أحد الإشكاليات التي تواجه المشرعين والسياسيين ورجال إنفاذ القانون كنتيجة لتداعيات وباء كورونا تتمثل في أن ارتداء قناع الوجه أصبح إجبارياً لمكافحة تفشي الفيروس القاتل، لكن في الوقت نفسه كثير من الدول تحظر ارتداء النقاب، فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟
صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "هل تنهي أقنعة الوجه الإجبارية حظر النقاب؟"، ألقى الضوء على الإشكالية التي تواجهها الدول التي أقرت قوانين حظر النقاب، في ظل فرض قناع الوجه لمكافحة وباء كورونا.
مأزق الاتحاد الأوروبي
بينما تتحول تغطية الوجه بسرعة إلى وضع طبيعي بهدف إبطاء انتشار فيروس كورونا المستجد، ويظهر ذلك في شوارع المدن والمواصلات العامة في كل مكان، فإن السياسات العالمية التي تحيط به أكثر تعقيداً من ذي قبل، ولا تنعكس على الأزمة الحالية فحسب، بل تمتد كذلك لتشمل القيم والقوالب النمطية الأوسع نطاقاً.
ينطبق هذا على الاتحاد الأوروبي بدرجة خاصة، حيث تطرح تساؤلات الآن حول القوانين المعروفة بشكل غير رسمي باسم "حظر النقاب"، التي تحظر تغطية الوجه، وفي الغالب على أساس السلامة العامة.
وفجأة صار للنقاب، أو تغطية الوجه، مجموعة جديدة تماماً من الارتباطات الأكثر مجتمعية، وتتأهب عديد من المؤسسات القانونية لتحدي الوضع الراهن.
قالت علياء جعفر، وهي معلمة بريطانية في الرياض: "إنه تناقض كبير"، وذلك في حديثها عن قوانين تغطية الوجه المتعددة، التي تختلف من بلد لآخر؛ ولا سيما نظراً إلى أن الصياغة القانونية لأغلب صور حظر النقاب يجري وضعها غالباً في إطار أكثر حياداً -بهدف تجنب التعرض لاتهامات بالتمييز- كي تنطبق على كل من الرجال والنساء الذين يغطون وجوههم.
نشرت علياء مؤخراً صورة على مواقع التواصل الاجتماعي، مستلهمة من الطفرة العالمية لتغطية الوجه، وهي صورة شاركتها مع صحيفة The New York Times تُظهر امرأتين في الشارع خلال جائحة الإنفلونزا الإسبانية عام 1918. كانت كلتاهما ترتديان قبعتين ذات حواف عريضة، ومسحوبتين لأسفل، مع وشاحين مربوطين حول وجهيهما. ولم تظهر إلا أعينهما.
وقالت علياء عبر الهاتف: "يبدو مثل النقاب". يعني هذا ضمناً أن الأمور لا تختلف عما يحدث اليوم. في الشارع، يُرى كثيرون يرتدون قبعات بيسبول مع عصابات رأس حول وجوههم.
التباس بسبب الفيروس
ومع ذلك، اتخذت فرنسا موقفاً حازماً تجاه الحظر الذي فرضته على النقاب، والذي يمنع ارتداء الملابس التي تستهدف إخفاء الوجه في الأماكن العامة، برغم الحقيقة التي تشير إلى أن الأقنعة صار ارتداؤها مطلوباً الآن في المواصلات العامة والمدارس الثانوية، وأكد وزير الداخلية الفرنسي لصحيفة The New York Times أن القاعدة المتعلقة بتغطية الوجه، التي تعود إلى عام 2010، سوف تبقى سارية.
بالرغم من أن بعض البلاد الأوروبية، مثل فرنسا، لديها استثناءات من الحظر تسمح بتغطية الوجه لأسباب "صحية"، لا تزال هناك حالة من الالتباس حول ما يمكن أن يدخل تحت مظلة أقنعة الفيروس المقبولة.
لم تقدم فرنسا توصيفاً رسمياً لذلك، وقالت متحدثة باسم وزارة الداخلية في بريد إلكتروني: "إنه منطقي بدون تعريف قانوني"، ويزيد الموقف تعقيداً في ظل حالة عالمية مشهودة من نقص مستلزمات الوقاية الشخصية، مما جعل عديداً من الأشخاص يلجأون إلى الأغراض الموجودة بالفعل لديهم في المنازل لاستخدامها في تغطية وجوههم.
عند التواصل معهم، وصف عديد من المحامين الحقوقيين الموقف في فرنسا بـ "السخيف"، غير أنه ليس فريداً، إذ تطلب عديد من البلاد الأوروبية الآن ارتداء الكمامات، برغم تعارض ذلك مع الحظر المفروض على تغطية الوجه.
ومُرر قانون في بلجيكا عام 2011 يمنع ارتداء أي ملابس تحجب هوية الشخص في الشارع، غير أنه نتيجة لفيروس كورونا، صارت الكمامات إلزامية في المواصلات العامة "ويشجعون بقوة" ارتداءها في أماكن أخرى.
وفي هولندا، يُطلب من المواطنين الآن ارتداء الكمامات في القطارات والحافلات، ومع ذلك، دخل حيز التنفيذ في العام الماضي قانون يحظر تغطية الوجه في المواصلات العامة، والمستشفيات، والمدارس.
أما في أستراليا، صارت الكمامات الآن إلزامية في المتاجر والمواصلات العامة، رغم تمرير مشروع قانون في 2017 يحظر تغطية الوجه في الأماكن العامة، ويوجد مواقف مشابهة في الدنمارك وبلغاريا وبعض مناطق إيطاليا وإسبانيا وألمانيا.
وقالت عاصمة ماجد، وهي بريطانية مسلمة ترتدي الحجاب فقط الآن، لكنها كانت ترتدي النقاب في الماضي: "يُنظر إلى أقنعة الوجه الآن بوصفها أحد التدابير الاجتماعية لحماية الناس، لكن النقاب لا يزال يُعامل على أنه فعل معادٍ للمجتمع".
أرضية أكثر صلابة
وقالت مسلمة أخرى تدعى مريم إنها شعرت بالتعرض لـ "هجوم شخصي" بسبب الحظر. ومع انتشار أقنعة الوجه خلال الجائحة، قالت إنها تشعر بـ"الانتصار"، وقال ساتفيندر جوس، وهو محامٍ في لندن وخبير حقوقي، إن مرتديات النقاب في أوروبا يقفن الآن على "أرضية أكثر صلابة" في ظل إرشادات الصحة المعلنة حديثاً حول تغطية الوجه.
وأوضح جوس أنه إذا قرر ضابط شرطة فرنسي معارضة امرأة لارتدائها النقاب في الأماكن العامة، فنظراً إلى أنها ستكون محاطة على الأرجح بآخرين يرتدون كمامات مصنوعة من أغراض منزلية، قد يتورط الضابط في اتهامات واضحة بـ "التمييز الديني والجنسي"، وهو أمر محظور بموجب الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
تجد بلجيكا نفسها في موقف مختلف إلى حد ما، إذ إن الحظر الذي تفرضه على تغطية الوجه، والذي يتضمن عقوبة تصل إلى الحبس 7 أيام، لا يسمح باستثناءات للأشخاص الذين يغطون وجوههم لأسباب صحية، على عكس أغلب قوانين الحظر في البلاد الأوروبية الأخرى. والاستثناء الوحيد هو العمل، أو "الفعاليات الاحتفالية"، أو القوانين الأخرى الغالبة، مثل القوانين المتعلقة بارتداء الخوذة عند قيادة الدراجات البخارية.
وتعيش البلاد الآن في حالة طوارئ، منحت الحكومة سلطات خاصة تسمح لها بتمرير المراسيم، وقد جعلت ارتداء القناع (أو أي بديل آخر، مثل الوشاح) إلزامياً في المواصلات العامة.
ومع ذلك، ليس هناك استثناءات لمن يرتدون الأقنعة في الشوارع أو الأماكن العامة الأخرى، وهو موقف قانوني وصفته إيزابيل روريف، مؤسسة مركز Equality Law Clinic للمساعدات القانونية التابع لجامعة بروكسل، بـ "الغريب".
وفي هولندا، استخدم توم زوارت، أستاذ القانون عبر الثقافات في جامعة أوتريخت، كلمة "نفاق" ليصف الموقف في بلاده. تحظر الحكومة الهولندية تغطية الوجه إلا إذا كان "لأسباب صحية"، لكن زوارت يعتقد أنه يقوم على أساس متزعزع.
إذ أوضح قائلاً: "الأقنعة غير متاحة. حتى أن رئيس الوزراء قال: اصنع واحداً لنفسك، واستخدم شالاً أو أي شيء آخر. لذا، إذا كان لديك نقاب أو غطاء وجه، فلماذا لا تستخدمه لحماية نفسك والآخرين من فيروس كورونا؟ فإنك تفعل تحديداً ما قد طُلب منك".
وقال ضاحكاً إنه في ظل فرض أقنعة الوجه لأسباب السلامة تزامناً مع منع أغطية وجه أخرى، فإن قطاعاً كبيراً من السكان يخرقون القانون عن غير قصد، برغم اتباعهم النصيحة الجديدة المقدمة من الحكومة.
بينما قالت كريمة رحماني، رئيس مجموعة تتكون من 70 امرأة يرتدين النقاب في هولندا وتسمى Blijf van mijn Niqaab (لا تلمس نقابي)، إنه موقف "بالغ السخرية". وتعتقد كريمة أن حظر النقاب عزز الانقسامات واضطهد المرأة.
وأوضحت أن الحكومة "تتحدث عن نقابي لسنوات وسنوات وتجعل منه مشكلة، وتأتي بكل أنواع الحجج المتعلقة بمدى خطورتي، وانفصالي عن المجتمع، لكنهم جميعاً يرتدون الأقنعة الآن"، وأضافت: "منذ التفشي، لم يعد هناك أشخاص يسبونني في الشارع. وقد كنت معتادة على التعرض للسب كل يوم. ينظر الناس إلي بغضب في المعتاد، لكني أشهد تغيراً في أعينهم. أرجو بعد كل هذا أن نستطيع العيش معاً، والتحدث عن تجاربنا مع انتشار غطاء الوجه في كل مكان الآن".
وقالت تينداي أشيومي، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأشكال المعاصرة للعنصرية والتمييز العنصري وكراهية الأجانب، إنها تأمل أن يصير ارتداء الأقنعة للصالح العام أمراً اعتيادياً، سوف يتوقف الناس ليفكروا كيف أن الخوف هو ما ساعد في تبرير تمرير قوانين حظر النقاب، وأوضحت: "يجري التصدي الآن للبناء السياسي لفكرة أن أغطية الوجه شيء يهدد الأمة والثقافة والمجتمع".