في مقبرة جنة الزهراء خارج العاصمة الإيرانية طهران، انتحبت امرأةٌ تتشِح بالسواد على ابنها، بينما تلقي بنفسها على قبره وتضرب بيدها على الحجر الرخامي البارد لشاهد القبر. كان هادي تاريمي في السادسة والثلاثين من عمره حين مات، تاركاً وراءه ابنتين كانتا تلعبان بالجوار، مرتديتين سترتين ورديَّتين متطابقتين.
لاثنتي عشرة سنة، كان تاريمي عنصراً رفيع المستوى في الحرس الثوري الإيراني، يقاتل في معارك النظام في العراق وسوريا. وفي يناير/كانون الثاني قُتِلَ في هجمةٍ لطائرةٍ أمريكية مُسيَّرة خارج مطار بغداد مع القائد العسكري الإيراني البارز قاسم سليماني وثمانية آخرين.
محطمون، ولكن فخورون
تقول الكاتبة السويدية لويز كالاهان المتخصصة في شئون الشرق الأوسط في مقال بصحيفة The Times البريطانية "في زيارةٍ لطهران في فبراير/شباط، شاهدتُ عائلة تاريمي تتجمَّع عند مقبرته، بينما تصدح مُكبِّرات الصوت التي أحضروها معهم بآياتٍ قرآنية.
كانوا محطمين تماماً، لكنهم كانوا فخورين أيضاً. قال سجَّاد تاريمي، 36 عاماً، شقيق هادي: "إنني أعتبر الشهداء بوصلةً لنا. يتضح الطريق للناس في كلِّ مرةٍ يسقط فيها شهيد، وهذا الطريق هو الطريق إلى الله".
لعقودٍ من الزمن، يُبجَّل الشباب الذي يستشهدون من المجتمع الذي يقدِّس المقاتلين والشهداء.
غير أن المشروع الإيراني أصابه الضعف.. حصار وأزمات في كل مكان
قُتِلَ الآلاف في معاركهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والمتمرِّدين في سوريا، بينما تحاول إيران أن تشق طريقاً لنفوذها عبر المنطقة. وعمل الإيرانيون مع القوات الجوية السورية التي تستهدف منازل المدنيين ومستشفياتهم، ومع الميليشيات العراقية التي تطلق الصواريخ على القواعد الأمريكية. غير أنه، بعد أربعة أشهر من مقتل تاريمي، هناك دلائل على أن المشروع الإيراني بالخارج يصيبه الإرهاق والضعف.
ولقد تضرَّرَت قدرة النظام بشدة على استخدام نفوذه بالخارج مع مجيء رئيس وزراء مدعوم أمريكياً في العراق، ومع الاحتجاجات والفوضى الاقتصادية في لبنان، علاوة على تراجع الحرب في سوريا.
والشعب الإيراني يتساءل عن جدوى الإمبراطورية
وداخلياً، يقول مُحلِّلون إن تصاعد الضغط الاقتصادي من العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة يدفع الناس العاديين إلى طرح التساؤلات عن الدماء التي سُفِكَت والأموال التي أُنفِقَت بالخارج. وبينما يستنفذ فيروس كورونا المُستجَد خزائن البلاد، فإنهم يواجهون ردَّة فعلٍ عكسية من بعض قطاعات المجتمع.
وقال شابٌ من طهران، لم يرد أن يُذكَر اسمه: "الناس جوعى هنا في هذا البلد. لا يقدرون على شراء الدواء لأطفالهم، في حين ينفق الآخرون كلَّ ما لدينا للقتال في بلدانٍ أخرى".
التُقِطَت مقاطع فيديو تصوِّر الإيرانيين يحتجون على قضايا اقتصادية ويصيحون بهتافاتٍ تنتقد تدخُّل بلادهم في مغامراتٍ أجنبية. فبينما يغرق الإيرانيون في الفقر، أنفقت الجمهورية الإسلامية مليارات الدولارات لتعزيز وضع حليفها، الرئيس بشَّار الأسد، في سوريا، ووفقاً لتقديراتٍ أمريكية، تزوِّد إيران حزب الله بـ695 مليون دولار سنوياً.
الآلاف من الشباب ماتوا، ولكن لا أحد يتفاعل مع عمليات التخويف من داعش
لكن مخاوف الناس العاديين ليس لديها تأثيرٌ يُذكَر على عمل الحرس الثوري الإيراني بالخارج. ورغم صعوبة الحصول على إحصاءاتٍ موثوقة، تطرح التقارير المتاحة علنياً أن الآلاف من الشباب الإيراني الذين قاتلوا في صفوف الحرس الثوري قد قُتِلوا في سوريا والعراق منذ العام 2012.
في سوريا، تُعرَف الميليشيات الموالية لإيران باسم "حماة الضريح"، في إشارةٍ إلى هدفهم المتمثِّل في حماية المواقع المُقدَّسة الشيعية من المتمرِّدين السُنَّة.
يُنظَر إلى هؤلاء باعتبارهم رأس الحرب التي تُبقِي إيران في مأمنٍ من أعدائها العديدين. وإنه لأمر شائع أن يقال في طهران أن إيران إن لم تقاتل تنظيم داعش بالخارج، فسوف يقاتلهم في شوارع العاصمة. والآن بينما هُزِمَ داعش، ووصلت الحرب السورية إلى طريقٍ مسدود، صارت هذه الحجج أقل إقناعاً.
ومنذ الثورة الإسلامية عام 1979، صوَّرَ الحرس الثوري نفسه حامياً للجمهورية الإسلامية في الداخل والخارج.
ومن بين عشرات آلاف القبور في مقبرة جنة الزهراء، هناك قتلة من عقودٍ من الحروب. وهناك صورٌ لشبابٍ ذوي ملامح جادة تزيِّن الأحجار الرخامية وضعها جيشٌ من الأمهات الثكالى. بعض هذه الصور، بالأبيض والأسود، تُظهِر شباباً يرتدون أثواباً غير مُهندَمة، كانوا من الحرب العراقية والإيرانية قبل عقودٍ مضت، فيما كان آخرون من فتراتٍ أقرب. أما بالنسبة لسجَّاد تاريمي، الذي فقد أخاً آخر في القتال عام 1983، فهو يرى أن هؤلاء جميعاً ماتوا لحماية أمن وسلامة الإيرانيين.
قال سجَّاد تاريمي: "آمن إخواننا أن الدم الذي أُريقَ من الشهداء لن يدع الثورة تتداعى".
أعرب سجَّاد عن أمله أيضاً أن يلتحق أطفاله بالقتال في المستقبل. كانت هذه الحماسة هي نفسها حين تحدَّثَ عن العائلات التي تدعم الحرس الثوري، الذي دَفَعَ جنوداً ووكلاء في العراق وسوريا، وقدَّم الدعم للانفصاليين في اليمن وحزب الله في اليمن. اتُّهِمَ الحرس الثوري بارتكاب جرائم حرب، وصنَّفَتهم الولايات المتحدة جماعةً إرهابية. إلا أنهم أيضاً قد وجدوا أنفسهم على الجانب نفسه مع واشنطن في القتال ضد داعش في العراق وسوريا.
يزعمون أنهم "أمة لا مثيل لها"، ولكن الضربة الترامبية شديدة القسوة
قال ميسم بيهرافيش، مستشار السياسة الإيرانية السابق بجامعة لوند السويدية: "الهدف الرئيسي لطهران في محاولتها اكتساب وممارسة نفوذ إقليمي يتمثَّل في… ضمان أمنها القومي". وأضاف: "إنها تعمل أيضاً على تصوير نفسها باعتبارها "أمةً لا مثيل لها" وثقلاً جيوسياسياً يمنحها الحقَّ في إبراز قوتها في المنطقة".
نفى النظام الإيراني بعنف المزاعم التي قدَّمها وزير الدفاع الإسرائيلي المنتهية ولايته بأن إيران تسحب قواتها من سوريا. ويقول مُحلِّلون إن من غير المُحتَمَل على الإطلاق أن تنسحب إيران من سوريا، رغم المصاعب التي تواجهها.
أما الآن، فإن أكبر مخاوف النظام الإيراني يقبع في الداخل، حيث تسبَّبَت العقوبات، التي صعَّدها دونالد ترامب، في أضرارٍ بالغة. ورغم أن الجمهور الإيراني قد اعتاد بالفعل على العقوبات، وتمرَّسَ على تجاوزها من خلال الأموال غير المشروعة وإنشاء صناعاتٍ محلية، فقد لحق دمارٌ كبيرٌ في أرواح الكثير من الناس العاديين. وتفاقمت الأضرار على خلفية جائحة كوفيد-19 التي أسهمت في المزيد من العرقلة للاقتصاد المحلي.
قال مايكل نايتس، الزميل بمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: "إن حملة الضغط الأقصى للولايات المتحدة سيكون لها تأثيرٌ في نهاية المطاف". وأضاف: "أحد الأمور التي قد تكون جاريةً في إيران الآن هو أن هناك بالفعل جدالاً أكبر حول قدر الموارد والجهود والمخاطرة في ما ينفقونه خارج البلاد. وهذا ما حاول بريان هوك، مبعوث وزارة الخارجية الأمريكية إلى إيران، فعله. لكن لا يمكنك الجزم بأن الإيرانيين أوقفوا ما يفعلونه من أذى بالخارج. فهم لم يوقفوه قط".