"مقتل مواطن أمريكي من أصل إفريقي على يد رجل شرطة أبيض".. ليس خبراً شاذاً أو حادثاً فردياً في الولايات المتحدة، فالعنصرية داخل المجتمع الأمريكي أحد أبرز سمات القوة الأكبر في العالم منذ نشأتها، ولم يؤدِّ وصول باراك أوباما الأمريكي من أصل إفريقي لتغيير حقيقي، بل ربما العكس هو ما حدث، فما المختلف في جريمة قتل جورج فلويد؟ وهل تكون العنصرية بداية النهاية للعصر الأمريكي؟
تغيرت الظروف منذ وصول ترامب للبيت الأبيض
كثير من المراقبين والحقوقيين الأمريكيين رأوا في وصول باراك أوباما لمنصب الرئيس الأمريكي عام 2009 وفوزه بفترتين رئاسيتين حتى 2016 نهاية العنصرية بشكل نهائي لا رجعة فيه، فها هو مواطن من أصل إفريقي يسكن البيت الأبيض، لكن الأحداث على الأرض في السنوات الأربع الماضية تثبت أن هذا التقييم أقرب للأمنيات منه للقراءة الصحيحة للواقع على الأرض.
بداية لابد من التوقف عند انتخاب دونالد ترامب خليفة لأوباما من ناحية دلالات هذا الاختيار، فشخصية الملياردير الأبيض صاحب التاريخ الطويل من التصريحات العنصرية تجاه المرأة والأقليات العرقية لم تكن أمراً غامضاً أو مخفياً قبل انتخابه، فترامب صاحب أشهر برامج تلفزيون الواقع على مدار عقود ليس شخصية سياسية لها تاريخ معروف أو إنجازات أو انحيازات يمكن مناقشتها، بل هو شخصية شعبوية تنتمي لليمين المتطرف المنادي بسيطرة وتفوق الرجل الأبيض.
وقد رصدت عشرات الدراسات والأبحاث التي أجرتها المؤسسات البحثية الأمريكية والدولية ارتفاعاً هائلاً في "جرائم الكراهية"، وهو مصطلح يعني قيام مواطن أبيض بالاعتداء على مواطن من أصل إفريقي أو لاتيني أو ينتمي لأي أقلية أخرى، وهذه الاعتداءات تشمل التحرش اللفظي أو السخرية وصولاً إلى القتل، ورصد تقرير نشرته قناة ABC 54 جريمة كراهية ذكر فيها المجرم قولاً أو تصريحاً أو وصفاً لترامب نفسه، رغم إصرار الرئيس على تحمّل اللوم عن تلك الجرائم.
ولم يرصد تقرير ABC أي جريمة كراهية في محكمة محلية أو فيدرالية تربط بين أوباما أو جورج بوش الابن ومرتكب الجريمة، في إشارة واضحة إلى الدور الذي لعبه ترامب في ارتفاع نسب جرائم الكراهية والعنصرية في الولايات المتحدة لتصل إلى مستويات لم تحدث منذ أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، عندما تعرض المواطنون المسلمون لحملة من جرائم الكراهية، بعد اعتراف تنظيم القاعدة بتنفيذ الهجمات الإرهابية التي قتلت نحو 3000 أمريكي.
هل يعني هذا أن العنصرية جديدة على أمريكا؟
لكن إلقاء اللوم على الرئيس ترامب في تأجيج جرائم العنصرية في الولايات المتحدة ليس فقط تسطيحاً للأمور، لكنه أيضاً تجاهل لحقائق الحاضر والماضي القريب والبعيد للقوة الأكبر عالمياً، فنشأة البلاد نفسها شهدت واحدة من الجرائم العنصرية الأبشع في تاريخ البشرية، حيث تمت إبادة الهنود الحمر وهم السكان الأصليين في الولايات الأمريكية على أيدي المهاجرين القادمين من أوروبا بحثاً عن حياة أفضل في العالم الذي كان جديداً وقتها.
وتاريخ تعامل المهاجرين الأوروبيين مع السكان الأصليين ليس محلاً للجدال أو الرفض، حيث أصبح جزءاً من التاريخ الأمريكي، لكن قصة العنصرية في أمريكا لم تنتهِ مع إبادة السكان الأصليين، بل بدأ فصل جديد منها وهو فصل العبودية، حيث تم جلب الملايين من سكان إفريقيا بغرض تعمير العالم الجديد وكانوا يعملون كعبيد لدى السادة من العرق الأبيض.
وقصة العبودية في الولايات المتحدة استمرت قروناً في ظل الاستعمار البريطاني والفرنسي لأمريكا الشمالية، ثم جاء إعلان استقلال الولايات المتحدة الأمريكية عن الإمبراطورية البريطانية ووضع "وثيقة الاستقلال" التي تمثل للسياسيين الأمريكيين حتى اليوم مصدراً للفخر والاعتزاز على أساس أنها "أعظم وثيقة للمساواة والحرية" في التاريخ الحديث، وكان ذلك عام 1776، أي قبل أكثر من قرنين ونصف، لكن مرة أخرى يثبت الواقع أن تلك المساواة ليست سوى "دعاية أمريكية" تخالف الواقع.
فاليوم الإثنين الأول من يونيو/حزيران 2020، تشهد غالبية المدن والولايات تظاهرات حاشدة احتجاجاً على مقتل جورج فلويد المواطن الأمريكي من أصل إفريقي على أيدي رجل شرطة أبيض هو ديريك شوفين في مينسيوتا، بعد أن وضع شوفين ركبته على رقبة فلويد المنبطح أرضاً لأكثر من 9 دقائق بينما ثلاثة من زملاء شوفين يشاهدون الموقف، وسط تضرعات فلويد: "لا أستطيع التنفس"، وبعد أن لفظ المواطن من أصل إفريقي أنفاسه في المستشفى، وثارت الاحتجاجات يواجه شوفين ورفاقه الثلاثة تهمة "القتل من الدرجة الثالثة"، وعقوبتها القصوى طبقاً لقانون ولاية مينيسوتا هي 25 عاماً في السجن في حالة وجود حوادث سابقة من استخدام العنف المفرط من جانب المتهمين.
مقتل مارتن لوثر كنج
وما بين توقيع وثيقة الاستقلال التي جاء نص السطر الأول فيها "كل الرجال خلقوا أحراراً" وبين ما يحدث اليوم، يوجد تاريخ طويل وممتد من العنصرية متجذراً في الثقافة الأمريكية، بحيث لا يمكن النظر إلى مقتل فلويد على أنه "حادث فردي".
فبعد أن حصلت الولايات المتحدة الأمريكية على استقلالها بالفعل عن التاج البريطاني عام 1783، اشتعلت الحرب الأهلية الأمريكية عام 1861 واستمرت حتى 1865 بين الولايات الشمالية ونظيرتها الجنوبية وكان سببها هو العبودية، فولايات الشمال أرادت إلغاء العبودية والجنوبية رفضت ذلك، وانتهت الحرب بانتصار ولايات الشمال فكان منطقياً أن تنتهي العبودية في أرض الأحرار، وهو ما حدث بالفعل -على الأقل من الناحية القانونية- لكن العنصرية لم تنتهِ بل أخذت أشكالاً أخرى.
فبعد قرنين من انتهاء الحرب الأهلية، شهدت الولايات المتحدة اغتيال أبرز زعماء الأمريكيين الأفارقة مارتن لوثر كنج في 4 أبريل/نيسان 1968، وكانت كل جريمته هو نشاطاته لمحاربة التمييز العنصري في أمريكا التي كانت وقتها تقود المعسكر الغربي "الديمقراطي الحر المنادي بحقوق الإنسان والمساواة" في مواجهة المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي وهو المعسكر الشيوعي القمعي غير الديمقراطي.
العنصرية في الولايات المتحدة الأمريكية إذن ليست وليدة وصول ترامب للحكم، كما أنها لم تنتهِ أو حتى تختفِ بوصول أوباما للبيت الأبيض، والمؤكد أن تلك العنصرية لم تمنع أمريكا من أن تكون إحدى القوتين الأعظم بعد الحربين العالميتين، ثم تقود العالم منفردة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي قبل أكثر من ثلاثة عقود، فما الذي يمكن أن يكون مختلفاً الآن بحيث يراه البعض بداية النهاية للهيمنة الأمريكية على العالم؟
الانقسام الداخلي
الإجابة عن هذا السؤال تتمثل في العوامل الداخلية والظروف الدولية، وكلاهما شهد تطورات تجعل من استمرار هيمنة أمريكا على العالم منفردة أمراً شبه مستحيل في السنوات القليلة المقبلة، بغض النظر عن فوز ترامب بفترة رئاسية ثانية أو وصول منافسه الديمقراطي جو بايدن للمنصب.
داخلياً نجد أن الاستقطاب بين المعسكر الأبيض -إن جاز التعبير- أو بمعنى أكثر دقة معسكر اليمين المتطرف الذي يقف خلف ترامب من ناحية ومعسكر اليسار من ناحية أخرى قد وصل لدرجة الغليان بصورة واضحة، بحيث يمكن القول إن المشاعر الوطنية أو القومية والفخر الوطني الذي استغله الساسة الأمريكيون على مدار القرون الماضية قد أصبح "سلعة مستهلكة" بالنسبة لكثيرين وليس فقط أبناء الأقليات سواء من الأفارقة أو اللاتينيين أو المسلمين والعرب.
وفي هذا السياق تأتي شراسة الاحتجاجات الحالية وسرعة اتساع رقعتها وقلة حيلة إدراة ترامب في احتوائها، وقد نشرت شبكة CNN اليوم تقريراً بعنوان "احتجاجات جورج فلويد تنتشر في عموم البلاد" ألقى الضوء على تصاعد الاحتجاجات، التي لم يردعها الخوف من عدوى وباء كورونا الذي قتل أكثر من 106 آلاف أمريكي -أي أكثر من ضعف عدد قتلى الولايات المتحدة في حرب فيتنام- وأصاب ما يقرب من المليونين، أي أقل قليلاً من ثلث عدد الإصابات حول العالم، وهذا في حد ذاته دلالة على مدى الاحتقان داخل المجتمع الأمريكي بعد أقل من أربع سنوات من وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
لكن النقطة اللافتة أكثر في تلك الاحتجاجات -ربما أكثر من العنف وحوادث السلب والنهب- هي الاحتجاجات المضادة من جانب أنصار اليمين المتطرف، أي وجود مواطنين في مواجهة مواطنين وهي إشارة على وصول الاستقطاب والانقسام داخل المجتمع الأمريكي إلى نقطة خطيرة تنذر باندلاع حرب أهلية، وهذا ليس تحليلاً افتراضياً ولا متطرفاً، ففكرة الحرب الأهلية نفسها ترددت على لسان ترامب أكثر من مرة، وكان آخرها في سبتمبر/أيلول الماضي حين هدد بأن "البلاد ستشهد حرباً أهلية حال عزله الكونغرس".
تراجع قوة الاقتصاد الأمريكي عالمياً
اكتسبت الولايات المتحدة وضعها عالمياً بشكل أساسي من قوة اقتصادها وذلك منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم، وربما تكون نقطة التفوق الكاسح هذه هي أيضاً المؤشر الأبرز على تراجع الهيمنة الأمريكية عالمياً بصورة متسارعة في السنوات القليلة الماضية، وتتضح هذه النقطة أكثر بمقارنة الاقتصاد الأمريكي مع نظيره الصيني، باعتبار أن الصين هي المنافس الأقرب لواشنطن.
الفجوة بين الاقتصادين كانت شاسعة قبل 10 سنوات فقط، حيث كان الناتج الإجمالي للاقتصاد الأمريكي يقترب من 30% من الناتج الإجمالي العالمي، بينما لم تكن الصين المنافس المباشر لأمريكا وإنما كان الاتحاد الأوروبي.
لكن بنهاية العام الماضي، تغيرت المعطيات بشكل لافت لصالح الاقتصاد الصيني الذي أصبح المنافس المباشر لنظيره الأمريكي، حيث تراجعت نسبة الناتج المحلي الأمريكي عالمياً إلى نحو 24% فقط في مقابل أكثر من 15% للناتج المحلي الصيني، ومع تداعيات جائحة كورونا التي أصابت الاقتصاد الأمريكي بضربة قاصمة، من المتوقع أن تقل الفجوة أكثر بين الاقتصادين لما دون 5 تريليونات دولار عام 2023، بعد أن كانت أكثر من 7.5 تريليون بنهاية العام الماضي، والحديث هنا عن الناتج المحلي لكل منهما على أساس سنوي.
لكن العام الماضي شهد صعود الصين للمركز الأول عالمياً بحساب القوة الشرائية الإجمالية على أساس سنوي، حيث بلغت تلك القوة أكثر من 27 تريليون دولار في الصين، بينما بلغت 21 تريليون دولار فقط بالنسبة للولايات المتحدة، وهو تغيير جذري حدث في سنوات قليلة.
عوامل خارجية
العنصر الثالث الذي ربما يجعل من جريمة مقتل فلويد العنصرية بداية النهاية للهيمنة الأمريكية حول العالم يتمثل في تغير المشهد الدولي بصورة واضحة، وبالأخص ظهور الصين على الساحة الدولية كلاعب راغب ليس فقط في منافسة واشنطن بل في إزاحتها عن العرش.
والمقارنة بين الدولتين في هذا التوقيت لا يبدو أنها تصب في صالح الولايات المتحدة، على الأقل ليس في جميع المجالات، فمن ناحية القوة البشرية لا يوجد وجه للمقارنة بين الصين التي يبلغ تعدادها نحو مليار و480 مليون نسمة (أقل قليلاً من خمس سكان العالم مجتمعين) وبين الولايات المتحدة التي يبلغ تعدادها 340 مليوناً فقط.
العدد في حد ذاته لا يعني الكثير بالطبع، فدولة مثل الهند تقترب في تعدادها السكاني من الصين، لكن اقتصاد نيودلهي يأتي في ترتيب متأخر عن الاقتصاد الألماني مثلاً رغم أن سكان ألمانيا أقل من 84 مليون نسمة فقط، لكن التعداد الهائل للصين يحمل دلالة مهمة في ظل قوة الاقتصاد الصيني ومتانته ونموه المتواصل، إضافة إلى التقدم التكنولوجي والعلمي والصحي للصين، ما يجعل تلك القوة البشرية الهائلة قيمة مضافة أساسية في أي صراع قادم.
الولايات المتحدة تتفوق عسكرياً بلا شك من ناحية التسليح، لكن الصين أيضاً دولة نووية تمتلك أضخم جيش تقليدي على وجه الأرض، وفي كل الأحوال تعتبر الجيوش -في ظل امتلاك الدولتين سلاحاً نووياً- أداة للضغط وليست للحسم في ظل استبعاد المواجهة العسكرية؛ لأنها ببساطة لو حدثت لن يكون هناك فائز ومهزوم، بل ستكون نهاية الحضارة البشرية الحالية.
وربما يكون الإعلام هو نقطة التميز الأبرز لأمريكا بحكم انتشار منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر – وهي منصات أمريكية أو شركات يقودها أمريكيون- لكن لم تعد تلك السيطرة الإعلامية أمريكية مطلقة، بعد أن أصبحت لدى بكين آلة إعلامية قوية ومؤثرة كشفت عن نفسها بوضوح في معركة الوباء الحالية، وفي هذا الصدد يمكن أخذ التغطية الإعلامية الصينية لقضية مقتل فلويد والاحتجاجات التي تصاحبها حالياً كنموذج للتحول الصيني من سياسة عدم التدخل في شؤون الآخرين والانعزال إلى سياسة الهجوم والسخرية مما يحدث.
ويتضح هذا من التغطية المكثفة لوسائل الإعلام الصينية -التي يتحكم فيها الحزب الشيوعي الحاكم بصورة مطلقة- لأحداث المظاهرات في أمريكا ومن قبلها إدارة معركة الوباء، كما أن كبرى الصحف الصينية الناطقة باللغة الإنجليزية تكاد تكرّس كل مواضيعها لتغطية "العنصرية العفنة" في الولايات المتحدة و"ازدواجية المعايير والنفاق" التي تتميز بها السياسات الأمريكية.
كل هذه العوامل وغيرها كثير بالطبع تجعل من جريمة قتل عنصرية تتكرر كثيراً في الولايات المتحدة منذ نشأتها حتى اليوم حدثاً مختلفاً في تداعياته هذا المرة، وربما لا تكون مبالغة إذا قلنا إن مقتل فلويد ربما يمثل بداية النهاية لعصر الهيمنة الأمريكية على شؤون العالم.