طوال الأشهر الماضية، كان أحد الألغاز دائمة الحضور فيما يتعلق بفيروس كورونا هو عن السبب في كون بعض البلدان التي تشهد اكتظاظاً سكانياً من بين الأكبر في العالم وتفتقر إلى أنظمة صحية جيدة وتعج مدنها بأحياء فقيرة مزدحمة، قد تمكنت بطريقة ما، على الرغم من كل ذلك، من تجنب وطأة تفشٍّ كبير للمرض فيها، في الوقت الذي كان فيه الفيروس يتفشى في مجتمعات أغنى بدرجة كبيرة في أوروبا والولايات المتحدة.
لكن الواقع الآن، هو أن بعض تلك البلدان تعاني الأمرّين الآن في خضم اجتياح الوباء لها، وتتصارع مع الإشارات التي تذهب إلى أن معاناتها الحقيقية مع الوباء قد بدأت للتو، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
لا أحد في مأمن من هذا الفيروس
ومع أن عدد الحالات المسجلة إصابتها بفيروس كورونا ينمو الآن بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، بزيادة بلغت أكثر من 100 ألف حالة إصابة يومياً، فإن تلك الزيادة تتركز بالأساس في بلدان ذات كثافة سكانية مرتفعة ومتوسط دخل منخفض إلى متوسط، في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا وجنوب آسيا.
والأمر لا يقتصر على امتلاء المستشفيات والمقابر فحسب، إذ قضى انحدار الأوضاع في تلك البلدان على آمال القادة الذين اعتقدوا أنهم يفعلون كل شيء بطريقة صحيحة، أو الذين اعتقدوا أنهم قد يفلتون بطريقة ما من موجات اجتياح شديدة للوباء.
والحال أنه على الرغم من أن عديداً من البلدان المتضررة حديثاً يقودها رؤساء سلطويون وشعبويون، فإنهم يواجهون الآن عدواً لا يمكن التخلص منه بالاعتقالات أو الخطابات المتبجحة.
في مصر، حيث تضاعف معدل الإصابات المؤكدة الجديدة الأسبوع الماضي، أحدث الوباء توتراً بين الرئيس عبدالفتاح السيسي والأطباء الذين ثاروا على الأوضاع القائمة، بسبب نقص معدات الحماية والتدريب.
وفي البرازيل، تجاوز إجمالي عدد الوفيات 32 ألف حالة وفاة، يوم الخميس 4 يونيو/حزيران، وبلغ عدد حالات الوفيات 1349 حالة وفاة في يوم واحد، ما أشعل موجة أخرى من الانتقادات للرئيس الشعبوي، جايير بولسونارو، الذي استمر في الاستخفاف والتقليل من حجم التهديد. وقال يوم الثلاثاء: "نأسف لكل هؤلاء الضحايا، لكن الموت مصير الجميع"!
وفي بنغلاديش، فاقمت الكوارث الطبيعية التي ألمت بالبلاد من انتشار المرض. فقد ساعد إعصار "أمفان"، وهو عاصفة فتاكة اجتاحت مناطق كانت خاضعة للإغلاق هناك الشهر الماضي، في ارتفاع حالات الإصابة إلى ما يزيد على 55 ألف حالة.
وأبلغت السلطات البنغلاديشية، هذا الأسبوع، عن أول حالة وفاة مرتبطة بفيروس "كوفيد 19" في مخيم للاجئين، وهي لرجل من الروهينغا يبلغ من العمر 71 عاماً، وهو ما يعد نذير شؤم على مخاوف أوسع نطاقاً بشأن الكارثة التي قد تحل بالأشخاص الأضعف مناعة، من كبار السن وغيرهم، الذين تكتظ بهم مئات من المخيمات في دول العالم الأكثر هشاشة من جهة أنظمتها الصحية.
أنباء سيئة للزعماء السلطويين
يمثل ذلك الارتفاع في أعداد الإصابات مرحلة جديدة في مسار الفيروس، إذ يغير وجهته فيها بعيداً عن الدول الغربية التي تتجه الأوضاع فيها إلى الاستقرار بعد فترة ماضية من مواجهة الفيروس، ليتجه إلى مناطق أخرى من العالم كان كثيرون قد أملوا أن يسهم الطقس الحار وارتفاع نسب الشباب بين سكانها أو غيرها من العوامل الوبائية، في حمايتهم من الفيروس الذي أصاب أكثر من 6.5 مليون شخص وقتل ما يقرب من 400 ألف شخص حتى الآن، أكثر من ربعهم في الولايات المتحدة.
تشكل الوجهة الجديدة للوباء أنباء سيئة للقادة السلطويين والشعبويين في بعض تلك البلدان، الذين أخذوا يحصدون نقاطاً سياسية في المراحل المبكرة لانتشار الفيروس في العالم، عن طريق التسويق لمعدلات الإصابة المنخفضة في بلدانهم بوصفها دليلاً على مزايا الحكم السلطوي والقبضة الحديدية وغياب التعددية في البلاد.
على سبيل المثال، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي نُظر إلى إرساله طائرة محملة بالمساعدات الطبية إلى الولايات المتحدة في مارس/آذار باعتبارها رسالة تبجُّح، تواجه بلاده الآن ثالث أكبر تفشٍّ للفيروس في العالم، بعد أن ارتفعت حالات الإصابة إلى أكثر من 440 ألف حالة، ما أثار سخط الشعب الروسي واستياءه العام، وهبط بنسب تأييده إلى أدنى مستوى لها منذ عقدين.
أما عبدالفتاح السيسي في مصر، فقد شكَّل تفشي الفيروس تحدياً نادراً لسرديته الأثيرة عن سيطرته المطلقة على البلاد والأوضاع فيها. إذ مع أن حالات الإصابة في مصر بلغ عددها 30 ألف حالة رسمية، وهو عدد أقل بكثير من أعداد حالات الإصابة في دول عربية أخرى، مثل السعودية التي لديها ثلاثة أضعاف هذا العدد، فإن مصر لديها حتى الآن أعلى عدد من الوفيات في المنطقة ومعدلات انتشار العدوى فيها في ارتفاع.
مصر أنموذجاً للكارثة التي تنتظر هذه البلدان
يوم الأحد الماضي 31 مايو/أيار، سجلت الحكومة المصرية 1500 حالة إصابة جديدة، ارتفاعاً من مستوى لا يتجاوز 700 حالة قبلها بستة أيام فقط. وفي اليوم التالي، حذَّر وزير التعليم العالي من أن العدد الحقيقي للحالات في مصر يتجاوز 117 ألف حالة إصابة.
وتكتظ بعض المستشفيات بما يفوق بكثير طاقتها الاستيعابية، في الوقت الذي تتعالى فيه احتجاجات الأطباء على نقص المعدات الوقائية، الذي أدى بحسبهم إلى وفاة أكثر من 30 طبيباً حتى الآن. وبلغ الغضب ذروته الأسبوع الماضي، عقب وفاة الدكتور وليد يحيى، الذي كان يبلغ من العمر 32 عاماً، بعد حرمانه من العلاج الفوري في مستشفى المنيرة العام الذي كان يعمل به.
وقد أضرب زملاء يحيى من أطباء المستشفى عن العمل لمدة أسبوع؛ احتجاجاً على وفاته بهذه الطريقة. وأصدرت نقابة الأطباء بياناً اتهمت فيه الحكومة بـ"التقصير الذي يصل لدرجة جريمة القتل بالترك"، وحذرت في بيانها، من أن مصر تتجه نحو "كارثة"، وهي كلمات قوية في بلد سجن فيه السيسي عشرات الآلاف من المعارضين له.
وخلال الأسبوع الماضي، شن السيسي هجوماً في تغريدات على موقع تويتر ضد "أعداء الدولة"، دون أن يحددهم، الذين ينتقصون من جهود الحكومة لمحاربة فيروس كورونا. وكان النائب العام قد حذر في وقت سابق، من أن أي شخص ينشر "أنباء كاذبة" عن فيروس كورونا، سيواجه عقوبة السجن لمدة تصل إلى خمس سنوات.
وعندما هدد الأطباء العاملون في مستشفى منشية البكري بالإضراب، الشهر الماضي؛ احتجاجاً على نقص معدات الحماية والتدريب، تلقوا تحذيراً من مسؤولة كبيرة بالمستشفى، مفاده أن أي شخص سيمتنع عن الحضور إلى العمل في اليوم التالي، سيُبلغ عنه إلى جهاز الأمن الوطني، الذي تتهمه منظمات حقوق الإنسان بممارسة التعذيب الممنهج وغيره من الانتهاكات.
وبالتواصل مع المديرة، الدكتورة حنان البنا، عن طريق الهاتف، قالت إن الرسالة التي وجهتها للأطباء كانت جزءاً من "إجراءات تأديبية عادية"، ثم أنكرت أنها أرسلتها من الأصل. ولم يردّ متحدث باسم وزارة الصحة المصرية عن الأسئلة المتعلقة بتلك الرسالة أو ما يتعلق بغيرها من شكاوى الأطباء.
يأتي كل ذلك في وقت نشرت فيه وزارة الصحة، الأسبوع الماضي، مقطع فيديو ترويجياً يظهر فيه مصابون بفيروس كورونا في أحد المستشفيات وهم يشيدون بالرعاية التي يتلقونها وبالرئيس السيسي.
هذا، في حين أن المنشورات التي اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي، حيث نشر المرضى اليائسون أو أقاربهم مقاطع فيديو يستغيثون فيها طلباً للمساعدة، تشي بخلاف الصورة التي يعمل النظام على نشرها.
يقول خبراء إن هوس السيسي بإظهار أن نظامه قد تمكن من التغلب على الوباء، ربما شجع كثيراً من المصريين على التخلى عن حذرهم، وهي ظاهرة مشابهة لما حدث في الولايات المتحدة، حيث تقاعس كثيرون اعتماداً على تطمينات ترامب. ولسوء الحظ، فإن هذه الغفلة قد تكون لها عواقب وخيمة.
في مارس/آذار، نشر محمد نادي، وهو شاب يبلغ من العمر 30 عاماً ويعمل في فندق شيراتون بوسط القاهرة، مقطع فيديو على موقع فيسبوك، يصف فيه الفيروس بأنه فزاعة أمريكية لضرب الصين. بعد أسابيع قليلة، نشر مقطع فيديو ثانياً من المستشفى يعلن فيه إصابته بفيروس كورونا.
وظهر في مقطع ثالث بسرير المرض، وهو يعاني من أجل التنفس، قائلاً: "أنا بموت. أنا بموت". توفي "نادي" بعدها بأقل من شهر في أبريل/نيسان، قبل ثلاثة أيام من وفاة والده أيضاً من جراء إصابته بالفيروس.