تقول الحكمة: "الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام"، وهذا ما يحتاجه الليبيون في هذه المرحلة بعد قرابة 10 سنوات من الاقتتال والدمار، وقد تكون موافقة الحكومة الشرعية وميليشيا الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، على العودة لاجتماعات اللجنة العسكرية (5+5) أولى الخطوات نحو السلام.
ورغم أن هناك مَن يعارض وقف إطلاق النار بحجة أن ذلك سيكسر سلسلة انتصارات الجيش الليبي على ميليشيات حفتر بالمنطقة الغربية ويسمح لها بإعادة تعزيز عناصرها على جبهات القتال، فإن الحكومة الشرعية وضعت شرطاً ذكياً يتمثل في عودة هذه الميليشيات إلى النقاط التي انطلقت منها في 4 أبريل/نيسان 2019.
وكان هذا الشرط مرفوضاً بشكل مطلق بالنسبة لميليشيات حفتر، قبل نحو شهرين، لكنه أصبح منطقياً الآن بعد أن استعادت القوات الحكومية معظم ما خسرته قبل 14 شهراً.
لم يتبق سوى سرت
70 يوماً كانت كافية لاستعادة معظم المناطق التي سيطرت عليها ميليشيا حفتر خلال 14 شهراً، حيث تم تحرير كامل مدن الساحل الليبي من ميليشيات حفتر، بما فيها مدينتا صرمان وصبراتة (أقل من 70 كلم غرب طرابلس) وكذلك مدينة غريان (100 كلم جنوب طرابلس)، عاصمة الجبل الغربي.
والأهم من ذلك كله طرد ميليشيات حفتر عن الحدود الإدارية للعاصمة طرابلس، بعد 14 شهراً من القتال.
بل فقدت ميليشيات حفتر السيطرة على قاعدة الوطية الجوية الاستراتيجية (140 كلم جنوب طرابلس)، التي استولت عليها في 2014.
وحتى مدينة ترهونة (90 كلم جنوب شرق طرابلس)، رأس حربة حفتر في المنطقة الغربية، سقط في يد قوات حكومة الوفاق الجمعة 5 يونيو/حزيران 2020.
ولم تعد ميليشيات حفتر تحتفظ من الأراضي التي سيطرت عليها بعد 4 أبريل/نيسان سوى بمدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس)، التي سيطرت عليها في يناير/كانون الثاني 2020، بعد "خيانة" كتيبة مدخلية.
أما مدن بني وليد (180 كلم جنوب شرق طرابلس) والزنتان والرجبان (170 كلم جنوب غرب طرابلس)، فهي منقسمة، لكن مجالسها البلدية مؤيدة لحكومة الوفاق، بينما تتمركز فيها ميليشيات حفتر بأعداد كبيرة.
في حين أعلن أعيان مدينة الأصابعة (120 كلم جنوب طرابلس) تبعيتهم للحكومة الشرعية، بعد أن وصلتهم أصداء هزيمة حفتر في معركة طرابلس.
عملياً لن يخسر حفتر الشيء الكثير إذا سلّم سرت للحكومة الشرعية دون قتال، كعربون ثقة من شأنه أن يفتح المجال نحو مفاوضات تمهّد لتوحيد البلاد تحت سلطة واحدة.
لكن بالمقابل سينقذ حفتر حياة مسلحيه الذين قتل منهم المئات في شهر مايو/أيار الماضي وحده (أحصت صفحات موالية للقوات الحكومية منهم 374 اسماً من الليبيين باستثناء المرتزقة)، بل إن الناطق باسم القوات الحكومية محمد قنونو أعلن، الثلاثاء الماضي، إحصاء 48 قتيلاً من ميليشيات حفتر في يوم واحد خلال معارك جنوبي العاصمة.
فلماذا كل هذه الدماء والطاقات المهدورة؟ بعد أن أصبحت المعركة محسومة لصالح القوات الحكومية، ونتائجها واضحة لكل مراقب محايد، خاصة بعد انسحاب مرتزقة شركة فاغنر الروسية، من محاور القتال جنوبي طرابلس في 24 مايو/أيار.
كما أن الحكومة المعترف بها دولياً، بحاجة إلى السلام، وإنهاء الحرب بأقل الخسائر لأن الذين يقتلون أغلبهم ليبيون، ومعركة تحرير قاعدة الوطية الجوية (عقبة بن نافع) خير دليل على نهجها السلمي، حيث تركت ميليشيات حفتر تنسحب منها دون أن تستهدفها بطائراتها المسيرة، ودخلتها دون أن تخسر أي جندي.
فليس الهدف من الحروب قتل أكبر عدد من قوات العدو، ولكن إيصال العدو إلى مرحلة يفقد فيها الأمل بتحقيق النصر.
فوقف إطلاق النار بالتزامن مع انتصارت القوات الحكومية خاصة بعد تحرير العاصمة، يجعلها تفاوض من موقع قوة، وبإمكانها أن تأخذ بالمفاوضات ما استعصى عليها بالحرب.
بطاقة حمراء لحفتر
لكن المشكلة التي تواجه الحكومة أنه لا يوجد في المنطقة الشرقية مفاوض حقيقي، بعد أن أثبت حفتر طيلة سنوات أنه رجل غير موثوق به، والسلام العادل ليس أحد خياراته، وأفشل عدة مفاوضات وتفاهمات.
هذا ما دفع رئيس المجلس الرئاسي الليبي فايز السراج للتأكيد، الخميس، من العاصمة التركية أنقرة، وبشكل حاسم أنهم سيواصلون الكفاح "حتى نقضي على العدو تماماً"، وأن حكومته "لن تعطيهم (ميليشيا حفتر) فرصة للتفاوض بعد هذه المرحلة".
كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مؤتمره الصحفي مع السراج، شدد هو الآخر على أنه "لا يمكن لشخص (حفتر) يشكل خطراً دائماً على مستقبل ليبيا أن يجلس إلى طاولة المفاوضات الخاصة بهذا الشأن".
إلا أن المعطيات الميدانية تشير إلى أن المرحلة القادمة قد تبرز أسماء بديلة لحفتر يمكنها أن تتفاوض باسم المنطقة الشرقية.
فميليشيات حفتر في المنطقة الغربية تتهاوى وتنهار، وقد لا يطول هذا التداعي حتى يصل المنطقة الشرقية بعد الجنوب.
وحلفاء حفتر الدوليون بدأوا يضجرون من هزائمه وتعنته، وشرعوا في البحث عن بديل له، أما قبائل برقة بقيادة رئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، فصاروا يتجاسرون عليه في تحدٍّ بعد انتكاساته المتعددة، تجلى في رفضهم تفويضه حاكماً على ليبيا.
جهود دولية لتسريع عملية السلام
أول تحرك جاد باتجاه إعادة إحياء عملية السلام في ليبيا، منذ استقالة المبعوث الأممي السابق غسان سلامة، في مارس/آذار الماضي، إعلان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، الثلاثاء، قبول كل من الحكومة وميليشيات حفتر استئناف مباحثات وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية المرتبطة بها.
ولم تنسَ أن تُشير إلى أن هذه المباحثات ستتم بناءً على مسوّدة الاتفاق التي عرضتها البعثة على الطرفين خلال محادثات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في 23 فبراير/شباط الماضي، رغم أن الأحداث على الأرض تغيرت كثيراً منذ ذلك التاريخ.
والخميس، استقبل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رئيس المجلس الرئاسي الليبي فايز السراج، وبحث معه عدة مواضيع بينها "التطورات الدبلوماسية والسياسية المتعلقة بوقف إطلاق النار".
وتزامن ذلك مع زيارة أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي رفقة وزير خارجيته محمد الطاهر سيالة، إلى العاصمة الروسية موسكو، منذ الأربعاء، حيث بحثا ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف استئناف المفاوضات ووقف إطلاق النار إلى جانب قضايا أخرى.
وسبق هذه الزيارة بيومين لقاء معيتيق مع السفير الأمريكي ريتشار نورلاند، للتشاور بشأن العودة إلى العملية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة.
وعلى الطرف الآخر، زار حفتر القاهرة للتباحث بشأن الأوضاع في ليبيا، عقب زيارة لعقيلة صالح، قالت قناة "فبراير" الليبية إنها جاءت عقب رفض الأخير لقاء حفتر.
فمعسكر حفتر يعاني من تصدعات داخلية، وتحاول القاهرة رأب الصدع بين الطرفين، قبل انهيار مشروع الجنرال الانقلابي بالكامل.
وأمام هذه التطورات الميدانية، وكثافة النشاط الدبلوماسي الدولي، وفشل الخيار العسكري لحفتر في اقتحام طرابلس، وصعوبة سيطرة القوات الحكومية قريباً على المنطقة الشرقية، يصبح "الخيار السياسي" الأقرب إلى الواقع، لكن دون إيجاد بديل لحفتر، قد تصبح المفاوضات مجرد مضيعة للوقت، قد يستغلها حفتر لتقسيم البلاد في ظل عجزه عن السيطرة على المنطقة الغربية.