عندما انتهت المجزرة، وسُكِنت الجثث أكياساً ووضعت الأسلحة جانباً، كانت ما خلفته وراءها يجسّد بوضوح حجم المأساة الحقيقي: 18 رضيعاً حديث الولادة، كثير منهم مغطون بالدماء وأصبحوا الآن بلا أمهات، لقد أضحوا من خسائر الحرب قبل حتى أن يغادروا المستشفى حيث أتوا إلى الحياة.
فحتى بالنسبة لبلدٍ يشهد الموت باستمرار لدرجة الخدِر، كان الهجوم على مستشفى إنجاب في كابول يوم الثلاثاء 12 مايو/أيار لا يمكن استيعاب قسوته. لكن المشكلة الآن هي ما عساك فعله بهذا العدد الكبير من الرُّضع، متماثلي الشكل والوجوه التي لم تتضح معالمها بعد، وأغلبهم أضحوا حالياً دون ذويهم الأقربين ويجري إجلاؤهم من مستشفى مُدمر، كما تقول صحيفة The New York Times الأمريكية.
جهود موجِعة للتعرف على الرُّضع
كان أكبرهم ويبلغ من العمر خمسة أيام، وأصغرهم الذي ولِد في غرفة آمنة بعد بدء الهجوم على المستشفى، محظوظين؛ فقد نجت والداتهما من الهجوم. وكثير من بقية الرُّضع الباقين أكملوا بالكاد يومهم الأول في هذا العالم العنيف، وقُتلت أمهاتهم إلى جوارهم.
لم توقع الولايات المتحدة وحركة طالبان اتفاق سلام إلا في فبراير/شباط الماضي، وهو الاتفاق الذي كان يُتوقع أن يقلل إراقة الدماء ويجلب الأمل لأطفال مثل أولئك بأن الحرب التي استمرت أربعة عقود قد تنتهي بصورة أو أخرى. لكن الاتفاق يبدو عالقاً بسبب بند لتبادل الأسرى يسير ببطء للغاية، فيما شن المتمردون هجمات في أنحاء البلد، قاتلين العشرات يومياً.
بدأت الجهود الموجِعة للتعرف على الرُّضع في عيادة الإنجاب وإعادة لمّ شملهم بعائلاتهم في الساعات التي تلت الهجوم على الفور، قبل حتى أن تغادر القوات الخاصة موقع الهجوم.
تجمع عشرات الرجال فيما خرج الشيخ المحلي من المستشفى وكانت الدماء ما زالت تغطي ثيابه حاملاً قائمة بأسماء الأمهات. لكن الرُّضع أنفسهم لم يكونوا مُنِحوا أسماءً بعد.
في أفغانستان، وهي مجتمع محافظ يهيمن عليه الذكور، يعتبر الرجال أن ذكر أسماء زوجاتهم علناً أمراً مهيناً. وقلما تتخذ النساء قرارات قانونية بشأن طفلها في غياب الرجل. لكن الآن، ولأول مرة، أصغى الرجال في الجمع خارج المستشفى باهتمام شديد فيما كان يجري التعرف على الرُّضع بواسطة أسماء أمهاتهم.
صاح الشيخ: "بنت ثريا!"، وتابع: "بنت ثريا، في صحة جيدة، لقد ساعدت بنفسي في وضعها بعربة الإسعاف". وعاد ليصيح مجدداً قائلاً: "ابن جول مكاي، أُجلي إلى مستشفى أتاتورك".
معاناة مضاعفة
في مستشفى أتاتورك صبيحة اليوم التالي، كان الطفلان يقبعان في حاضنات إلى جوار بعضهما البعض في جناح نُقِل إليه الثمانية عشر رضيعاً. لكن ثريا إبراهيم كانت قد توفيت ودُفنت. أما جول مكاي فكانت إلى جوار طفلها تعرج بسبب جرح في الساق.
كانت هذه الرضيعة خامس أطفال ثريا إبراهيم ذات الواحد والثلاثين عاماً. وقالت واحدة من أقرباء ثريا تمكنت من العثور على الرضيعة إن ثريا كانت ضابطة في الجيش لعدة سنوات. تُظهر بطاقة التعريف العسكرية لثريا أنها كانت جراحة في مقرات وزارة الدفاع، فقد كانت جزءاً من كتيبة توفر الأمن والدعم لمقرات الوزارة.
أما جول مكاي فهي ربة منزل في الخامسة والثلاثين من عمرها، متزوجة من سائق سيارة أجرة. وُلِد ابنها السابع بمشكلات في التنفس لذا كان عليهم البقاء في المستشفى 5 أيام بعد الولادة.
وقالت جول مكاي إنه عند بدء الهجوم واجهت هي والأمّان الأخريان الموجودتان معها في الغرفة معضلة: هل يحاولن الهرب ويتركن أطفالهن خلفهن أم يجب عليهن البقاء؟
كانت جميع النساء بمفردهن كلياً دون أيٍّ من أفراد أسرهن إلى جوارهن. إذ إن انتشار فيروس كورونا أجبر المستشفى على منع الجميع وحتى الأزواج من مرافقة زوجاتهم، وفقاً لزهراء جعفري التي تعمل قابلةً في المستشفى.
قالت جول مكاي إن الأمين الأخريين بقيتا، وعلى الأرجح لقيتا حتفيهما؛ لأنها لم ترهما بعد. أما جول مكاي التي تركت خلفها رضيعها، فقد هرعت إلى الرواق، وجرى إخلاؤها من المستشفى عبر باب خلفي.
وعندما أصبحت في الشارع، لم تعرف ماذا تفعل؛ فلم يكن لديها هاتف ولم تعرف أيَّ أرقام هواتف لمن تعرفهم. وخارج بوابة أخرى على الجانب الآخر من المستشفى، كان يقف زوجها عزيز الله، حاملاً ملابس نظيفة كان في طريقه لإعطائها لها عندما بدأ الهجوم.
أوقفت جول مكاي دراجة نارية، وأخبرت سائقها بما حدث وترجّته أن يوصلها إلى منزلها. وبعدما وصلت هاتفت عزيز الله لتخبره بأنها بأمان.
لكنها لم تكن تعرف مصير طفلها
لكن عندما أعلن الشيخ خارج المستشفى أن ابن جول مكاي أُخذ إلى مستشفى أتاتورك، سارع عزيز الله إلى هناك وهاتف زوجته لتأتي للتعرف على الطفل.
في صبيحة يوم الأربعاء خارج الجناح حيث الرُّضع، كان عزيز الله يسير ذهاباً وإياباً هو والآباء والأجداد والأعمام والعمات الآخرون. فقد أحضروا الوثائق المطلوبة لاصطحاب مواليدهم.
لكن الأطباء والمسؤولين من وزارة الصحة كانوا في اجتماعات. مرّت ساعة واثنتان وثلاثة، وبدأ الوقت يمر، وبدأ أفراد الأسر المنتظرون، الذين أتوا للتوّ من دفن الأمهات القتلى، في الشعور بالضيق والإحباط. واستمر الأطباء في قول إنهم ينتظرون وصلوا ملفات المواليد من أنقاض المستشفى الآخر، للتأكد من عدم حدوث أي خطأ.
لم يكن الركض من باب إلى آخر أملاً في انتهاء الاجتماعات هو فقط ما يدفع أفراد العائلات لفقدان عقلهم. كان السبب أيضاً هو جموع الغرباء، من الرجال والنساء، الذين وصلوا إلى المستشفى.
وبعضهم أتى لمؤازرة المتضررين. وكان من بينهم امرأتان إحداهما طبيبة والأخرى موظفة بمنظمة تنموية، أتيتا الليلة الماضية لإرضاع المواليد.
لكن كان هناك عشرات النساء الأخريات اللاتي أتين لهدف مختلف: التبني. ففي مشهد غريب وبائس، ظلت تلك النساء يتجولن في أرجاء المستشفى متسائلات عما إذا كان أحد يرغب في إعطائهن وليداً!