ينتظر خليفة حفتر الآن مصيره الذي سيقرره داعموه في ضوء فشله الذريع في إسقاط الحكومة الشرعية في طرابلس، لكن يبدو أن هذه النقطة ليست سوى قمة جبل الجليد، فالأمم المتحدة تحت أيديها الآن تحقيق يكشف بالأدلة تورُّط أبوظبي في تأجير مرتزقة من شتى دول العالم للقتال بجانب ميليشيات شرق ليبيا، فما قصة ذلك التحقيق؟ وماذا يوجد فيه من أدلة؟
صحيفة NEW York Times الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "المرتزقة تدفّقوا على ليبيا بحراً وجواً، لكن الخطة لم تسِر على النحو المطلوب"، ألقى الضوء على أسباب فشل هجوم حفتر على طرابلس رغم الدعم المقدم له من جانب دول إقليمية وقوى دولية واستقدام مرتزقة من شتى دول العالم للقتال بجانبه.
مهمة انتهت قبل أن تبدأ
قاد اثنان من الضباط السابقين في مشاة البحرية البريطانية زوارقهما المطاطية العسكرية لعبور البحر المتوسط من مالطا. ووصلت ست مروحيات من بوتسوانا بأوراقٍ مُزوّرة، في حين وصلت بقية أفراد الفريق من منطقة انطلاق في الأردن، وهم مرتزقةٌ من جنوب إفريقيا وبريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة.
ولمن يُهمه السؤال، فقد قال المرتزقة الذين تسلّلوا إلى ميناء بنغازي الليبي في قلب الحرب، الصيف الماضي، إنّهم جاؤوا لحماية مرافق النفط والغاز، لكن محقّقي الأمم المتحدة اكتشفوا لاحقاً أنّ مهمتهم كانت تنطوي على القتال إلى جانب قوات القائد الليبي خليفة حفتر خلال هجومه الشامل على العاصمة طرابلس، والذي من المفترض أن يُدفع لهم 80 مليون دولار مقابله.
لكن الأوضاع ساءت سريعاً، إذ اندلع خلافٌ مع الزعيم المزاجي سيئ السمعة حفتر بسبب جودة الطائرات، وفي الثاني من يوليو/تموز بعد أربعة أيامٍ فقط في ليبيا، هرع المرتزقة إلى زوارقهم السريعة وانطلقوا إلى عرض البحر باتجاه بر الأمان في مالطا.
ورغم قصر عمر المهمة الفاسدة، لكنّها تُعبّر بجلاء عما يحدث في الصراع الليبي، حيث خلق الرعاة الأجانب النافذون -خاصةً الإمارات وروسيا ومصر وتركيا – مرتعاً مُربحاً للمُهرّبين وتجار الأسلحة والمرتزقة وغيرهم من المستفيدين الذين انتهكوا حظر الأسلحة الدولي دون خوفٍ من العواقب.
وتكتسب ليبيا جاذبيتها القوية نتيجة المزيج بين الثروة النفطية وبين مستويات القتال المتفاوتة، وبوصول المرتزقة الروس والسوريين والسودانيين والتشاديين والغربيين للمشاركة في القتال، باتت تتميّز عن غيرها بكونها حرب مرتزقة ضد مرتزقة، لدرجة أنّ أبناء نفس الدولة يُحاربون بعضهم بعضاً كما في حالة السوريين.
إذ قال وولفرام لاشر، خبير الشؤون الليبية في مؤسسة German Institute for International and Security Affairs البحثية: "إنّها مُستباحةٌ للجميع، حيث يجلب الجميع المزيد من مُختلف أنواع الأسلحة والمقاتلين إلى داخل ليبيا دون رادع، مع وجود السوريين على جبهتي القتال".
أسلحة وأموال ومقاتلون أجانب
غرقت ليبيا، الدولة الغنية بالنفط ذات الكثافة السكانية المنخفضة، في مستنقع الفوضى منذ الإطاحة بديكتاتورها السابق العقيد مُعمّر القذافي على يد تحالفٍ مدعوم من الولايات المتحدة عام 2011، وأسفرت محادثات السلام عن تشكيل حكومةٍ بدعمٍ من الأمم المتحدة في طرابلس، وهي حكومةٌ هشّة لدرجة أنّ حفتر يسعى للإطاحة بها.
ومنذ الهجوم الأول عام 2014، حصل حفتر على دعم مجموعةٍ من القوات الأجنبية، فخلال العام الماضي، شحذ جيش مجموعة فاغنر الخاص المدعوم من الكرملين هجومه الواهن على طرابلس، لكن تركيا انضمت إلى المعركة دعماً لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً في طرابلس في يناير/كانون الثاني، وأدخلت حملة حفتر في حالةٍ من الفوضى، كما أفادت وكالة Reuters البريطانية بأنّ كتيبةً كبيرة من المقاتلين الروس انسحبت بأسلحتها من الخطوط الأمامية جنوب العاصمة خلال نهاية الأسبوع، ونُقِلت جواً على متن ثلاث طائرات إلى واحدٍ من معاقل حفتر، وسوف يُحدّد الرعاة الأجانب النافذون خطوة حفتر التالية على الأرجح.
وعكفت شبكةٌ من الشركات السرية في الإمارات العربية المتحدة على تنظيم وتمويل حملة المرتزقة التي باءت بالفشل الصيف الماضي، بحسب تقريرٍ سرّي قُدِّم إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في فبراير/شباط، ويُسيطر على تلك الشركات أو يمتلكها جزئياً رجل الأعمال الأسترالي والطيار الحربي السابق كريستيان دورانت، الذي يُعَدُّ من الشركاء المقرّبين لإريك برينس، أبرز رواد الأعمال الأمريكيين في مجال المرتزقة.
ورغم أنّ علاقة برينس المقرّبة بإدارة ترامب تعرّضت لتدقيق الكونغرس في السنوات الأخيرة، لكنّه أرسل قوات ميليشيا خاصة لمحمد بن زايد، ولي عهد الإمارات وحاكمها الفعلي وأكبر الرعاة الأجانب لحرب حفتر في ليبيا.
ويبحث مُحقّقو الأمم المتحدة في ما إذا كان برينس قد أدّى دوراً في عملية المرتزقة الفاشلة، رغم أنّ المتحدّث باسم برينس قال إنّه "لا شأن له على الإطلاق بأيّ عمليةٍ عسكرية خاصة مزعومة في ليبيا".
في حين قال شون ماكفيت، المقاول العسكري الخاص السابق والزميل البارز في مؤسسة Atlantic Council البحثية: "تُمثّل ليبيا دراسة حالة لشخصية الحرب المُتغيّرة، إذ ننظر للحرب عادةً على أنّها عمليةٌ سياسية، لكنّها أثبتت كونها تجاريةً أيضاً في ليبيا، إذ تجد أولئك المحاربين من أجل المال في كل مكانٍ هناك ومن مختلف الجنسيات، يشنّون نوعية الحروب التي تحدّث عنها مكيافيلي في القرن الـ16".
"أيّ شيء، في أيّ وقت، وأيّ مكان"
أُنزِلَ فريق المرتزقة المُكوّن من 20 شخصاً في بنغازي خلال شهر يونيو/حزيران، وكان يقوده ضابط سلاح الجو الجنوب إفريقي السابق ستيف لودج، الذي خدم أيضاً في الجيش البريطاني وعمل مقاولاً عسكرياً خاصاً في نيجيريا.
أما الآخرون فكانوا من العسكريين السابقين أيضاً -11 جنوب إفريقي، وخمسة بريطانيين، وأستراليّان، وأمريكي- وكانت مهمتهم تنطوي على منع شحنات الأسلحة التركية من الوصول إلى حكومة طرابلس بحراً.
وقال مُحقّقو الأمم المتحدة إنّ الخطة كانت تنُصّ على تشكيل قوةٍ ضاربة من مشاة البحرية، باستخدام الزوارق السريعة والمروحيات الهجومية التي تحُط على السفن التجارية لتفتيشها، ويعتقد المُحقّقون أنّ قوة مشاة البحرية كانت جزءاً من عمليةٍ أكبر تضمّنت كذلك قوات كوماندوز تُراقب وتُدمّر أهداف العدو.
وكانت وكالة Bloomberg الأمريكية هي أول من نقلت أنباء تحقيق الأمم المتحدة، قبل أن يُطلِع ثلاثة من المسؤولين المُطّلعين على التحقيق صحيفة New York Times على محتوياته ويُقدّموا نسخاً من وثائقه، لكنّ أولئك المسؤولين تحدثوا شريطة عدم الكشف عن هويتهم؛ لأنّهم غير مُخوّلين بالتحدّث إلى وسائل الإعلام.
ووصلت المروحيات الست من جنوب إفريقيا، قبل أن تُنقل بالشاحنات إلى المطار الدولي في غابورون ببوتسوانا، ورغم غلاف السرية خلّفت العملية وراءها سلسلةً طويلة من الأدلة، بدءاً من الصور المنشورة على الإنترنت بواسطة صحيفة The Botswana Gazette البوتسوانية لثلاث مروحيات سوبر بوما مُحمّلة فوق الشاحنات التي تنقلها على الطريق السريع.
وحُمِّلت المروحيات إلى طائرات الشحن التي تعود ملكية إحداها إلى شركة SkyAviaTrans الأوكرانية التي استعارت شعارها من شركة طيران تعود إلى وكالة الاستخبارات المركزية في حقبة حرب فيتنام، وهو "أيّ شيء، في أيّ وقت، وأيّ مكان، بكل احترافية"، وورد اسم شركة الطيران في تقرير الأمم المتحدة العام الماضي حول نقل المعدات العسكرية إلى ليبيا.
ونصّت وثائق الرحلة الجوية على أنّ الأردن هي وجهة الطائرات، لكنّها حطّت في مطار بنغازي بالقرب من المقر الرئيسي لحفتر في شرقي ليبيا، وكانت الزوارق السريعة المطاطية صلبة الهيكل، من النوع الذي تستخدمه القوات الخاصة عادةً، مستأجرةً من تاجر الأسلحة المالطي المُرخّص جيمس فينيش.
وتفاوض القائد لودج على تلك الصفقات، ولكن التعاقد وتسديد قيمتها كانت مهمة مختلف الشركات التي يُوجد مقرها في دبي ويُسيطر عليها دورانت بالكامل أو جزئياً، وشركة Lancaster 6 هي واحدةٌ منها، إذ إنّها جزءٌ من شبكة شركات تحمل الاسم نفسه في مالطا، والإمارات، وفيرجين آيلاندس البريطانية. ويحتوي موقع الشركة على الجملة التالية: "الرخاء يُولّد السلام".
أما شركة Opus Capital Asset فتُديرها سيدة الأعمال البريطانية البارزة في دبي أماندا كيت بيري، التي تُروّج لرائدات الأعمال واحتفت بها مجلة Emirates Woman الإماراتية بوصفها واحدةً من "الحالمات" لعام 2019. وحين تواصلنا مع لودج هاتفياً، استخدم كلمةً بذيئة لرفض الاتّهامات بانتهاك حظر الأسلحة، قبل أن يُغلق الهاتف، في حين رفضت أماندا التعليق حين تواصلنا معها هاتفياً.
كما أنكرت المتحدّثة باسم دورانت النتائج التي توصّلت إليها الأمم المتحدة حول مهمة ليبيا، واصفةً إياها بأنّها "غير واقعية ومُضلّلة بكل بساطة"، ورفضت الرد على المزيد من الأسئلة.
الخطة تسير على نحوٍ خاطئ
في بنغازي، غضب حفتر لأنّ المرتزقة وصلوا بطائرات قديمة -وصفها أحد المسؤولين بأنّها "مروحيات مُتهالكة"- بدلاً من الطائرات الأكثر قوة التي وعدوا بها، وأشارت وثيقةٌ حصلت عليها الأمم المتحدة إلى أنّ الطائرات الموعودة تضمّنت مروحية كوبرا الهجومية وطائرة لازا تي بيرد الزراعية التي تُستخدم في الاستطلاع والحرب.
وقرّر المرتزقة الانسحاب إلى مالطا نتيجة عجزهم عن التوصّل إلى اتّفاق مع الزعيم الليبي، ولكن في الثاني من يوليو/تموز بعد مغادرتهم بنغازي، صادف أحد الزوارق مشكلة واضطروا إلى التخلّي عن الزورق، لذا تكدّس الـ20 رجلاً على متن زورق واحد ومضوا في طريقهم إلى مالطا، وبعد أسابيع، عثر خفر السواحل الليبي على الزورق المهجور، وظهرت صوره في وسائل الإعلام المحلية.
وعلى موقعه الإلكتروني، يصف دورانت نفسه بأنّه رائد أعمال وعامل في المجال الإنساني، مع صورةٍ تُظهره وهو يحمل طفلاً كينياً، وحمل أحد منشورات مُدوّنته الشعار التالي: "لإنقاذ الأجيال المُقبلة من ويلات الحرب".
لكنّ ردحاً كبيراً من مسيرته المهنية مؤخراً كان مرتبطاً بالسيد برينس، المُنظّم المتباهي للمشاريع العسكرية الخاصة والذي اشتهرت شركته Blackwater بقتل 17 مدنياً في العراق عام 2007، وخلال السنوات الأخيرة خطّط برينس أو نظّم مشاريع عسكرية خاصة في الصومال، ومالي، وجنوب السودان، وأفغانستان.
وبين عامَي 2014 و2016، عمل دورانت تحت إمرة برينس في شركةٍ تُدعى Frontier Services Group، حيث أدار مشروعاً مثيراً للجدل لتحويل الطائرات الزراعية من شركة Thrush إلى مقاتلات زهيدة الثمن، لكن المشروع انتقل لاحقاً إلى شركةٍ بلغارية مرتبطة ببرينس، وأطلقت الشركة على الطائرات اسم لازا تي بيرد -وهذه هي الطائرات التي وعدوا بها حفتر.
وفي عام 2017 ارتبط اسم دورانت بعرض برينس لتشكيل قوة جوية خاصة لقتال طالبان في أفغانستان، وحينها أدرج برينس اسم Lancaster 6 بوصفها من الشركاء في طلبه المُقدّم إلى وزارة الدفاع، وفقاً لتقرير موقع The Military Times الأمريكي.
ويحب دورانت التباهي باطّلاعه على شؤون واشنطن، إذ يظهر في صورة صفحته على فيسبوك مرتدياً نظارة شمس فوق منصة غرفة الصحافة في البنتاغون، ولأنّه بحارٌ بارع، يشترك في ملكية يخت تريماران مع برينس، كما نشر الشهر الماضي صور قطمران مُزيّن بشعارات شركة Blackwater للبيع بسعر 25 ألف دولار، وكانت السفينة مُسجّلةً تحت اسم برينس.
وفي يوليو/تموز الماضي، أثناء عملية المرتزقة في ليبيا، دفعت شركة Opus Capital الإماراتية نحو 60 ألف دولار لصالح شركة الضغط الأمريكية Federal Associates من أجل تعريف البيت الأبيض بما وصفته بـ"القضايا الجيوسياسية في إفريقيا".
وقالت المتحدثة باسم دورانت إنّ شركات Opus Capital وLancaster 6 تعاونت مع مُحقّقي الأمم المتحدة وعرضت اللقاء بهم، وأردفت أنّ دورانت ليس له دورٌ في تلك الشركات: "إنّه ليس من حمَلة الأسهم، وليس مُديراً، ولا يعمل في أيّ منهما".
"نكتة" حظر الأسلحة
اشتهر حظر الأسلحة الدولي المفروض على ليبيا بأنّه لا أنياب له، إذ يتعرّض من ينتهكه لحظر السفر وتجميد الأصول، ولكنّه لم يُطبّق حتى الآن سوى على اثنين فقط من المواطنين غير الليبيين، وهما من مُهرّبي البشر الإريتريين، لدرجة أنّ المسؤولين البارزين بالأمم المتحدة يصفون حظر الأسلحة بـ"النكتة".
وتعجز القوى الكبرى على التوافق حول هوية من يجب فرض العقوبات عليه، إما لأنهم مختلفون علناً في ما يتعلّق بليبيا، أو نتيجة سياسات الولايات المتحدة المتذبذة والمتناقضة.
وفي حين تدعم الولايات المتحدة رسمياً حكومة طرابلس، لكن ترامب أعرب عن دعمه لحفتر، كما منح مسؤولون بارزون بإدارته العام الماضي الضوء الأخضر لحفتر حتى يمضي في هجومه على طرابلس.
وجاءت عملية المرتزقة بعد شهرين فقط، ويتواصل التحقيق في عملية المرتزقة، إذ يقول المسؤولون إنّ هناك فعلياً أدلة ضد بعض الأفراد تكفي لفرض العقوبات عليهم.
ولكن لم نشهد حتى الآن سوى إجراء قانوني واحد في مالطا، حيث اتّهمت الشرطة، الشهر الماضي، تاجر الأسلحة فينيش وأربعة من موظفيه بانتهاك العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على تزويد المرتزقة بالزوارق السريعة.
وأنكر فينيش ارتكابه أيّ فعلٍ مُخالف، إذ قال في رسالةٍ بالبريد الإلكتروني: "قُمنا بتأجير زورقين بموجب اتفاقية إيجار سفينة بدون طاقم، ووجدنا أنفسنا في موقفٍ لا نُحسد عليه"، ويمتلك فينيش أيضاً روابط تجارية مع برينس، إذ أطلقا معاً في عام 2018 شركة Blackwater Ammunition التي تبيع ذخائر البنادق الهجومية، والسكاكين، والساعات التي تحمل علامة Blackwater التجارية.
ولا شكّ أنّ الحرب الفوضوية في ليبيا تفتح الباب على مصراعيه أمام المستفيدين ليخدموا جانبي الصراع. ولكنّها مغامرة محفوفة بالمخاطر، ففي الخامس من أغسطس/آب، قصفت طائرةٌ بدون طيار تابعة لقوات حفتر طائرة شحن على مدرج الطائرات في مصراتة، داخل الأراضي التي تُسيطر عليها الحكومة. وكانت طائرة الشحن الخاصة بشركة SkyAviaTrans هي نفس الطائرة التي سلّمت إحدى المروحيات إلى حفتر قبل شهرٍ واحد، إذ قال المسؤولون إنّ الطائرة هذه المرة كانت تحمل إمدادات عسكرية متجهة إلى طرابلس.