على عكس الكثير من الدول العربية لم تحاول مصر فرض حالة إغلاق مشددة بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، فلم تفرض سوى حظر تجوال في المساء، وأغلقت الأماكن المزدحمة مثل المطاعم والمقاهي، لكن المواصلات العامة مستمرة في العمل، والمصانع تعج بعامليها، والمحال تفتح على الأقل لساعات محددة.
ومع ذلك، لم تحمِ حالة الإغلاق المرنة مصر من أزمة اقتصادية كما تقول مجلة The Economist البريطانية. بدايةً، القطاع الخاص في حالة سقوط حر، إذ هوى مؤشر مديري المشتريات من 44.2 نقطة في مارس/آذار إلى 29.7 في أبريل/نيسان، مُسجلاً أدنى مستوى له على الإطلاق (وأي مستوى أقل من 50 نقطة يشير إلى انكماش).
أما طلبات التصدير فشهدت هبوطاً أسرع، إلى جانب ذلك فإنَّ موارد العملة الأجنبية الكبرى عرضة للانكماش. ويعاني المواطنون بالفعل بعد سنوات من الاضطرابات السياسية والإجراءات التقشفية، وتفتقر الدولة إلى الموارد، في الوقت الذي تسعى فيه لتقديم كميات كبيرة من المساعدات. وقد تكون مصر الدولة العربية الأولى التي تظهر عليها آثار هذه الأزمة، لكن مشكلاتٍ مشابهة ستجتاح الدول العربية غير النفطية خلال الشهور المقبلة.
وكان أول قطاع تطاله المعاناة هو السياحة، التي يعمل بها واحد من كل 10 مصريين. وبلغت إيرادات مصر من الزائرين الأجانب في العام الماضي 13 مليار دولار، أي نحو 5% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن مع إغلاق المطارات منذ مارس/آذار، وصلت إيرادات السياحة للصفر. وكانت الخطوط الجوية الوطنية "مصر للطيران" تأمل في استئناف الرحلات الجوية في يونيو/حزيران، لكن الحكومة مدَّت حالة الإغلاق لأجلٍ غير مسمى. وفي محاولة مستميتة لجمع بعض المال، أعادت الفنادق فتح أبوابها مع تحديد نسبة الإشغال بـ25% للسياح المحليين، لكنهم ينفقون أقل بكثير من السائحين الأجانب.
القلق الأكبر في تحويلات المغتربين
يكمن القلق الأكبر في 3.4 مليون مصري يعملون في الخارج. ففي عام 2019، كانت مصر خامس أكبر دولة متلقية للتحويلات النقدية من الخارج، التي بلغت 27 مليار دولار، ما يمثل نحو 9% من الناتج المحلي الإجمالي. ولا يزال من المبكر تحديد إلى أي مدى ستقل هذه التحويلات، لكن البنك الدولي يتوقع انخفاض التحويلات المالية عالمياً بنسبة 20% هذا العام. ويعمل أكثر من نصف المغتربين المصريين في دول الخليج، التي شرعت في اقتطاعات واسعة للرواتب وتسريح العمالة، بسبب تراجع أسعار النفط.
وحتى قناة السويس، التي تؤمّن لمصر ما بين 5 و6 مليارات دولار سنوياً بسبب رسوم العبور فقد تطالها الآثار السلبية. ويمكن أن تدفع السفن المحملة بالبضائع بالكامل ما يصل إلى مليون دولار لعبور القناة. وتدفع هذا الرقم الضخم لأنَّ البديل هو الإبحار لآلاف الأميال حول إفريقيا، لكن أسعار النفط المنخفضة تعني أنَّ وقود السفن بخس، وضعف الطلب العالمي يشير إلى أنَّ السفن لا تحتاج لنقل البضائع والرسو سريعاً. ومن ثم، تجنبت أكثر من 20 سفينة تُبحِر من آسيا وإليها المرور عبر القناة واختارت الطريق الأطول. وفي المقابل، خفَّضت القناة رسوم العبور للحفاظ على التنافسية.
وبالنسبة للاحتياطي الأجنبي، الذي تراجع بعد ثورة 2011، فقد تعافى في فبراير/شباط ووصل إلى مستوى مريح عند 45 مليار دولار، لكنه بدأ الآن ينخفض مرة أخرى، ووصل إلى 37 مليار دولار بنهاية أبريل/نيسان، مع سداد الدولة قروضها وتدفقات المحافظ المالية. من جانبها ترى وكالة Fitch للتصنيف الائتماني أنَّ الاحتياطي الأجنبي سيهبط إلى 31 ملياراً هذا العام. إلى جانب ذلك، تتوقع الوكالة ارتفاع عجز الحساب الجاري ليصل إلى 5.3% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بـ3.6% في العام الماضي.
مصر تحتاج لـ10 مليارات دولار
يُقدِّر المصرفيون أنَّ مصر ستحتاج إلى ما لا يقل عن 10 مليارات دولار من التمويل الخارجي. وقد لجأت بالفعل إلى صندوق النقد الدولي، وكانت قد انتهت العام الماضي من تنفيذ برنامج إصلاح يشترطه الصندوق مقابل منحها قرضاً بقيمة 12 مليار دولار؛ ما ساعد على خفض عجز الموازنة إلى 8% من الناتج المحلي الإجمالي من 12% في السنوات الثلاث السابقة. وقد وافق صندوق النقد الدولي بالفعل على إقراض مصر 2.8 مليار دولار في حزمة تمويل طارئ جديدة، بينما يخوض الاثنان محادثات بخصوص قرض احتياطي بقيمة 5 ملايين أو أكثر.
وبالرغم من ذلك، لا تمتلك الدولة سوى قوة محدودة لمساعدة من يعانون من الأزمة الحالية، فلن يتلقى الموظفون المدنيون والمتقاعدون سوى زيادة مالية بسيطة، لكن كثيرين سيضطرون لدفع 1% من دخلهم الشهري في ضريبة جديدة مفروضة باسم "ضريبة كورونا". وأضيفت آلاف العائلات إلى برامج تحويل الأموال الرئيسية، التي تغطي 10% من الشعب.
ومن جانبه، خصص البنك المركزي 50 مليار جنيه (3.2 مليار دولار) للقروض الميسرة لدعم قطاع السياحة. وحدد البنك أجل سداد القرض بمدة عامين، وهي الفترة التي تعتقد شركات السياحة أنَّ القطاع يحتاجها للتعافي. وتُشكِّل إيرادات الاقتصاد غير الرسمي نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي، لكن أصبح أغلبه معطلاً الآن بسبب الأزمة. وتعهدت الحكومة بمنح العمالة غير الرسمية 500 جنيه شهرياً لمدة 3 شهور، أي أقل من نصف متوسط الأجر الأسبوعي. وتوزع المؤسسات الخيرية خلال رمضان الجاري ضعف ما وزعته من صناديق طعام في رمضان الماضي.
آثار سلبية قاسية
وبالمثل، عانت التجارة والأعمال من تراجع. وسجلت الكثير من الشركات الكبرى مبيعات بسيطة خلال الربع الأول من العام المالي، الذي يتزامن مع الأسابيع الأولى من تفشي الجائحة. فمن جانبها، شهدت عملاق السيارات Ghabbour Auto تراجع إيراداتها بنسبة 4.1%، مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي. أما شركة Edita للمقرمشات فقد سجلت انخفاضاً بنسبة 44% في الأرباح الفصلية. أما اللافتات الإعلانية الضخمة على طول الطرق الرئيسية في القاهرة، التي ينبغي أن تكون ممتلئة بالإعلانات التي تستهدف المتسوقين في رمضان والأعياد فتقف عارية. واستشعاراً منها بازدياد مشاعر الانزعاج فرضت الحكومة قبضة قوية على أي انتقادات.
وتخرج الدول العربية الأخرى من حالة الإغلاق المرتبطة بفيروس كورونا المستجد بالمشكلات نفسها. وعلى الرغم من أنَّ عائدات السياحة المصرية أعلى من حيث القيمة المطلقة من نظيراتها في تونس ولبنان والأردن، يساهم القطاع بنسبة أكبر في الناتج المحلي الإجمالي لتلك الدول الثلاث مقارنة بمصر. وبالمثل، تعتمد هذه الدول الأخيرة بقوة على التحويلات المالية من العمالة في الخارج. وتحظى الدول الثلاث بتصنيفات ائتمانية طويلة الأجل أقل من مصر (لكن أسوأها لبنان، الذي تعثر في مارس/آذار). وتحلَّت مصر بالفطنة الكافية لطلب المساعدة من صندوق النقد الدولي في وقت مبكر، وجيرانها ليسوا بعيدين عن اتخاذ هذه الخطوة.