مع استمرار الاحتجاجات والعنف في جميع أنحاء الولايات المتحدة، انطلق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفريقه إلى العمل. لكن هذا العمل لم يكن عملاً على معالجة الأزمة التي يعانيها الشعب الأمريكي ولا إعلاناً عن إصلاحات تشتد الحاجة إليها، وإنما قرر ترامب بدلاً من ذلك، التحرك للاستفادة من "الدماء المهدورة" لتحقيق مكاسب سياسية لنفسه، كما يقول موقع CNN الأمريكي.
كانت الأزمة الحالية اندلعت عقب مقتل جورج فلويد، وهو أمريكي من أصول إفريقية تُوفي وهو بين يدي الشرطة بعد أن وطأ ضابط على رقبته بركبته لما يقرب من 9 دقائق، في الوقت الذي أخذ فيه فلويد يتوسل المساعدة. والحق أن لحظة كهذه، تستدعي تدخل الرئيس لمعالجة الأمور، لكن هذا صعب على ترامب، الذي يحمل تاريخه الخاص من العنصرية، مع عشرات من التعليقات والتصريحات المؤججة للعنصرية والمحرضة عليها على مدار عقود.
تأجيج الأزمة وإثارة نظريات المؤامرة
ومن ثم، بدلاً من التهدئة، عمد ترامب إلى تأجيج الأزمة وتحويلها إلى سلاح يستغله، بإلقائه اللوم على خصومه السياسيين وإثارة نظريات المؤامرة، في محاولة واضحة لتعزيز فرص إعادة انتخابه في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
هذا التأجيج وتسليح الأزمة لاستغلالها شاهده الجميع يوم الإثنين 1 يونيو/حزيران، عندما هدد ترامب في خطابه بشن حملة عسكرية، في الوقت الذي أخذت فيه الشرطة تفرق الاحتجاجات السلمية التي كانت تجري بالقرب من البيت الأبيض، لتمهيد الطريق أمام ترامب لالتقاط صورة رئاسية أمام كنيسة سانت جون القريبة. وبعد فترة وجيزة من إطلاقه العنان للشرطة لاستخدام الغاز المسيل للدموع والخيول والرصاص المطاطي في مواجهة الحشد السلمي، قال ترامب إنه "حليف لجميع المتظاهرين السلميين".
حض الدولة على ممارسة العنف
وفي وقت سابق من اليوم، حضَّ ترامب حكام الولايات بحدة على استهداف المتظاهرين في ولاياتهم بعدوانية أكبر. وقال إن عليهم "فرض سيطرتهم" على المتظاهرين، لقمع اندلاع أعمال العنف.
وعلى مدار عدة أيام، استعان ترامب بخطاب استفزازي محرضاً فيه مؤسسات الدولة على ممارسة العنف تجاه المتظاهرين. وعبر تويتر، حثَّ الشرطة على "التصرف بحزم والقتال"، وهدد بإطلاق "كلاب شرسة" على المتظاهرين بالقرب من البيت الأبيض، داعياً إلى "مزيد من الاعتقالات" للمحتجين. والأدهى استعارته لعبارة "عندما يبدأ النهب، يبدأ إطلاق النار"، التي استخدمها قائد شرطة في حقبة الستينيات من القرن الماضي، والذي كان مشهوراً بتحريضه على حملات القمع العنيفة من الشرطة.
تحميل المسؤولية للخصوم وصنع عدو جديد
بحسب ترامب، فإن العنف الحالي أثاره مسؤولون ديمقراطيون وحركة "أنتيفا" اليسارية المتطرفة، وحتى نائب الرئيس السابق جو بايدن. وقد استدعى حكام الولايات ورؤساء البلديات الديمقراطيين الذين تشهد مدنهم الجزء الأكبر من تلك الاحتجاجات. وأمر الأمريكيين بألا "يلقوا باللوم على الآخرين"، وعلى حين فجأة، ادعى بلا سند أن أصحاب العرق الأبيض المتفوق "لا يتورطون" في العنف.
وفي مؤتمر صحفي مليء بالمعلومات المغلوطة خلال عطلة نهاية الأسبوع، قدَّم وزير العدل الأمريكي بيل بار جزيل المساعدة لترامب، بادعائه بأن الاضطرابات كانت بدرجة كبيرة "مخططة، ومنظمة ويقودها أناركيون ويساريون متطرفون، يستخدمون تكتيكات مشابهة لتكتيكات منظمة (أنتيفا) اليسارية". وقد يكون هذا صحيحاً في أجزاء منه، لكنه بعيد أشد البعد عن الصورة الكاملة، كما تقول CNN.
تحريف الحقائق أو إخفاؤها
على الجانب الآخر، فإن شبكة CNN أوردت في تقرير لها يوم الأحد 31 مايو/أيار، أن سلطات تطبيق القانون الفيدرالية على وعي بأن هناك مجموعات منظمة من مختلف الأطياف السياسية تعمل على استغلال الفوضى. وكما تشمل هذه المجموعات منظمة "أنتيفا" اليسارية، فإنها تشمل أيضاً مجموعات يمينية تدعم تحركات مناهضة للنخبة الحاكمة وتحمل إيديولوجيات تفوق العرق الأبيض.
وقد اعترف السيناتور ماركو روبيو، وهو سيناتور جمهوري بارز في لجنة الاستخبارات لمجلس الشيوخ، بأن بعض الجماعات اليمينية تحرض وتمارس العنف، خاصة أعضاء "حركة بوغالو"، وهي مجموعة يمينية متطرفة ناشئة تسعى إلى إشعال حرب أهلية في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن تلك الحقائق لا تواتي أهداف الرئيس. وقد أثار خطابه هو نفسه دعاة نظريات المؤامرة والمجموعات التي تنتهجها على مر السنوات الماضية، والتي يعود تاريخ بعضها إلى دعمه لحركة "نظريات المؤامرة المتعلقة بجنسية الرئيس السابق باراك أوباما"، وليس آخرها إعادة نشره لتغريدات مؤيدي "كيو أنون" QAnon [نظرية مؤامرة من ابتداع اليمين الأمريكي المتطرف، تتبنى الاعتقاد بنظرية سرية مزعومة حول مؤامرة من "الدولة العميقة" والنخب الديمقراطية الأمريكية على ترامب]. أي إن ترامب وجد لنفسه قضية وهدفاً مشتركاً مع هذه المجموعات، وبات يعتبرها جزءاً من قاعدته.
انتزاع أي مصالح خاصة من الأزمة
وربما لهذا السبب، قفز إلى استنتاجات تناسب روايته المعدة سلفاً، ويحاول انتزاع أي مصالح سياسية له من هذه الأزمة، بغض النظر عن عدد الأمريكيين الذين تعرضوا للضرر منها. على الجانب الآخر، فإن سياسيين من كلا الطرفين، الديمقراطي والجمهوري، أدانوا بسرعة تصرفات ترامب يوم الإثنين.
وهكذا رأينا تشارلي بيكر، حاكم ولاية ماساتشوستس الجمهوري، يقول في مؤتمر صحفي عقده الإثنين: "في مرات كثيرة خلال الأسابيع العديدة الماضية، عندما كانت البلاد في أمس الحاجة إلى إبداء التعاطف وأخذ زمام القيادة، لم يجد الناس ذلك. بدلاً من ذلك، وجدنا إثارة الضغائن والعدائية والسعي وراء المصالح الذاتية".
ولم تكن هذه المرة الأولى التي يخالف فيها بعض الجمهوريين الإجماع حول ترامب، ويخرجون من بين صفوفه ليدينوا تعامله مع الخلافات العرقية. لكن على ما يبدو فإن ترامب عازمٌ على الخوض أكثر فأكثر في تأجيج الأزمة وتحويلها إلى سلاح لمصلحته.