أكثر من 20 ألف طن من الديزل تسربت إلى أنهار القطب الشمالي الروسي، على يد أكبر شركة لإنتاج النيكل والبلاديوم في العالم، شركة "Norilsk Nickel" الروسية، كانت كافية لإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حالة الطوارئ في البلاد يوم الخميس 4 يونيو/حزيران، إذ سيتسبب هذا التسرب الضخم بعواقب وخيمة، وأضرار بيئية لم تعهدها روسيا من قبل، سيكون ثمنها سنوات طويلة من المعاناة البيئية، وخسائر بمئات المليارات من الروبلات، وتهديد خطير لطموحات روسيا الصناعية.
تأثير سيمتد لسنوات وربما عقود، وسيكلف أموالاً ضخمة
يقول المسؤولون الروس، إن الخزّانات التي تسرب منها الوقود السام في 29 من مايو/أيار، كانت تحتوي على نحو 20000 طن من الديزل، تسربت كلها إلى نهرين في منطقة بمدينة نوريلسك بسيبيريا، إذ انفجر خزان الوقود الاحتياطي الضخم التابع لمحطة طاقة حرارية وحدث التسرب الضخم دون علم السلطات المحلية، التي علمت ما حدث من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بعد يومين من وقوع الكارثة، كما قال الرئيس الروسي، خلال انتقادات لاذعة وجهها لمحافظ منطقة كراسنويارسك، ومديري شركة نوريلسك-تايمير للطاقة التي تدير المحطة.
وبحسب ما أوردته شبكة CNN الأمريكية فإن لجنة التحقيق الفيدرالية الروسية، وهي أكبر هيئة لإنفاذ القانون في روسيا، أعلنت فتح تحقيق جنائي يوم الثلاثاء 2 يونيو/حزيران، في هذه الكارثة.
هذا الإخفاق في اكتشاف الكارثة مبكراً، سيكلف روسيا سنوات طويلة من التأثيرات البيئية الكارثية، وأموالاً ضخمة لمعالجتها. يقول خبراء إن هذا التسرب قد يتسبب في أضرار تفوق المليار دولار، ستستمر عقوداً وتهدد الطموحات الصناعية لموسكو في المنطقة القطبية الشمالية.
قد يكلف التسريب مئات المليارات من الروبل ويلوث النظام البيئي المائي لأكثر من عقدٍ، وفقاً لمسؤولين روسيين. ويقول المدافعون عن البيئة، إن الكارثة واحدة من كبرى الكوارث البيئية بتاريخ روسيا الحديث، تقارَن في حجمها بتسرب إكسون فالديز النفطي عام 1989، عندما تسرب 37 طناً من النفط قبالة ساحل ألاسكا.
تغيرات مناخية تهدد الطموحات الصناعية
تُبرز واقعة التسرب أيضاً التهديد الذي يفرضه تغيُّر المناخ على الصناعة في المنطقة القطبية الشمالية، حيث تذيب درجات الحرارة التي تفوق المتوسط العالمي بكثيرٍ الطبقة الجليدية التي تستخرج روسيا من فوقها الهيدروكربونات والمعادن النفيسة السيبيرية التي يقوم عليها اقتصادها.
قال بوريس مورغونوف، عميد كلية البيئة بكلية الاقتصاد العليا في موسكو، لصحيفة فايننشيال تايمز: "هذه إشارة خطيرة للغاية بالنسبة للمنطقة القطبية الشمالية"، مضيفاً: "كل ما نبنيه في المنطقة القطبية الشمالية يحمل خطراً أكبر بكثير على البيئة".
يقول المدافعون عن البيئة، إن الظروف الصعبة تعني أن "نوريلسك"، التي قالت يوم الخميس إنها أزالت نحو 1500 متر مكعب من التربة الملوثة وسحبت 338 طناً من وقود الديزل المُسرب، لديها مهمة شبه مستحيلة تتمثل في شفط الوقود المُسرب بينما يمتزج مع النهر.
ويرى سيرغي فيرخوفيتس، مدير برنامج المنطقة القطبية الشمالية في روسيا التابع للصندوق العالمي للحياة البرية، أن السكان المحليين الأصليين أخبروه بأن الأدوات التي استُخدمت حتى الآن لوقف تدفق الوقود إلى بحيرة بياسينو، التي تصب في بحر كارا، قد فشلت. وأضاف: "تداعيات تلك الكوارث، خاصة في الشمال، تكون ملموسة لفترة طويلة. إنها تقتل الأسماء، وتلوّث ريش الطيور وتُسمم الحيوانات".
كارثة قد تكلف بوتين نفسه الكثير
وأمطر بوتين مديري الشركة المسؤولة، والمسؤولين المحليين، بوابل من التوبيخ علناً الأسبوع الجاري، بعدما أخبره الحاكم المحلي ألكسندر أوس، بأنه علِم بحجم الكارثة من الإنترنت بعد وقوعها بيومين.
يقول بوتين لسيرغي ليبين، كبير المسؤولين التنفيذيين في الشركة التابعة لـ "نوريلسك" التي تدير محطة الطاقة المتسببة في التسريب: "لماذا علِمت السلطات بشأنه (الحادث) فقط بعدها بيومين؟ هل سنعلم بشأن المواقف الطارئة من مواقع التواصل الاجتماعي الآن؟!". فيما اعتقل ضباط إنفاذ القانون رئيس عمال المحطة، فياتشيسلاف ستاروستين، بتهمة الإضرار البيئي، وفتحوا تحقيقاً جنائياً في واقعة الإهمال المزعومة.
بعد نحو خمسة أيام من التسرب، أعلن بوتين حالة الطوارئ، فيما وصل وزير حالة الطوارئ، يفغيني زينيتشيف، إلى المنطقة المتضررة اليوم، قائلاً إن حالة الطوارئ ستسمح باستخدام جميع الموارد الفيدرالية لوقف الكارثة.
وبالنسبة لبوتين، تعد هذه قضية حساسة جداً، فهو الذي عُرف عنه أنه غير مبالٍ إلى حد كبير بتغير المناخ في الماضي. إذ قرر الرئيس فقط التصديق على اتفاق باريس بشأن المناخ لعام 2015 هذا العام، بعد أن طعن سابقاً في التأكيد، على نطاق واسع، بأن الاحترار العالمي يرجع بشكل حصري تقريباً إلى النشاط البشري.
وتعد هذه الكارثة ضربة أخرى اجتمعت على رأس بوتين وربما ستكلفه الكثير، في الوقت الذي تتعدد فيه الأزمات الشائكة، التي شكلت أسوأ أزمة له خلال أعوام حكمه العشرين. فبالإضافة إلى تأجيل التصويت على التعديلات الدستورية التي قد تسمح لبوتين بالبقاء في السلطة حتى عام 2036، جاءت جائحة كورونا قاسية على روسيا، وصنعت حالة من الاستياء الشعبي بسبب الاستجابة الفاترة بالتعامل مع الوباء، بالإضافة إلى انهيار أسعار النفط، الذي وقع في مارس/آذار الماضي، إلى جانب توقعات بانكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5 إلى 10% خلال العام الجاري.
حوادث كارثية مشابهة قد تتكرر
وعلى الرغم من ذلك، يقول سيرغي دياتشيكو، كبير مسؤولي التشغيل في "نوريلسك"، إن "درجات الحرارة المعتدلة على نحوٍ غير معتاد قد تكون تسببت في إذابة الطبقة الجليدية؛ ما أدى إلى الهبوط الجزئي لدعائم الخزان"، نافياً أن يكون الإهمال قد ساهم في الكارثة، حسب تعبيره.
في السنوات الأخيرة، كانت درجات الحرارة المرتفعة على غير المعتاد تُدفئ التربة الغنية بالكربون، مُطلقة غاز الميثان في الهواء الجوي والذي يزيد من تسارع وتيرة التغير المناخي، كما يقول فاسيلي يابلوكوف، مدير قسم تغير المناخ بفرع منظمة "غرينبيس" في روسيا. و"غرينبيس" واحدة من أشهر المنظمات العالمية الناشطة في مجال حماية البيئة.
يقبع كثير من أغنى الرواسب المعدنية لروسيا في أجزاء معزولة بسيبيريا، مثلها مثل مدينة نوريلسك، التي يصل تعداد سكانها إلى 180 ألف نسمة وتقع على بُعد 300 كيلومتر شمال الدائرة القطبية الشمالية. يتطلب هذا شركات لتنقل الوقود إلى محطات الطاقة البعيدة، ويزيد بوضوح من صعوبة إطلاق عمليات تطهير.
يقول يابلوكوف لـ"فايننشيال تايمز": "هناك كثير من البنية التحتية في المنطقة القطبية الشمالية، وكلها تواجه تهديداً"، مضيفاً: "ستتكرر هذه الحوادث مرة أخرى إذا جمعت كل هذه العناصر معاً".
وهذا التسريب هو أحدث كارثة بيئية تحاصر نوريلسك، التي بنى مصاهرها الأولى سجناء في سجون جوزيف ستالين. ونوريلسك هي أكبر مصدر لثاني أكسيد الكبريت، وهو عنصر مكوّن للأمطار الحمضية، واعترفت الشركة في عام 2016، بأنَّ خط أنابيب لنقل خامات الحديد من مصاهرها حوّل لون نهر دالديكان إلى الأحمر القاني.
يقول مورغونوف، إن الكارثة من شأنها أن تجبر روسيا، على الأرجح، على تحسين سلامة بنيتها التحتية الصناعية في المناطق القطبية، مضيفاً: "الشركات لن يعجبها ذلك التحسين، لكنه ضروري لإنقاذ المنطقة القطبية الشمالية".