كان عادل الطيار طبيباً متميِّزاً في زراعة الكلى، وهو في الأصل من السودان، وتطوَّع لمعالجة المصابين بفيروس كورونا المُستجَد في غرفة الطوارئ. وفي غضون أسابيع، تُوفِّي الطبيب البالغ من العمر 64 عاماً، ليصبح أول طبيب في بريطانيا يلقى حتفه إثر إصابته بالفيروس.
قال ابنه عثمان لصحيفة Washington Post الأمريكية: "كان يدرك أنه في خطر، لكنه لم يعتقد أن الفيروس سيؤثِّر عليه هكذا".
خط الدفاع الأول
وفقاً للجمعية الطبية البريطانية، فإن الأطباء الذين تُوفوا بسبب فيروس كوفيد-19 كانوا جميعاً تقريباً من أقلياتٍ عرقية ووُلِدوا خارج بريطانيا، مثل عادل الطيار.
أربكت هذه الخسائر المُروِّعة في الأرواح خبراء الصحة، وأثارت قلق الأطباء المُنتمين للأقليات، وأذهلت أمةً تستند إلى المهاجرين لملء صفوف نظام الرعاية الصحية العامة لديها -ومع ذلك صوَّتَت من أجل الخروج من الاتحاد البريطاني على وعدٍ بـ"استعادة السيطرة" على الحدود وتقويض الهجرة.
ويُقدَّر أن 44% من أطباء بريطانيا ينتمون إلى خلفياتٍ من أقلياتٍ عرفية، وهي نسبة أعلى كثيراً من نسبة الـ13% من عموم السُكَّان. وفي العام الماضي، كان أكثر من نصف الأطباء الجدد المُسجَّلين في بريطانيا مولودين بالخارج.
لكن خبراء يقولون إنه لا يزال من المُحيِّر أن 93% من الأطباء الذين ماتوا بسبب كوفيد-19 كانوا من أقلياتٍ عرقية.
ظاهرة عجيبة حيرت المسؤولين البريطانيين
قال مايكل مارموت، مدير معهد الإنصاف الصحي في كلية لندن الجامعية: "ليس بوسعي فهم ذلك"، وقال في حديثه أمام لجنةٍ برلمانية: "ربما سنفهم أكثر عن هذا المرض المُروِّع إذا استطعنا تفسير ذلك".
ودعت جمعيات الأطباء في بريطانيا إلى تحقيقٍ حكومي، بينما نَصَحَ مسؤولو الصحة العامة الوطنية المستشفيات بـ"تقييم المخاطر" المُتعلِّقة بالعاملين، و"اتخاذ التدابير الملائمة وفقاً لذلك". وتتناقش المستشفيات حول ما إذا كان يتعيَّن نقل العاملين من أقلياتٍ عرقية بعيداً عن الخطوط الأمامية في مواجهة الفيروس.
وقال نيل مورتنسن، رئيس الكلية الملكية للجرَّاحين، إنه يجب إعادة توزيع بعض العاملين إذا اقتضى الأمر. وقال لشبكة Sky News: "من المهم أن يُبعَدوا عن الخطر".
ووفقاً لتحليل بصحيفة The Guardian البريطانية، فإن أكثر من 180 عاملاً بالصحة لقوا حتفهم جرَّاء الإصابة بفيروس كوفيد-19، وأغلبهم من أقلياتٍ عرقية. وتوصَّلَ تحليلٌ آخر لـ106 من الوفيات بخدمات الصحة العامة إلى أن ثلثيهم كانوا من أقلياتٍ عرقية. والتفاوت هنا أكبر بالنسبة للأطباء.
أرقامٌ مُذهِلة وقاسية
بدأ تشاند ناغبول، رئيس الجمعية الطبية البريطانية، الدعوة إلى البحث عن إجاباتٍ بعد وفاة أول 10 أطباء من فيروس كوفيد-19، وكانوا جميعاً من أقلياتٍ عرقية، والآن وصل العدد إلى 27 من أصل 29.
قال ناغبول: "هذه أرقامٌ مُذهِلة وقاسية. ولهذا السبب نحن بحاجةٍ إلى إجراء تحقيق".
وأضاف أيضاً أن هناك عدداً من العوامل الأخرى المُساهِمة في ذلك، بما يشمل تلك العوامل التي تؤثِّر على الأقليات بصورةٍ أعم.
وكما هو الحال في الولايات المتحدة، ضَرَبَ فيروس كورونا المُستجَد الأقليات العرقية بشدة غير مُتكافِئة في بريطانيا. ووَجَدَ مكتب الإحصاءات الوطنية في بريطانيا أن السود مُعرَّضون للموت جرَّاء الإصابة بفيروس كوفيد-19 أكثر بأربع مرات من البيض في إنجلترا وويلز، بينما يكون الأشخاص ذوو الأصول البنغلاديشية والباكستانية أكثر عرضة للإصابة بالفيروس ثلاث مرات أكثر من نظرائهم البيض.
لغز الأقليات العرقية في بريطانيا
لاحَظَ ناغبول أن هناك انتشاراً لأمراض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية وارتفاع ضغط الدم بين الأقليات العرقية في بريطانيا -وهي أمراضٌ يُعتَقَد أنها تزيد من حِدَّة الإصابة بكوفيد-19- مقارنةً بغيرهم من السُكَّان البيض.
وتساءل بعض الأطباء ما إذا كان نقص فيتامين د قد يكون له دورٌ في ذلك. ويميل الأشخاص ذوو البشرة الداكنة إلى الحاجةِ إلى البقاء فترةً أطول في الشمس، من أولئك ذوي البشرة الفاتحة، لإنتاج الكميات نفسها من فيتامين د.
لكن ناغبول يقول إنه قد تكون هناك عوامل ثقافية ومهنية فاعلة أيضاً، إذ ربما يقوم الأطباء المهاجرون بعملٍ أكبر في الخطوط الأمامية، وفي المستشفيات الأكثر تضرُّراً، وفي أكثر الأماكن ضغطاً.
وَجَدَ استطلاعٌ أجرته الكلية الملكية للأطباء، هذا الشهر مايو/أيَّار، أن 48% من إجمالي الأطباء أبلغوا أنهم قلقون أو قلقون للغاية على صحتهم، لكن العدد وصل إلى 76% بين الأطباء المُنتمين للأقليات العرقية.
وأظهر استطلاعٌ منفصل أجرته الرابطة الطبية البريطانية، الشهر الماضي أبريل/نيسان، للأطباء المشاركين في محاربة فيروس كورونا المُستجَد، أن 40% فقط من الأطباء المُنتمين لأقلياتٍ عرقية قالوا إنهم يحصلون على مُعِدَّات وقاية شخصية كافية، مقارنةً بـ70% من الأطباء البيض الذين قالوا الشيء نفسه. وكان الأطباء المُنتمون للأقليات أكثر ترجيحاً مرتين لأن يقولوا إنهم يشعرون بالضغط في العمل في ظلِّ بيئةٍ خطرة دون مُعِدَّاتِ حماية وقائية.
عدم القدرة على التصريح بالمخاوف ببيئة العمل
ويتوافق هذا مع دراساتٍ سابقة تُظهِر أن الأطباء المُنتمين لأقلياتٍ عرقية يشعرون بثقةٍ أقل من نظرائهم البيض في إثارة المخاوف المُتعلِّقة بالسلامة والإبلاغ عن مستوياتٍ أعلى من التنمُّر والمضايقة والتحرُّش.
قال ناغبول إن النتيجة قد تكون أن بعض الأطباء يشعرون بـ"عدم القدرة على التصريح بمخاوفهم المُتعلِّقة بالعمل في بيئاتٍ دون وقاية كاملة".
أحد الأطباء الذين دفعوا علناً من أجل توفير المزيد من المُعِدَّات الوقائية كان عبدالمعبود شاودوري، 53 عاماً، وهو أخصائي بالمسالك البولية من بنغلاديش. وبعد أيامٍ من إصابته بالفيروس، كَتَبَ نداءً للحكومة البريطانية، يؤكِّد فيه أن العاملين بالرعاية الصحية لديهم "الحق الإنساني مثل الآخرين في العيش في هذا العالم مع عائلاتهم وأطفالهم دون أن يُصابوا بالمرض".
قال ابنه، انتصار، 18 عاماً، إن أباه "أشجع شخص عرفته على الإطلاق". التقى شاودوري بزوجته ريحانا في كلية شيتاغونغ للطب في بنغلاديش. انتقلا إلى إنجلترا في العام 2001، وحصلا على وظيفةٍ في الخدمات الصحية الوطنية، وأنجبا طفلين: انتصار، الذي ينهي دراسته بالمرحلة الثانوية، ووريشا، 11 عاماً، التي يُطلِق عليها والدها "ابنتي الحبيبة الجميلة".
"كرماء ومجتهدون ومُضحُّون"
إحدى صديقات شاودوري، وتُدعى جومور باتي، من بنغلاديش أيضاً، تصفه بأنه "محترمٌ للغاية، ومُخلصٌ للغاية". تشاركا المكتب نفسه بمستشفى جامعة هومرتون في شرق لندن. وعادةً ما كانا يتحدَّثان لغتهما البنغلاديشية الأم حين يكونان وحديهما دون أحدٍ معهما.
قالت باتي إن أحد أكبر إنجازات شاودوري المهنية التي يفخر بها كان إنشاء مستشفى ومركز أبحاث BKN Memorial المُسماة باسم أبي وأم وأخت زوجته الذين لقوا حتفهم في حادث سيارةٍ في بنغلاديش. قالت: "قلبه كبير ويريد أن يشارك خبرته".
وحتى بعدما شعر شاودوري بالمرض، توقَّف عن الذهاب إلى المستشفى لأنه لم يرد "أن يزيد العبء على النظام الصحي"، بحسب قول باتي. شعرت باتي بالقلق إزاء صديقها، الذي ربما يكون مصاباً بداء السكري، وربما يعاني من زيادةٍ طفيفةٍ في الوزن. لكنها قالت إنها تعتقد إنه لو عُرِفَ أكثر عن المرض، لكان من الممكن تجنُّب موته.
جاء الأطباء الذين ماتوا من كوفيد-19 في بريطانيا من مواقع استعمارية وانتداب سابقة، مثل الهند، والعراق، وملاوي، ونيجيريا، ومصر، وباكستان، وسريلانكا، والسودان وغيرها من الدول، وفي عبارات النعي ومنشورات فيسبوك والحوارات الصحفية التي أُجرِيَت مع عائلات وأصدقاء الضحايا، كرَّروا الكلمات نفسها لوصفهم: كرماء ومجتهدون ومُضحُّون، ولطيفون. لقد أتوا إلى بريطانيا لمزاولة الطب بينما يبنون حياةً جديدة لعائلاتهم ويثبتون أنفسهم في مجتمعاتهم.