف بين البلدين، غير أن مستجدات المشهد السياسي الجزائري منذ اندلاع الحراك الشعبي في 22 فبراير/شباط 2019، باتت أساس الفتور والتوتر الشديد في العلاقات الثنائية، خلال الأشهر الأخيرة.
ومن آنٍ إلى آخر، تُشهر الجزائر ورقتي "الذاكرة" و"السيادة" في وجه فرنسا، بينما دخل الإعلام الحكومي الفرنسي على الخط، من خلال معالجة مكثفة للشأن الجزائري، بشكل أثار غضباً رسمياً وحتى شعبياً في الجزائر.
احتجاج جزائري
خلال شهرين، استدعت الجزائر السفير الفرنسي لديها كزافيي دريونكور، مرتين، قبل أن تستدعي سفيرها لدى باريس، صالح لبديوي، للتشاور. نهاية مارس/آذار الماضي، استدعت الخارجية الجزائرية دريونكور، وأبلغته احتجاجها الشديد على استضافة قناة "فرانس 24" (حكومية) محللاً زعم أن الجيش الجزائري حَوَّلَ مساعدات لمواجهة فيروس "كورونا المستجد" قادمة من الصين إلى مستشفى عسكري في العاصمة الجزائر.
ومنتصف مايو/أيار الماضي، ذكرت صحيفة "لوبينيون" الفرنسية أن الخارجية الجزائرية استدعت السفير الفرنسي (لم تحدد تاريخاً)، للاحتجاج على صورة نشرتها قيادة الجيش الفرنسي على حسابها بـ"تويتر"، تمس الوحدة الترابية والوطنية للجزائر، بعد نشر علم الأمازيغ بجانب علم الجزائر، قبل أن يتم حذفها لاحقاً.
وأعلنت الجزائر، في 27 مايو/أيار، استدعاء سفيرها في باريس صالح لبديوي، للتشاور، احتجاجاً على بث قناة حكومية فرنسية فيلماً وثائقياً حول الحراك الشعبي أثار غضباً لدى الشارع الجزائري. وأجبر هذا الحراك الشعبي في 2 أبريل/نيسان 2019، عبدالعزيز بوتفليقة على الاستقالة من رئاسة الجزائر (1999 – 2019).
وبثت قناة "فرانس 5" الفرنسية الحكومية، حسب وسائل إعلام جزائرية، فيلماً وثائقياً تناول مسيرة الحراك الشعبي بالجزائر، ركز على مطالب لشبابٍ بالحرية خارج القيود الاجتماعية، إلى جانب مشاهد قديمة لمتظاهرين يهاجمون قيادة الجيش.
وقالت الخارجية الجزائرية، في بيان، إن استدعاء سفيرها يأتي "على خلفية بث بعض القنوات العمومية (الحكومية) الفرنسية برامج هاجمت فيها الشعب الجزائري ومؤسساته".
كما استنكر رئيس لجنة الشؤون الخارجية بالبرلمان الجزائري، عبدالقادر عبداللاوي، في الأول من يونيو/حزيران الجاري، "الهجمات" الإعلامية الفرنسية على الجزائر. وقال عبداللاوي، خلال جلسة استماع لوزير الشؤون الخارجية، إن "هناك حالة من الصراع والتوتر والتعدي على رموز الجزائر (من جانب فرنسا)، أدت إلى أوجاع".
وفي ردها على الجزائر، اعتبرت الخارجية الفرنسية أن "القنوات الفرنسية المعنية تتمتع بحرية التعبير المطلقة"، وأن "حرية الصحافة محمية بموجب القانون".
دعم بوتفليقة
التوتر بين الجزائر وباريس بدأ قبل وصول الرئيس عبدالمجيد تبون، إلى سُدة الحكم، في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وبالضبط منذ دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 12 مارس/آذار 2019 (في ذروة الحراك الشعبي) إلى "مرحلة انتقالية معقولة في الجزائر".
واعتُبرت هذه الدعوة مساندة صريحة لقرار الرئيس الجزائري حينها بوتفليقة، إلغاء انتخابات أبريل/نيسان 2019، وتمديد بقائه في السلطة لسنةٍ إضافية.
ورفضت السلطات الجزائرية، وعلى رأسها قيادة الجيش، مقترح المرحلة الانتقالية جملةً وتفصيلًا، وتمسكت بالحل الدستوري وبرحيل بوتفليقة حتى تنظيم انتخابات رئاسية. ومن دون ذكر اسمها، هاجم تبون فرنسا، مراراً، بسبب مقترح المرحلة الانتقالية التي تجلب "الدم والدمار"، على حد قوله.
مصالح باريس
وفق إدريس عطية، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر، فإن "الإعلام الفرنسي فضح نية فرنسا في كسر المسار الديمقراطي في الجزائر، وتخوفها من أي نجاح له". ويقول عطية للأناضول إن فرنسا "تدرك أن الجزائر لو اعتمدت الديمقراطية الحقة كأداة فاعلة في المجتمع فإنها (فرنسا) ستخسر مصالحها، وستضيع كل الفرص الاقتصادية في الجزائر". "فرنسا ترفض يقظة شعوب مستعمراتها القديمة على غرار الجزائر".
ويضيف عطية: "هذه الدولة ذات الماضي الاستعماري لم يعجبها الشباب الجزائري الثائر المشبع بقيم ثورة التحرير ورسالة الشهداء والمجاهدين (المحاربين القدامى) في الحراك الشعبي، لذلك حاولت تشويه الحراك من خلال وثائقي فرانس 5".
استعادة "هيبة الدولة"
من جانبه، يعتبر فصيل ميطاوي، وهو صحفي متخصص بالشأن السياسي، أن التوتر بين الجزائر وفرنسا بدأ يوم إعلان انتخاب تبون رئيساً للجزائر. ويضيف ميطاوي للأناضول أن "السلطات الفرنسية لم تستسغ تنظيم الانتخابات في الجزائر"، وقلل ماكرون من قيمة انتخاب رئيس جديد حينما علق قائلاً: "أُحطت علماً بفوز تبون".
وبشأن الحدة التي أبدتها الدبلوماسية الجزائرية في التعامل مع فرنسا مقارنة بما كان عليه الحال في عهد بوتفليقة، رأى ميطاوي أن "تبون يريد أن يعطي صورة أخرى للدبلوماسية.. دبلوماسية الفعل ورد الفعل والانطلاق من موقع القوة".
ويردف: "بوتفليقة عندما جاء (للرئاسة) سنة 1999 وعد بتلميع صورة الجزائر في الخارج، لكن الدبلوماسية مرضت لما سقط مريضاً، وباتت وكأنها خاضعة وغير قادرة على إعطاء الرد الكافي في كثير من الملفات".
وسبق وأن شنت وسائل إعلام فرنسية حملات على الجزائر، أبرزها سنة 2016، حيث هاجمت صحيفة "لوفيغارو" مسجد الجزائر الأعظم (تقول السلطات إنه ثالث أكبر مسجد في العالم) وكتبت "أن بوتفليقة يبني مسجد التطرف". كما أثارت صورة لرئيس الوزراء الفرنسي حينها، مانويل فالس، مبتسما أمام الرئيس بوتفليقة المنهك صحيا في السنة ذاتها، أثناء استقباله له في الجزائر، جدلا واسعا، لأنها اعتبرت "مهينة جدا" لبوتفليقة. ولم تقدم السلطات الجزائرية يومها أي تعليق أو احتجاج.
إعادة رسم العلاقة
يريد تبون، وفق مراقبين، إعادة رسم الأبعاد المحددة للعلاقة بين الجزائر وفرنسا. وبالنسبة للمحدد التاريخي، فقد أكد تبون، في رسالة له بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لمجازر 8 مايو/أيار 1945، أن فرنسا "قتلت نصف سكان الجزائر منذ 1830 إلى غاية 1962".
وأضاف أن عدد الضحايا يبلغ 5.5 مليون، في إشارة إلى أن إحصاء مجازر الاستعمار يشمل كامل الفترة الاستعمارية، وليس فترة الثورة التحريرية (1954 – 1962) فقط، والتي تحصي 1.5 مليون ضحية فقط، إضافة إلى جرائم أخرى.
وقبل أيام، نَصَّبَ البرلمان الجزائري لجنة من 35 نائبا لمتابعة مشروع قانون تجريم الاستعمار الفرنسي بالجزائر. ويضع تبون سيادة الجزائر مبدأ أساسيا في إعادة بناء العلاقات بين البلدين، وفق خطاباته السابقة. وشدد تبون، في حوار مع وسائل إعلامية محلية في مايو/ أيار الماضي، على أن "السيادة الوطنية خط أحمر".
من جانبها، قالت الخارجية الجزائرية، في بيان استدعاء سفيرها في باريس للتشاور، إن "الاحترام المتبادل وتوازن المصالح (بين الجزائر وفرنسا) لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال موضوعا لأي تنازلات أو ابتزاز من أي طبيعة كان".
وبادر ماكرون، الثلاثاء الماضي، بالاتصال هاتفيا بتبون. وحسب الرئاسة الجزائرية، في بيان: "اتفق الجانبان على إعطاء العلاقات الثنائية دفعا طموحا، على أسس دائمة تضمن المصلحة المشتركة المتبادلة، والاحترام الكامل لخصوصية وسيادة كلا البلدين". ولم يتطرق الرئيسان إلى الأزمة الدبلوماسية الراهنة بين بلديهما، في وقت ما زال فيه السفير الجزائري موجودا في بلده ولم يعد إلى فرنسا.