على مدى أكثر من 70 عاماً، اعتاد العالم قيام الولايات المتحدة الأمريكية بدور "شرطي الأخلاق وحامي الحريات"، لكن الاحتجاجات المستمرة على مقتل جورج فلويد وردّ فعل إدارة الرئيس دونالد ترامب ومشاهد عنف الشرطة تجاه المتظاهرين السلميين، جردت واشنطن من أقوى سلطاتها على الإطلاق، فما القصة؟
شبكة CNN الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "هل ما تزال الولايات المتحدة هي الزعيمة الأخلاقية للعالم؟ ليس بعد ما فعله ترامب هذا الأسبوع"، ألقى الضوء على النفاق الأمريكي في مجال حقوق الإنسان واحترام الديمقراطية وحرية التعبير بعد أن رسبت إدارة ترامب في التطبيق العملي لتلك الدروس.
ستظل بقايا جدار برلين في ألمانيا تذكاراً بأنّ الحريات تُكتَسب بعد مشقةٍ وعناء، واليوم، جرى طلاء جزء من الجدار بلوحة لجورج فلويد مع عبارته "لا أستطيع التنفس"، لتمنحنا تذكاراً آخر بمدى السرعة التي يُمكن أن تُنتزع بها تلك الحريات.
ولكن بعيداً عن موت أمريكي آخر من ذوي البشرة السمراء على يد الشرطة، زاد ردُّ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب غضب الناس وأثار سؤالاً مهماً: هل ما تزال الولايات المتحدة هي الوصي الأخلاقي على العالم؟
الإجابة هي: لا بكل تأكيد
"نشعر بالاشمئزاز"، أو "الصدمة والفزعة"، أو "الرعب والذعر"، هذه هي الكلمات التي اعتدنا سماعها من الرؤساء والدبلوماسيين الأمريكيين لإدانة الأنظمة الاستبدادية، ولكنّنا سمعناها هذه المرة من زعماء المملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وكندا على الترتيب لوصف مقتل جورج فلويد.
وتجرّأ قليل من القادة على انتقاد ترامب بالاسم، لكن يبدو أنّ رئيس الوزراء الإسباني، بيدرو سانشيز، وجَّه أشدّ عبارات الإدانة من دولةٍ حليفة لحكومة الولايات المتحدة أمام البرلمان يوم الأربعاء 3 يونيو/حزيران، إذ قال: "أقف تضامناً مع المظاهرات التي تحدث في الولايات المتحدة، لأنّه من الواضح أنّنا جميعاً قلقون للغاية حيال الجدل الاستبدادي، والأساليب الاستبدادية التي نشهدها رداً على بعض المظاهرات".
وفي ساحة لافاييت أمام البيت الأبيض، أطلق رجال الشرطة الرصاص المطاطي وقذائف رذاذ الفلفل على المُحتجين يوم الإثنين 1 يونيو/حزيران، وشُوهِد أحدهم وهو يضرب صحفياً أسترالياً بهراوة، ودفع آخر مصوراً بدرعه قبل أن يلكمه في وجهه.
وكانت الحملة القمعية مُروّعةً بقدر مُبرّرها، إذ بدا أنّ الشرطة تستخدم تلك القوة لمجرد تمهيد الطريق أمام الرئيس حتى يحصل على جلسة تصوير غير متزنة على الإطلاق وهو يُلوّح بالإنجيل أمام الكنيسة.
الشرطة تقمع المتظاهرين السلميين
إذ قال مايكل هاميلتون، خبير قانون الاحتجاج العام في جامعة إيست أنجليا بالمملكة المتحدة: "لا يوجد مُبرّر لنوعية القوة التي تستخدمها الشرطة، إذ تتعارض بوضوح مع معايير حقوق الإنسان الدولية المتعلقة بحق التظاهر وحرية التجمّع".
وفي حين يدعو غالبية زعماء العالم إلى الوحدة الوطنية، نجد ترامب يُهدّد بإنزال الجيش في جميع أنحاء البلاد لتحقيق "الهيمنة الكاملة"، ويصف المُحتّجين بـ"البلطجية" و"الإرهابيين".
وانتقد وزير الدفاع الأسبق، جيمس ماتيس، التهديد، بعبارات لاذعة قائلاً: "يجب أن نرفض أي نظرة إلى مدننا على أنّها ساحات معارك يُفترض بجنودنا فرض الهيمنة عليها. وعسكرة ردود فعلنا، كما شهدنا في واشنطن العاصمة، تُحدِث صراعاً -زائفاً- بين الجيش والمجتمع المدني".
الصين تسخر: "لديّ حُلم، ولكنّني لا أستطيع التنفس"
وأوضح هاميلتون أنّ الولايات المتحدة التي تأمر الجيش بفرض النظام على المحتجين؛ "ستجد صعوبةً في مواصلة انتقادها" للدول الأخرى التي تتعامل بالأسلوب نفسه أو أساليب أشد عنفاً، ويبدو هذا واضحاً منذ الآن فعلياً. إذ استغلت دولٌ مثل الصين وإيران وروسيا اللحظة لتبرير استخدامها القوة المُفرطة ضد شعوبها، ودعم مصالحها الخاصة، والتهكُّم على منافس لطالما نظروا إليه بوصفه أباً صارماً وراعياً.
إذ كتب رئيس تحرير صحيفة Global Times الحكومية الصينية، هو اكسيجين، سلسلةً من التغريدات تُركّز على نفاق الولايات المتحدة، حيث مرّرت واشنطن، العام الماضي، قانوناً يسمح بفرض عقوبات على المسؤولين الصينيين؛ لانتهاكهم حقوق الإنسان في هونغ كونغ. ومؤخراً، استنكرت القانون الأمني الصيني الذي يهدف إلى قمع الاحتجاجات والسماح للجيش الصيني بالعمل داخل هونغ كونغ، التي تتمتّع عادةً بِحرياتٍ أكثر من الصين الأم.
وكتب "هو" في إحدى التغريدات، مع رسم كاريكاتير لفنار ومنارة يُزيّنهما العلم الأمريكي فوق أجساد رجال من ذوي البشرة السمراء يرتدون البدلات: "لديّ حلم، ولكنّني لا أستطيع التنفس"، ثم أضاف: "زاد قمع الولايات المتحدة للاضطرابات الداخلية من تآكل الأُسس الأخلاقية الضرورية لتصف نفسها بـ(منارة الديمقراطية). وكذلك انتهى عصر استغلال النخب السياسية الأمريكية لحادثة تيانانمن كما يحلو لها".
كما قلبت إيران أيضاً الطاولة على واشنطن، إذ قال وزير الخارجية جواد ظريف على تويتر: "تحوّلت مُدن الولايات المتحدة إلى مشاهد عُنف ضد المتظاهرين والصحافة". وفي أعقاب مقتل فلويد، كتب ظريف على تويتر تصريحاً مناهضاً لإيران على لسان البيت الأبيض، وعلّق عليه كأنّ إيران هي من تنتقد الولايات المتحدة على "قمع" المُحتجين الأمريكيين وإنكار خيبات أملهم.
وتطرّقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، إلى النفاق الأمريكي، يوم الخميس 4 يونيو/حزيران، وسخرت من البيت الأبيض، مقترحةً أن يُصدر بياناً لإدانة نفسه كما يفعل عادةً مع الدول الأخرى.
ما الذي ستخسره الولايات المتحدة؟
كانت الولايات المتحدة تُعتبر زعيمة العالم طيلة أكثر من 70 عاماً، إذ خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرةً وقوةً عظمى، لتبني أكبر اقتصادات وجيوش العالم، ومع انسحاب بريطانيا العظمى من تأدية دورها، بدأت الولايات المتحدة الاستثمار في المؤسسات الديمقراطية حول العالم، لكن نهج "أمريكا أولاً" الذي اعتنقه ترامب قطع كثيراً من التمويل والجهود عن تلك المؤسسات التي منحت الولايات المتحدة منصة.
وفي أواخر مايو/أيار، صارت منظمة الصحة العالمية أحدث المؤسسات التي تخلّت عنها الولايات المتحدة، إذ كانت الحكومة الأمريكية هي صاحبة التمويل الأكبر للمنظمة، وذلك في خِضَم تفشّي جائحة كورونا. لذا تضاعفت الانتقادات القائلة إنّ الولايات المتحدة لم تُؤدِّ دورها في الاستجابة العالمية، فضلاً عن أنها لم تضرب مثالاً يُحتذى به في القيادة رغم وفاة أكثر من 100 ألف أمريكي بسبب الفيروس.