سقوط قاعدة الوطية الليبية في أيدي حكومة الوفاق المعترف بها دولياً وهروب الميليشيات التابعة للواء المنشق خليفة حفتر كشف عن ملامح منافسة عسكرية مكتومة بين تركيا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى، وهي ليست ساحة المعركة الأولى التي يخرج فيها السلاح التركي منتصراً، فما قصة هذا الصراع؟
ماذا حدث في معركة إدلب؟
ملامح القصة بدأت في معركة إدلب السورية التي شهدت تقدم الميليشيات التابعة للنظام السوري مدعومة بسلاح الجو الروسي على الرغم من اتفاق سوتشي الذي وقعته تركيا وروسيا وإيران بشأن المنطقة الواقعة على الحدود التركية-السورية ووجود نقاط مراقبة تركية، طبقاً لبنود الاتفاق.
شهدت تلك المعركة تحولاً لافتاً على الأرض منذ نهايات فبراير/شباط الماضي، مع انتهاء المهلة التي حددها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لميليشيات الأسد المدعومة روسيا للانسحاب إلى خطوط التماس المتفق عليها في سوتشي، وبعد أن تعرضت القوات التركية لفقدان 33 عسكرياً.
في ذلك الوقت، نشر موقع وكالة بلومبيرغ الأمريكية تقريراً تحدث عن التحول الكبير الذي أحدثته "المسيرات التركية" في المواجهات الدائرة في إدلب، وخص التقرير المسيرة العسكرية (الدرون) "بيرقدار تي بي2" التي تنتجها شركة بيكار التركية التي سمّاها التقرير "الدرون القاتلة".
ونقلاً عن مسؤول تركي، تحدث تقرير بلومبيرغ عن أن "انتقام تركيا لمقتل 33 من جنودها جاء على شكل خطة منسقة من العمليات بالطائرات المسيرة سيطرت من خلالها لأول مرة على الأجواء فوق إدلب"، مضيفاً أن المسيرات وجهت ضربات دقيقة للقواعد العسكرية ومراكز الحرب الكيماوية لميليشيات الأسد، لكن الأهم هو تحديد أماكن الدفاعات الجوية الروسية وتدميرها، وهو ما أثار تساؤلات حول فاعلية تلك الأنظمة التي نشرتها روسيا لحماية تقدم ميليشيات الأسد في مواجهة المسيرات العسكرية تركية الصنع.
المسيرات التركية قلبت الموازين
في ذلك الوقت كانت الحرب الكلامية مشتعلة بين تركيا وروسيا وكانت هناك تحضيرات للقاء يجمع أردوغان بنظيره الروسي فلاديمير بوتين للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في إدلب، وكان واضحاً أن بوتين يريد أن يفرض أمراً واقعاً بقوة السلاح يسيطر بموجبه حليفه بشار الأسد على إدلب بالكامل، لكن المسيرات التركية كانت سلاح أردوغان الذي ربما لم يتوقعه بوتين.
تقرير بلومبيرغ أشار إلى استقبال تركيا منذ فترة طويلة لمناورات عسكرية لحلف الناتو باسم "مناورة نسر الأناضول" كان يتم فيها التدريب على ضرب أنظمة الدفاع الروسية، وهو ما تم تنفيذه على الأرض في معركة إدلب بنجاح حقق هدفين رئيسيين؛ الأول هو منع نظام بشار الأسد من فرض سيطرته على إدلب بالكامل ومن ثم تعرض أنقرة لموجة جديدة من اللاجئين.
أما الهدف الثاني فهو حرص تركيا على إظهار قدراتها الجوية وترسانتها من المسيرات العسكرية محلية الصنع، وهو ما يشير إليه بوضوح قيام وزارة الدفاع التركية بنشر سلسلة من لقطات الفيديو عبر تويتر تظهر النتائج التي حققتها تلك المسيرات على الأرض، وهو ما جعل الدرون "بيرقدار بي تي2" أصبحت الأكثر شهرة في المنطقة منذ معركة إدلب.
مواجهة أخرى في ليبيا
والآن تكررت المواجهة مرة أخرى على الأراضي الليبية وجاءت النتيجة أيضاً لصالح السلاح التركي على حساب السلاح الروسي.
منذ أكثر من 13 شهراً، أقدم خليفة حفتر، قائد ميليشيات شرق ليبيا أو كما يسمي نفسه "قائد الجيش الوطني الليبي"، بهجوم مفاجئ على العاصمة طرابلس مقر حكومة الوفاق الشرعية والمعترف بها دولياً، بدعم معلن من الإمارات العربية المتحدة ومصر وفرنسا، بهدف الانقلاب على الحكومة المنتخبة وفرض نظام عسكري شمولي يحقق مصالح داعميه الرئيسيين.
ووقتها كان واضحاً أن الكفة تميل بشدة من الناحية العسكرية لصالح حفتر، وبطلب مباشر من ولي عهد أبوظبي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب أجرى الأخير اتصالاً "غريباً" بحفتر أثار حفيظة كثير من المسؤولين الأمريكيين أنفسهم، وبدا كما لو أن استيلاء حفتر على طرابلس مسألة أيام فقط، لكن مع مرور الوقت وفشل حفتر وميليشياته في اقتحام طرابلس، بدأت الأمور تراوح مكانها وبدأ الحديث عن ضرورة التوصل لحل دبلوماسي للصراع في ليبيا.
ومرة أخرى دخل بوتين على الخط وقدم دعماً عسكرياً لحفتر ساهم في تحقيق ميليشيات شرق ليبيا انتصارات في ضواحي طرابلس وأيضا مرة أخرى بدا أن روسيا قد أوشكت على حسم الأمور لصالحها في ليبيا سعياً لاستعادة نفوذها الذي فقدتها بسقوط نظام القذافي، لكن ما لم يحسب بوتين حسابه هو أن تركيا أيضاً طرف في الصراع حيث تدعم حكومة الوفاق ولها استثمارات ومصالح من خلال الاتفاقيات الموقعة مع حكومة ليبيا برئاسة فايز السراج.
دخول روسيا إلى حلبة الصراع من خلال مرتزقة مجموعة فاغنر التابعين للكرملين قابله زيادة تركيا لتواجدها العسكري دعماً لحكومة الوفاق، وهكذا تكرر الموقف وأصبح السلاح التركي في مواجهة مباشرة مع نظيره الروسي، سواء ذلك الذي تستخدمه ميليشيات فاغنر أو ذلك الذي تشتريه الإمارات وتمد به ميليشيات حفتر.
"البيرقدار" تنتصر مرة أخرى
يأتي في هذا السياق سيطرة قوات حكومة الوفاق على قاعدة الوطية الجوية الواقعة على بعد 125 كيلومتراً من العاصمة، وهي أهم موطئ قدم استراتيجي لقوات حفتر في غرب ليبيا، وهذا الانتصار هو أهم تقدم تحققه القوات الحكومية في ليبيا منذ بدء حفتر عدوانه على طرابلس قبل أكثر من 13 شهراً.
وبحسب تقرير لرويترز، بثت حكومة الوفاق لقطات على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر قواتها في سيارات على مدارج في القاعدة، ونشرت القوات صورة لمنظومة بانتسير وهي نظام دفاع جوي روسي الصنع محمول على شاحنة بالقاعدة وكتيب تشغيل باللغة العربية، كما أظهر مقطع مصور آخر تدمير نظام بانتسير آخر من الجو أثناء نقله على طريق في الساعات الأولى من صباح أمس الإثنين 18 مايو/أيار.
موقع المونيتور الأمريكي نشر تقريراً حول سقوط قاعدة الوطية ركز على دور المسيرات التركية في تحويل دفة الصراع بصورة لافتة لصالح حكومة الوفاق، وركز التقرير بشكل خاص على الدور الذي لعبه الدعم الروسي العسكري لحفتر منذ نهاية مارس/آذار الماضي، والذي مكن ميليشيات حفتر من تحقيق تقدم على الأرض، ووصل الأمر إلى إعلان حفتر نفسه ما سماها "ساعة الصفر" وبدا أن سقوط طرابلس أصبح قاب قوسين أو أدنى.
لكن الأمور انقلبت رأساً على عقب منذ بداية مايو/أيار الجاري، حيث شنت قوات الوفاق أكثر من 57 غارة جوية مكثفة باستخدام درونات بيرقدار بي تي2 التركية على قاعدة الوطية وتمركزات ميليشيات حفتر في مدينة ترهونة القريبة من طرابلس، وهو ما أدى لسقوط القاعدة بعد أن فرت منها ميليشيات حفتر عقب فشل أنظمة الدفاع الجوي روسية الصنع من التصدي للدرون العسكرية تركية الصنع.
سقوط قاعدة الوطية، بحسب المراقبين، ربما يكون قد أصاب طموحات حفتر وداعميه (الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا) في مقتل، بعد أن أصبح واضحاً للجميع أن رؤية تركيا المتمثلة في الوقوف في صف الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً في ليبيا ليس مجرد تصريحات سياسية بل استراتيجية تدعمها قوة عسكرية محلية الصنع، مما جعل المراقبين يتوقعون "انتصار أصدقاء تركيا".
ووجهت أنقرة اتهامات علنية لداعمي حفتر بأنهم "يضحون بالطموحات الديمقراطية للشعوب لصالح العدوان السافر للديكتاتوريات العسكرية"، واختصت تركيا فرنسا "لمحاولتها فرض نمط المحور الخبيث" رداً على إفشال أنقرة خطط فرنسا "إقامة ولاية إرهابية في سوريا" – في إشارة للدعم الفرنسي للأكراد في شمال سوريا، وكان وزير الخارجية التركي قد شن هجوماً لاذعاً على أبوظبي متهما إياها "بنشر الفوضى في المنطقة" ليس فقط عن طريق دعم حفتر ولكن أيضاً "لدعمها منظمة الشباب الإرهابية في الصومال وسعيها لتقسيم اليمن".
توظيف السلاح لأغراض سياسية
اللافت هنا أنه على الرغم من أن المواجهة العسكرية على الأرض تعتبر اشتباكاً مباشراً بين السلاح التركي والسلاح الروسي، سواء في إدلب أو في ليبيا، لكن أنقرة لم توجه اتهامات علنية إلى موسكو فيما يخص الصراع في ليبيا كما لم تصل الأمور إلى حد الحرب بين الطرفين في سوريا أيضاً.
ففي معركة إدلب، دخلت البيرقدار بي تي2 إلى ساحة المعركة قبل أيام فقط من اللقاء بين أردوغان وبوتين للتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار بين النظام السوري المدعوم روسيا وقوات المعارضة المدعومة تركيا، وهو ما يشير إلى توظيف السلاح لتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وبالتالي لم يذهب أردوغان إلى لقاء بوتين إلا بعد أن أثبت السلاح التركي فاعليته وقدرته على تغيير دفة الأمور على الأرض.
أما في ليبيا فالأوضاع مختلفة قليلاً، حيث إن تدخل بوتين لصالح حفتر جاء في وقت متأخر نسبياً بعد أن لجأت إليه الإمارات ومصر بهدف مساعدة رجُلهما على دخول طرابلس بعد الفشل في ذلك لشهور طويلة، ومن ثم ظهر مرتزقة فاغنر على الساحة الليبية قبل بضعة أشهر وتمكنت بالفعل من مساعدة ميليشيات حفتر، وهو ما جعل تركيا تكثف من دعمها وترسل سلاحها القوي وتحسم الأمور ولو مؤقتاً لصالح حكومة الوفاق.
وبالتالي لا توجد حرب كلامية بين روسيا وتركيا فيما يخص ليبيا، خصوصاً أن حكومة الوفاق كانت قد وافقت بالفعل على وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه موسكو قبل أشهر وانسحب منه حفتر، ويأتي في هذا السياق ما ذكره الكرملين في بيان أمس الإثنين – بعد سقوط قاعدة الوطية في أيدي حكومة الوفاق – من أن أردوغان وبوتين قد تحدثا هاتفياً، وشددا على ضرورة وقف إطلاق النار واستئناف الحوار بين الليبيين، وهو ما تريده حكومة الوفاق وأنقرة منذ البداية.