أشياء غير منطقية تظهر في الخيارات العسكرية للمملكة العربية السعودية رصدها المراقبون أبرزها تعدد مصادر التسليح السعودية، بشكل يؤدي أحياناً إلى مشكلات فنية لقواتها المسلحة.
ومن المعروف أن السعودية خامس أكبر دول العالم في الإنفاق العسكري عالمياً في 2019، بقيمة 61.9 مليار دولار، حسب معهد "SIPRI"..
ولكن السعودية تحتل مرتبة أكثر تقدماً في مجال قيمة مشتريات السلاح إذ جاءت في المركز الثاني كثاني أكبر مستورد للأسلحة في العالم في الفترة 1998-2017.
ورغم هذه الأرقام فإن الجيش السعودي لا يعتبر من الجيوش العشرة الأوائل حتى من حيث القوة العسكرية، هو أمر سبق أن أشار إليه الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي عندما أطلق رؤية 2030، وكان من بينها إصلاح الجيش السعودي وتوطين الصناعات العسكرية.
لماذا لا يمثل تعدد مصادر تسليح السعودية ميزة؟
تستورد السعودية الأسلحة من 22 دولة تضم الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، فرنسا، إسبانيا، كندا، ألمانيا، إيطاليا، سويسرا، الصين، تركيا، بلجيكا.
ويعد تعدد مصادر التسليح السعودية بشكل مبالغ فيه إحدى النقاط التي تؤثر على كفاءة الجيش السعودي رغم نفقاته الضخمة.
ويقول أنتوني كوردسمان مؤلف كتاب "الأمن الوطني في المملكة العربية السعودية: التهديدات والاستجابات والتحديات" إن حجم مشتريات السلاح السعودية أكبر مما تستطيع السعودية استيعابه.
ويشير إلى تعدد مصادر التسليح بالشكل الذي يوجد بالقوات المسلحة السعودية ليس إيجابياً من الناحية الفنية، إذ إن اختلاف أنظمة التسليح يخلق مشاكل لوجستية خاصة فيما يتعلق بالتدريب والصيانة وقطع الغيار ومصادر التوريد.
ويؤكد الكتاب على حاجة السعودية إلى التركيز على تطوير قدرات الحرب المتعددة المتوفرة لديها بدلاً من شراء أسلحة جديدة.
لماذا تلجأ السعودية لشراء سلاح من دول مختلفة؟
رغم أن تنويع مصادر السلاح أمر مطلوب حتى لا يكون هناك اعتماد على طرف واحد.
إلا أن الأمر مختلف في السعودية، إذ إن هناك دوافع متعددة وراء تنوع مصادر التسليح السعودية إضافة إلى الدافع العسكري الفني.
من أبررز الدوافع قد يكون هاجس الأمن الذي يسيطر على المملكة وغيرها من دول الخليج التي تمتلك ثروات كبيرة وعدد سكان قليل بينما تحيطها دول أكبر سكاناً وأكثر فقراً مثل العراق وإيران واليمن ومصر وسوريا، إضافة إلى الدوافع السياسية.
دوافع شخصية ومالية
قد يكون هناك دوافع مالية وشخصية مرتبطة بشبهات فساد وراء بعض صفقات السعودية.
وتعد صفقة اليمامة الشهيرة مع بريطانيا والتي كلفت المملكة نحو 60 مليار دولار مثالاً واضحاً للصفقات التي تعقد لأسباب أبعد ما تكون عن العوامل العسكرية.
فالصفقة التي كانت محورها طائرات تورنادو (Panavia Tornado) التي لم يشترها أحد في العالم إلا السعودية والدول التي صنعتها أي بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، اختلط فيها العوامل السياسية مثل رغبة السعودية في تمتين تحالفها مع لندن بالفساد.
وكان الأمير بندر بن سلطان "هدفاً رئيسياً" لتحقيق من جانب وزارة العدل البريطانية، بعد أن كشفت صحفية الغارديان عن أنه تلقى أكثر من مليار جنيه إسترليني (نحو مليار و389 مليون دولار أمريكي) من المدفوعات السرية من شركة الأسلحة البريطانية (بي أيه إي) ضمن الصفقة.
العوامل السياسية والأمنية وراء صفقات السلاح السعودية
الأمن مقابل أموال السلاح
يأتي معظم السلاح الذي تستورده السعودية من الولايات المتحدة.
والسعودية في الوقت ذاته هي أكبر مشترٍ للأسلحة والمعدات الأمريكية، إضافة لاستمرار حاجة الرياض لمدربين ومستشارين عسكريين لبيان كيفية استخدام تلك الأسلحة والمعدات باهظة الثمن.
ووفقاً لتقرير خدمة أبحاث الكونغرس، أبرمت الولايات المتحدة والسعودية اتفاقيات بيع أسلحة بلغت 139 مليار دولار بين عامي 2009 و2016.
وحسب مسح لوكالة "الأناضول" استحوذت الولايات المتحدة على قرابة ثلاثة أرباع الأسلحة التي استوردتها السعودية خلال الفترة المذكورة، حيث بلغ نصيبها 13.01 مليار دولار، تمثل 73.5% من واردات السعودية من 2015 إلى 2019.
وتمثل صادرات السلاح واحدة من أواصر العلاقات السعودية الأمريكية، إذ تعد هذه الصادرات قناة تدفع عبرها السعودية بشكل غير مباشر تكاليف الحماية الأمريكية.
وتنطبق معادلة الأمن مقابل صفقات السلاح بصورة أقل على بريطانيا المصدر الثاني للسلاح للمملكة والتي تعود علاقتها بالرياض إلى فترة أقدم من علاقة واشنطن، بل إلى فترة ما قبل أن تصبح السعودية مملكة في الأصل.
وينطبق الأمر أيضاً على فرنسا المصدر الثالث للسلاح إلى السعودية التي تعتبر الدولة الأوروبية الدولة الأكثر نشاطاً فيما يتعلق بأمن الخليج.
أما باقي الدول الأوروبية فإن أهداف صفقات السلاح السعودية لا تتعلق بتوفير الحماية بقدر ما تأتي لأسباب أخرى.
الحصول على الحماية والنفوذ داخل حتى أعتى الديمقراطيات الغربية
بينما تمثل الضغوط الغربية دافعاً وراء إبرام العديد من صفقات السلاح الغربية، حسب أنتوني كوردسمان، فإن كثيراً من الصفقات تكون برغبة سعودية على الرغم من عدم الحاجة السعودية لها بشكل كبير عسكرياً.
إذ منحت صفقات السلاح السعودية قيادة المملكة نفوذاً كبيراً داخل أعتى الديمقراطيات الغربية طهر واضحاً في الخلاف الذي نشب بين فرنسا وبريطانيا عندما فرضت ألمانيا حظراً لتصدير السلاح إلى السعودية بسبب حرب اليمن، حيث انتقد باريس ولندن هذا الحظر لأنه يعيق مبيعات السلاح الذي يتم إنتاجه بشكل مشترك مع برلين للمملكة، وسرعان ما ظهر آثر نفوذ المملكة سريعاً بفك برلين للحظر الخاص على تصدير الأسلحة للرياض رغم عدم انتهاء حرب اليمن.
فحتى في ألمانيا، فإن أموال صفقات السلاح وما توفره من وظائف محفز لنقابات العمال للضغط على الحكومة لإتمامها رغم المحاذير الألمانية التقليدية.
وعلى الرغم من الضغط المتواصل من منظمات حقوقية في دول غربية عدة، لفرض حظر على بيع الأسلحة إلى المملكة بسبب الحرب في اليمن، فإن مليارات صفقات الأسلحة مع السعودية، حالت دون تنفيذ الحظر.
كما تمكنت السعودية عبر صفقات السلاح من التغلغل في المجمع الصناعي العسكري الأمريكي وتعزيز أصدقائها في أروقة السياسة والدفاع والشركات الأمريكية.
ووفرت هذه الصفقات الحماية للسعودية من المساءلة عن المآسي التي تسببت فيها حرب اليمن.
وعندما طولب دونالد ترامب بحظر تصدير السلاح إلى السعودية، أجاب إنهم "يشترون الكثير منا، اشتروا بقيمة 450 مليار دولار، لدينا أشخاص يريدون مقاطعة السعودية!، وأنا لا أريد خسارتهم وخسارة أموالهم، وعسكرياً نحن ندعم استقرارهم".
إرضاء بعض الأصدقاء الغربيين
يمثل إرضاء حكام أو سياسيين حلفاء للمملكة في الغرب دافعاً مهماً للسعودية لإبرام صفقات سلاح.
وتظهر الصفقات التي أبرمتها المملكة مع ترامب نموذجاً واضحاً، تحدث عنه ترامب نفسه، علماً أن هذه الصفقات جاءت بعد صفقة عملاقة أبرمتها المملكة مع أوباما، وجاءت في وقت بدأت تتراجع فيه أسعار النفط.
واختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، السعودية كأول دولة يزورها مُنذ وصوله إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني 2017، وقّع خلالها صفقة بقيمة 100 مليار دولار مقابل صفقة سلاح وخدمات دفاعية، وثانية بقيمة تصل إلى 370 مليار دولار خلال 10 سنوات قادمة.
وهي صفقات غير مسبوقة من حيث الحجم إلا أن أغلبها في شكل مذكرات تفاهم ومن المستبعد إتمام بهذا الحجم في ظل أوضاع السعودية المالية الحالية.
نقل التكنولوجيا.. هدف جديد
لم يكن الحصول على التكنولوجيا يمثلاً مطلباً كبيراً لصفقات السلاح السعودية في السابق.
ولكن مع تولي الأمير محمد بن سلمان المسؤولية تصاعدت أهمية هذا المطلب في الأجندة السعودية، رغم أنه لا يعرف مدى ترجمته للواقع.
ولكن في الصفقات التي أبرمت مع ترامب قيل إنها تتضمن جزءاً صغيراً سيصنع في السعودية.
كما تسعى السعودية إلى إبرام صفقات تسلح مع كبريات شركات إنتاج السلاح في جنوب إفريقيا وحتى شراء حصص في شركة "دينيل" الدفاعية الحكومية، وأيضاً استيراد تكنولوجيا الدفاع لتوطين الصناعات العسكرية المحلية في المملكة، بحسب ما أعلنت الشركة السعودية للصناعات العسكرية.
إنشاء تحالفات سياسية جديدة
تعد صفقات السلاح وسيلة أساسية في يد السعودية لنسج تحالفات أو على الأقل شبكة علاقات جديدة.
وبدا هذا واضحاً في إعلان السعودية عزمها شراء صواريخ إس 400 الشهيرة من روسيا وهو الإعلان الذي تزامن مع تحسن العلاقات السعودية الروسية خاصة في ظل الحملة التي تعرض لها الأمير محمد بن سلمان بسبب اغتيال خاشقجي.
وكانت هذه الصفقة بمثابة عربون للصداقة الناشئة بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأمير محمد بن سلمان.
ولكن يبدو أن هذه الصفقة لن تتم، ليس فقط بسبب الخلاف بين الرجلين حول حصص تخفيض إنتاج النفط، ولكن بالأكثر بسبب القيود الأمريكية التي ازدادت تشدداً على الدول التي تستورد السلاح من روسيا.
هل تستطيع السعودية الاستمرار في استخدام صفقات السلاح كأداة سياسية؟
يدعو أنتوني كوردسمان، إلى أن تقلل الرياض الاعتبارات السياسية في صفقات السلاح لصالح الاعتبارات الفنية والعسكرية.
ويقول إن المملكة العربية السعودية لديها الآن متطلبات أقل للسلاح، ويجب أن يكون ذلك حافزاً لتكون قاسية في الضغط على الدول والشركات المصنعة للحصول على أفضل الشروط الممكنة خاصة في تدهور ماليتها العامة.
وتجاوزت مخصصات الإنفاق العسكري السعودي منذ 2016 حتى 2020، نحو 273 مليار دولار، ومثلت تلك النفقات 20.9% من الإنفاق الحكومي إجمالاً.
وأصبح القطاع العسكري يستقطع أكثر من خُمس ميزانية البلاد، بعدما تجاوز قطاعي التعليم والصحة جراء حرب اليمن، وفي المقابل فإن جدوى هذه النفقات مشكوك فيه كما تظهر الحرب التي أخفقت فيها المملكة في تحقيق أي من أهدافها بعد مرور نحو خمس سنوات.
ويشكل استمرار السعودية في استخدام صفقات السلاح وسيلة للنفوذ السياسي عبئاً على الاقتصاد مع تفاقم الأزمة المالية جراء تدهور أسعار النفط.
ولكن المشكلة التي تواجه المملكة أن سياستها الخارجية الهجومية والسمعة السيئة التي اكتسبتها في الغرب جراء عوامل عديدة أبرزها حرب اليمن، واغتيال خاشقجي، تجعل الصفقات المليارية الوسيلة الرئيسية للحفاظ على النفوذ والحماية من المساءلة في مواجهة تزايد الانتقادات للمملكة في الدوائر الحقوقية والسياسية الغربية.
ففي مواجهة نقمة الأوساط الحقوقية والتيارات الليبرالية واليسارية على المملكة، فإنها أحوج ما تكون لحماية لوبيات صناعة السلاح، ونقابات العمال اللاهثة وراء العقود المليارية التي لم تعد ميزانية المملكة قادرة على تحملها.