قلب الحراك الشعبي ونتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الجزائر الخارطة السياسية رأساً على عقب، وجعلاها مفتوحة على تغيرات قد تشهد اندثار أحزاب تاريخية وبروز قوى جديدة لتنشيط الحياة السياسية، وطرح بدائل النهوض بالبلاد من كبواتها وعثراتها المتلاحقة منذ الاستقلال.
بعد أقل من 24 ساعة على انتخابه في 12 ديسمبر/كانون الأول 2019، وجه الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون صفعة للطبقة السياسية خصوصاً الأحزاب العتيدة، بتعويله على الشباب في التأسيس لـ"جزائر جديدة"، معلناً أنه سيعمل على إحياء المشهد السياسي بوجوه شابة.
بهذا الإعلان تلقت كبرى التشكيلات السياسية التي شكلت واجهة النظام السابق -نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة- وغريمتها في المعارضة صفعة أخرى بعد تلك التي وجهها لها الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 فبراير/شباط 2019 محملاً إياها وزر الوضع المتردي والانسداد السياسي وتفشي الفساد في البلاد، على مدار عشرين عاماً من حكم الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة.
كان الحراك الشعبي يستهدف منذ بدايته إحداث قطيعة مزدوجة مع النظام بآلياته المهترئة وفي نفس الوقت قطيعة مع الأحزاب التي كان يراها نتاج النظام السابق، وقد عارض الأحزاب بأشكال متفاوتة وركز على أحزاب الموالاة وطالب صراحة برحيلها.
الواجهة السياسية للنظام السابق
عادة ما توجه أصابع الاتهام إلى أحزاب التحالف الرئاسي ممثلة في حزب جبهة التحرير الوطني، وحزب التجمع الوطني الديمقراطي، وحزب تجمع أمل الجزائر "تاج"، وحزب الحركة الشعبية الجزائرية، على أنها الأحزاب التي ساندت مخططات السلطة ومشاريعها السياسية، والتي انتهت بدعم ترشح الرئيس السابق، عبدالعزيز بوتفليقة للعهدة الخامسة. فقد شكلت هذه الأحزاب وأخرى صغيرة، واجهة سياسية لتسويق مشاريع السلطة والدفاع عنها.
في الأسابيع الأولى لانطلاق الحراك سارعت الحكومة لمنح الاعتماد لعشرة أحزاب جديدة في محاولة للتعبير عن انفتاحها على القوى الجديدة التي ظلت تدير لها ظهرها طيلة حكم بوتفليقة، لكن تلك التشكيلات السياسية كانت قد قدمت طلبات الاعتماد قبل مدة طويلة من بدء الحراك الشعبي ولا يمكن اعتبارها من نتاجه.
فهل كان إعلان الرئيس تبون نزولاً عند رغبة الحراك أم نابعاً من رغبة حقيقية في تطهير الحياة السياسية وبناء جزائر جديدة بوجوه مختلفة؟ وأي مصير ينتظر الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة؟ وهل منظومة الحكم مستعدة للقبول بتغيير الخارطة السياسية القديمة بسهولة؟
كيف يبدو المشهد الآن؟
ظلت المعارضة على مدار عقدين من حكم بوتفليقة تكتفي بتأثيث المشهد السياسي أو مغازلة النظام من أجل مناصب في الحكومات المتعاقبة باستثناء خطوتها الوحيدة عندما اتحدت لبرهة من الزمن تحت مظلة "تنسيقية التغيير" لتطالب بمرحلة انتقالية وإسناد تنظيم الانتخابات لهيئة مستقلة عشية الانتخابات الرئاسية التي دشنت العهدة الرابعة لبوتفليقة.
وتعيش المعارضة السياسية الجزائرية اليوم على وقع الانقسامات والتشتت بعد أن جمعها الحراك الشعبي في وقت سابق تحت سقف "قوى البديل الديمقراطي" التي تضم 14 حزباً. لكن استجابة بعض أحزابها لدعوات الرئيس تبون إلى لقاءات استشارية انفرادية، وتمسُّك أخرى بـرفض نتائج انتخابات 12 ديسمبر 2019، والذهاب الى مرحلة انتقالية كشف عن توافق هش وشرخ عميق يصعب رأبه.
أما أحزاب الموالاة فتسابق الزمن محاولة تجميل صورتها وتطهير صفوفها من الكوادر التي قد توصف بـ"الفاسدة"، قصد الحفاظ على نصيب من المصداقية في الساحة السياسية وأمام الناخبين.
تصدعات داخل كبرى التشكيلات السياسية
داخلياً، تشهد كبرى الأحزاب وأقدمها صدامات وانقلابات وانشقاقات في محاولة لإحداث تغييرات في الوجوه والتوجهات والسياسات.
لتفادي الاندثار بدأت قيادات من حزب جبهة التحرير الحاكم منذ استقلال البلاد عام 1962، بـ حملة تطهير عبر تأسيس "لجنة إنقاذ"، تطالب بالرحيل الفوري للأمين العام بالنيابة الحالي، علي صديقي، والتحضير لمؤتمر جامع لـ"تصحيح مسار الحزب". في وقت يقبع أمينها العام محمد جميعي وسابقه جمال ولد عباس في السجن بتهم فساد.
وفي بيت التجمع الوطني الديمقراطي يقود الأمين العام بالنيابة عز الدين ميهوبي ما تسميه كوادر الحزب عملية إقصاء، تبدو على ما يبدو حملة تطهير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مصداقية الحزب، الذي يتواجد أمينه العام أحمد أويحي في السجن بتهم تتعلق بالفساد، لكن هاته الخطوة جرت عليه نقمة العديد من كوادر الحزب الذين باتوا يطالبون برحيله.
بدوره يعيش أقدم حزب معارض في البلاد، "جبهة القوى الاشتراكية"، أسوأ مراحل تاريخه بسبب الانشقاقات والاختلافات، حيث يسير بقيادتين متصارعتين، وتفيد لجنة مكونة من ممثلين وقيادات عن المتصارعين، بأنه بات من الضروري الذهاب إلى دورة لمجلس الحزب للم الشمل وإنهاء الانقسامات وإخراج الحزب من الأزمة، وإعادته إلى الدور الذي أسسه من أجله الزعيم التاريخي الراحل حسين آيت أحمد.
حزب العمال، يبدو وأن نهايته كانت بنهايته زعيمته لويزة حنون، التي صدر بحقها حكم بالسجن رفقة شقيق الرئيس السابق بوتفليقة ومديري الاستعلامات السابقين بتهمة المساس بسلطة الدولة والجيش.
الأحزاب الإسلامية تعاني أيضاً
أما الأحزاب الإسلامية التي عول عليها قطاع واسع من الشعب أن تشكل البديل القادر على إحداث القطيعة وتقديم مشروع سياسي، تعاني هي الأخرى من الانقسامات والتشظي الناجمة عن مقاربة المشاركة في الحكومة التي انتهجها الإسلاميون المعتدلون منذ العام 1995، والتي أفقدتهم الكثير من الشرعية في أعين الرأي العام.
فالصراعات الداخلية في صفوف تلك الأحزاب الإسلامية التي جرى استلحاقها بالحكومات المتعاقبة، دفعت في بعض الأحيان فصائل منها إلى الانفصال وتشكيل أحزابها الإسلامية الصغيرة الخاصة بها، مثلما حدث مع حركة مجتمع السلم حمس في 2009 وحركة النهضة نهاية التسعينيات.
لاعبون جدد ينضمون إلى الساحة السياسية!
قلبت الرئاسيات ونتائجها الساحة السياسية رأساً على عقب؛ حيث شهدت تدحرج عديد من الأحزاب وتقدم أخرى إلى الصفوف الأولى، فيما يبقى مستقبل المعارضة مرتبطاً بنتائج التشريعيات المقبلة والتي سترسم خارطة سياسية جديدة.
ويعتقد الكاتب والإعلامي عمر أزراج في تصريح لـ عربي بوست، أن الوضع القائم الذي تتحرك داخل محيطه التعددية السياسية الجزائرية سلب منها الفاعلية وجعلها على مدى أكثر من عشرين سنة ماضية تعيد تفريخ خطاباتها التقليدية أساليب مغرقة في الكلاسيكية، وجراء ذلك لم تقدم أي نموذج تنموي مادي أو حضاري يمكن أن يحتذى به ويبنى عليه ويصبح برنامجاً وطنياً تلتف حوله قوى المجتمع المدني.
ويبدو أن تهافت أحـزاب المعارضة الجزائرية المتكرر إلى مائدة النظـام الحاكم قد أفرغها من أي محتوى يجعل منهـا قـوة تغيير وتقـدم استراتيجيين، كما أن مطالب قوى البديل الديمقراطي بمرحلة انتقالية ومجلس تأسيسي تبدو أن الزمن تجاوزها بحكم أن السلطة ماضية في اصلاحاتها. وعليه تبحث السلطة عن دماء جديدة لتجديد الثقة مع الشعب، عبر وجوه شابة نظيفة اليد وعلى قدر من المصداقية.
ويخيم الصمت على المشهد السياسي في البلاد وتسود حالة من الترقب يفسرها البعض بأنها مرحلة ما قبل التموقع إما في صف النظام أو ضده، بينما يرى آخرون أن الوضع يتجه نحو تغيير المشهد السياسي بدخول أطراف جديدة وبروز شخصيات شبابية.
رغم أن المشهد السياسي كان يوحي أنه مواجهة بين الحراك والسلطة السياسية إلا أنه تزامن مع حراك آخر يحمل في طياته نشاطاً سياسياً وفكرياً يعتمل منبئاً بميلاد أحزاب سياسية جديدة برؤى وفكر جديدين.
فقد برزت حركة "عزم" بشكل لافت منذ بداية الحراك، يقودها نخبة من الشباب الجزائري كقوة مختلفة من ناحية الطرح والحركية، وأبانت عن قدرات وأفكار تؤهلها لتكون البديل للأحزاب العريقة وأن تكون رقماً صعباً في مستقبل العمل السياسي.
كما برزت أحزاب وحركات أخرى تحمل خلفية فكرية متقاربة ضمن المشروع النوفمبري الباديسي؛ وهو تيار استحوذ على الحراك الشعبي في أسابيعه الأولى مثل حزب السيادة الشعبية الذي يتزعمه المعارض السابق أحمد شوشان وجبهة ائتلاف القوى النوفمبرية وحركتي بداية وأحرار، وهي كلها تنتظر الاعتماد الرسمي.
لكن هل هذه الأحزاب الجديدة هي المقصودة من خطاب الرئيس عبدالمجيد تبون، أم تريد أحزاباً وفق تصورات النظام وعلى مقاسه تساعده على إعادة إنتاج نفسه ليس إلا؟